إيف بونفوا جعل الشعر مغامرة الروح والفن الأكثر نُبلاً


*عبد اللطيف الوراري


لا نغالي إذا قلنا إن الشاعر إيف بونفوا كان يجسد في حياته عمر الشعر الفرنسي خلال العقود الستة الأخيرة، ويختصر تاريخه الحافل الذي جرى تحت جسره الكثير من موجات الحداثة والتغيير، التي نفضت الغبار عن أسئلة منسية وابتدعت أسئلة جديدة شملت أوجه الفكر والإبداع في أكثرها. وقد مات بونفوا، وانتهت معه مرحلة ذهبية من سجل الحداثة الشعرية في فرنسا وفي كل أوروبا. 
فارق إيف بونفوا (1923-2016) الحياة عن عمر يناهر الثالثة والتسعين يوم الجمعة الماضي، حسبما أخبر به الكوليج دو فرانس، حيث كان يعمل أستاذاً شرفيّاً. وما أن علم أصدقاؤه وقراؤه بخبر نعيه حتى أشادوا بقيمته واستشهدوا بأبيات من شعره على مواقع التواصل الاجتماعي. 
ولد في 24 يونيو/حزيران 1923 في تور- وسط غرب فرنسا، من أب كان يعمل في مصلحة السكك الحديدية وأم ممرضة فمعلمة. درس الرياضيات وتاريخ الفلسفة والعلوم، وانضمّ إلى السريالية، ثم سرعان ما انفصل عنها، منكبّاً على طريقه الخاص في الكتابة. وقد فرض بونفوا اسمه بوصفه شاعراً منفرداً بأسلوبه ولغته التي عمل عليها منذ نهاية الحقبة السريالية الفرنسية. فقد أصدر في سن الثلاثين ديوانه «عن حركة دوف وسكونه» الذي جرى بخلاف تيار العصر، إذ مزج فيه بين التجريد والبحث الداخلي، ثم توالت أعماله الشعرية التي أقام عبرها وشيجة دقيقة ولمّاحة بين الشعر والتأمل، فكان شعره ميداناً مميّزاً لإعادة اكتشاف الروح بلغة تسعى إلى كشف الحقيقة بأقلّ قدر من الغموض، والبحث من جديد عن التماس مع ما هو آني في الحياة. وهذا ما يفسر انجذابه إلى الرسم والمنظور، بحيث تساهم العلاقات بين الأصوات والإيقاعات في التقريب بين الكلمات بكيفية أخاذة تحافظ على صفتها المادية. وكما قال جون ستاروبنسكي في تقديم أعمال إيف بونفوا: «يشير العمل الشعري في هذا إلى هاجسه الأصلي إلى مكان انبجاسه الذي هو لحظة الخطر، حيث يتأرجح كل شيء بين الحياة والموت، وبين الخلاص والهلاك».
مهمة الشاعر
لقد عكس بونفوا في شعره وكتاباته تجربة ذات بعد إنساني أكثر عُمْقاً؛ إذ جعل محورها مغامرة الروح وبحث اللامرئي، في الذهاب- الإياب بين القول الشعري والتأمل النظري، فبقيت رؤيته الشعرية وثيقه الصلة بأشياء الحياة البسيطة، حيث يغدو فضاء انبجاس الشعر فضاء يتجدد فيه الواقع عبر كيمياء الكلمات. ولهذا، اشتغل باقتدار مدهش على اللغة كمادة لا تقف عند الانبهار باللامرئي، بل تتلبسها دينامية الحسي كما تتجلى في بساطة الأشياء وبعدها الآني والدائم، وتسندها قيمة الصورة في موطن تخيُّلها الأولي. 
وفي قلب هذه التجربة، كان بونفوا أكثر الشعراء من مُجايليه ومن أتى بعدهم عنايةً بحضور الكلام وإعادة تسمية الكلمات باستمرار. ولما سئل بهذه الخصوص: قال: «علينا أن نعيد للكلمات ـ التي تُستعمل اليوم فقط لإنتاج الدلالة وسنّ القوانين وترتيب الأحداث- كاملَ قدرتها على التسمية. أن نعمل لا على حصر كلمة «شجر» مثلاً في معناها القاموسي، بل أن نجعلها تُذكّرنا بحفيف كل أوراق شجرات كبيرة، شجرات نابتة في طريق من طرق حياتنا الأشدّ حميمية. إنّ هذا أساساً ما يقوم به الشعر، وأنا لا أسعى إلى تعريف القصيدة إلا بهذا المشروع، أي بهذه المهمّة. إنّها فعلاً تفسر تدريجيّاً كل ملامح التجربة الشعرية، انطلاقاً مما يميزها أكثر، بل حتى من وظيفتها في المجتمع وإسهامها في التفكير السياسي. ولا أخفيك أن هذا النوع من المهمات هو، بالنسبة إليّ، ما أردتُ دوماً النهوض به خلف غاياتٍ مطلوبة أحياناً بصورة مستعجلة أكثر».
