في الرحلة مع عدد من الكتاب والمبدعين العرب للتعرُّف على طقوسهم في الإبداع والكتابة والقراءة خلال شهر رمضان الكريم، نتوقف اليوم مع الروائية والأكاديمية السورية شهلا العجيلي التي تقيم في الأردن ويشدها حنين جارف لمسقط رأسها في مدينة الرقة شمالي سوريا.
تستعيد صاحبة “سماء قريبة من بيتنا” (2015) طفولتها الرمضانية في الحارة بقلب الرقة وما تحبل به من طقوس دامغة وحميمة في بيئة اجتماعية عريقة تقوم على التمسك بتقاليد الضيافة والجوار والتعايش.
وبعيدا عن مدينة الرقة وما نالها من دمار وتشويه ضمن المشهد السوري الدامي، تكتب شهلا العجيلي عن أيام صوم قضتها في ألمانيا وما أوحى به بيت الشاعر غوته من ألفة ثقافيّة عبر لوحات تستلهم روح الشرق وروح الإسلام تحديداً، وأثر ذلك في عمله الشعري الشهير “الديوان الشرقيّ”.
وفي ما يلي نص رد الكاتبة على أسئلة الجزيرة نت عن طقوسها في القراءة والكتابة وشجونها وحنينها في شهر رمضان:
للروائح ذاكرة تنشط على أشدّها في رمضان، حيث تتكاثف طقوس تمتاز بالفرادة، يوقظها في كلّ عام الحنين، لاسيّما حين يصاقب الشهر الفضيل أيّام الصيف، ذلك أنّ تجربتي الأولى في الصيام كانت في صيف قائظ تجاوزت حرارته الخمس والأربعين درجة، وكانت هناك في مدينتي (الرقّة) على شواطئ الفرات، حيث يلقي الأطفال أجسادهم العطشى في الماء منذ الظهيرة إلى ما قبل ساعة الإفطار.
يترافق رمضان مع كثير من التفاصيل النسويّة والطفوليّة، وقد كانت طفولتي الرمضانيّة غنيّة ومحبّبة، وتركت في نفسي أثراً دامغاً إلى درجة أنّني استعدتها في روايتين من رواياتي الثلاث، في “عين الهرّ” (2006) وفي “سماء قريبة من بيتنا”، إذ غالباً ما يكون للمناطق الصغيرة أو النائية طقوسها الدامغة والحميمة في المناسبات، لأنّها مجتمعات تقوم أصلاً على الحفاوة بالطقوس.
الصباحات الرمضانيّة تكون ثقيلة، ثمّ تخفّ مع العصر حيث يبدأ الإرسال التلفزيونيّ السوريّ قبل المعتاد، بصوت عبد الباسط عبد الصمد، وتبدأ معه كرنفالات المطبخ… نعيش في الرقّة داخل السور القديم، الذي يعود إلى العام 165 هـ-772 م، ضمن أحياء قوامها العائلة الممتدّة، لذلك تجد الشارع يتحوّل، قبل مدفع الإفطار، إلى ممرّ للأولاد الذين ترسلهم الأمّهات ليحملوا الأطباق إلى الأقارب والجيران، ولعلّ أشهرها “الجيكا” أو الكبّة النيّة، و”الرقاويّة” التي قدّمت وصفة صناعتها في “عين الهرّ”، تتناقلها الأيدي ملفوفة بأرغفة الخبز، وتعدّ أحد أشهر أنواع المقبّلات.
أذكر نصف الساعة الأخير قبل الإفطار، حيث نرتقي ظهر سيّارة والدي (الكامينو البيضاء) ذات الظهر المكشوف، باتجاه الجسر الجديد، الذي نال نصيبه من الدمار بسبب القصف والتفجير، لنشهد غياب شمس الرقّة في سرير الفرات، ونعود في الدقائق الأخيرة لنقف والجيران أمام الأبواب بانتظار الإشارة الأولى للإفطار، إذ تضيء قبل الأذان بلحظات مئذنة جامع حيّنا باللون الأخضر، ويبدأ الأطفال بحثّ المؤذّن:
– هيّا.. اصعد الدرجات، ضع يدك على أذنك، وكبّر…
مع قولة (الله أكبر)، يضرب المدفع، وتجتمع العائلة، وغالباً ما يكون معنا أقارب أو زائرون، فرمضان كريم، ومن فطّر صائماً نالَ أجره… وحينما ننتهي، تعلو التمجيدات في الجامع بصوت محبب، وأدعية عذبة، يرافقها نفح طيّب روحانيّ مع روائح العسليّة والياسمين والورد الجوريّ تهبّ من البيوت.
استعادة الطفولة
ننطلق بعدها إلى الحارة حيث يتناول الناس قهوتهم أمام الدور، إذ لم يكن هناك أيّ “كوفي شوب” أو متنزّه تعجّ فيه أدخنة الشيشة في مدينتنا الصغيرة، لكن كنّا نجتمع في الحارة، ويدير أحد الكبار الأحاجي والألغاز، أو نلعب اللعبة التي تسمّى “من غير كلام”… تصير الطقوس مؤلمة مع فقدان الأحبّة واحداً واحداً، وأوجع مع الحرب والشتات!
أحاول أن أعيد صياغة تجربة طفولتي، وأتقمّص شخصيّة أمّي، وأحكي لأولادي عن طقوسنا وألعابنا.. وأعمد إلى الأكلات والروائح ذاتها، ولا أفلح دائما، فأحوّل ذلك كلّه إلى عناصر جماليّة تتبدّى في الضوء والصوت والرائحة والذائقة، لأصنع ذاكرة، ذاكرة للكتابة وذاكرة للحياة التي تأبى إلاّ أن تأخذنا بعيداً عن الأهل والوطن، متّخذة من التغيّرات السياسية والدينية قناعاً تسويغيّاً نوهم ذواتنا بأنّه مؤقّت.
رمضاني هذا العام كان مختلفاً عن أيّ وقت مضى، فقد قضيت أياماً منه في ألمانيا، وليس سهلاً أن تصوم في أوروبا، فالشمس تغرب حوالي التاسعة والنصف! كنت في ضيافة الأكاديميّة البروتستانتيّة في هوفجايسمر، وهي بلدة تابعة لمدينة كاسل، مدينة الأخوين “غريم”، اللذين أنتجا الحكايات الألمانيّة العالميّة: بياض الثلج، وليلى والذئب، وسندريلا…
كان مطعم الفندق يغلق بابه في السابعة مساء، لكنّهم كانوا يتركون لي فطوري وسحوري. لقد اعتاد الألمان على ثقافة الآخر، وقد صادفت الكثير من المسلمين، من العرب وغيرهم، صائمين. حينما وصلت فرانكفورت وتوجّهت نحو بيت “غوته”، شعرت بألفة ثقافيّة في اللوحات التي تستلهم روح الشرق، وروح الإسلام تحديداً، واسترجعت أثره الشهير “الديوان الشرقيّ” الذي اقتفى فيه روح الإسلام الأصيلة قبل أن تُرزأ بالتشويه والادّعاء: “لله المشرق.. لله المغرب”…
ندوتي في هايدلبرج، المدينة التي تعدّ من أجمل مدن العالم، بدأت في السابعة والنصف مساء، وكانت بلدية هايدلبرج بالتعاون مع جمعية الفن والحضارة العربية قد أعدّت فطوراً للصائمين خلال الندوة… توقّفت عن الكلام وقت الإفطار، حيث حضر عرب ومسلمون كثر، وعدنا إلى الحديث عن الرواية والأدب، ونحن نتناول شاياً معطّراً على الطريقة العربيّة.
قراءاتي في هذا الرمضان لم تكن كثيفة كما كانت من قبل، ولعلّي في أيام طفولتي كنت أجعل من رمضان شهر القراءة: قصص وروايات تحديداً، فضلاً عن ختمة القرآن الكريم التي تعدّ تقليداً أصيلاً لدى معظم الصائمين.
هذه المرّة قرأت رواية صديقتي ميّ خالد “جيمنازيوم”، إذ بدأت بها في ألمانيا حيث كنّا معاً في هوفجايسمر، وقرأت “طرز الغرزة” المجموعة القصصيّة التي صدرت مؤخّراً للصديق المبدع المغربي أحمد المديني، وأقرأ الآن مسودّة رواية للروائي المصري الكبير إبراهيم عبد المجيد، لن أبوح بعنوانها الأخّاذ، لكن أقول إنّها ستكون مفاجأة للمتلقّين! رمضانكم مبارك، وكلّ عام وأنتم بخير.
___
*الجزيرة.نت