وبسبب إخلاص بونفوا لنداء الشعر ومعرفته، فقد مارسه عن اقتدار ونزعة تجديدية، ودرسه في علاقاته البلورية بالفنون الجميلة مثل المسرح والنحت والمعمار والرسم والموسيقى كما يظهر من عناوين كتبه ومقالاته النقدية. كما عُرف بميله إلى الترجمة، فنقل إلى لغة موليير مسرحيات وليام شكسبير وقصائد ييتس جون دون وبطرارك وجورج سيفريس وقصائد الهايكو. عدا أنه اهتم بتاريخ الفن الحديث، فكتب عن رسامي العصر بابلو بيكاسو وألبرتو جياكوميتي وبيت موندريان وغيرهم، وأنجز بحوثاً حول الرسومات الجدارية في تاريخ فرنسا القوطية. 
وهكذا ألف بونفوا أكثر من مئة كتاب كان آخرها «الوشاح الأحمر» (2016)، وقد ترجمت في مجموعها إلى ثلاثين لغة. وحاز جوائز شعرية عديدة، من بينها: جائزة الشعر الكبرى من الأكاديمية الفرنسية عام 1981، وجائزة الغونكور للشعر عام 1987، وجائزة سينو ديل دوكا العالمية عام 1995، وجائزة فرانز كافكا عام 2007. كما ترشح لجائزة نوبل أكثر من مرة، ومنح الدكتوراه الفخرية من جامعات أوروبية وأمريكية.
وتعرف القارئ العربي إلى أشعار إيف بونفوا وآرائه في الشعر من خلال ترجمات متتالية لكل من أدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي، وبول شاوول، وعيسى مخلوف، ومحمد لطفي اليوسفي، وخالد النجار، ومحمد بن صالح، وحسونة المصباحي. وكان آخر ترجمة لشعره أنجزها كل من أسماء خلا ورشيد خالص تحت عنوان: «فليبق هذا العالم!» عام 2014، بمناسبة فوزه بجائزة الأركانة العالمية للشعر التي يمنحها بيت الشعر في المغرب. ومنها نقتطف هذا المقطع من قصيدة «الوشاح الأحمر»:
«في أعالي البحار يرتفع رواق في السماء.
وراءه، الشمس. قائدُ
سفينة الشحن القديمة يُقِلّ مسافراً. 
الكوّة مفتوحة، الأمواج قريبة.
ماذا يفعل؟ وقف، رمى
شيئاً ثم أشياء أخرى عبر الكوة.
قال لي: لماذا هذا الوشاح إذن،
أهدانيه أبي عند رحيلي
في أول سفر من بين أسفار دون جدوى.
أحببته، بدا لي أنّه يقول ذلك،
واحتفظتُ به ليوم موتي هذا.»
بيبيوغرافيا:
1- أشعاره:
ضد أفلاطون (1947)
عن حركة دوف وسكونها (1953)
أمس إذ سادت الصحراء (1958)
حجر مكتوب (1965)
في إغراء العتبة (1975)
قصائد (1978)
هنا حيث يسقط السهم ثانية (1986)
محكيات في حلم (1987)
بداية الثلج ونهايته (1995)
مطر الصيف (1999)
مسرح الأطفال (2001)
الفضاء العظيم (2007)
الساعة الحاضرة (2011)
الوشاح الأحمر (2016)
2ـ أبحاثه ومقالاته:
الرسومات الجدارية لفرنسا القوطية (1954)
آرثور رامبو (1954)
روما 1630: أفق الباروك الأول (1970)
ثلاث ملاحظات حول اللون (1977)
حوارات حول الشعر (1980)
الحضور والصورة: درس الكوليج دو فرانس الافتتاحي (1983)
حقيقة الكلام (1988)
ألبرتو جياكوميتي: بيوغرافيا العمل (1991)
الرسم، اللون والضوء (1995)
المسرح والشعر: شكسبير وييتس (1998)
بودلير: إغواء النسيان (2000)
الشعر والمعمار (2001)
تحت أفق اللغة (2002)
الخيال الميتافيزيقي (2006)
حاجتنا إلى رامبو (2009)
الشعر بصوت عالٍ (2007)
القرن الذي ضحى بالكلام (2010)
الشعر والغنوص (2016)
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *