*محمد أيت حمو
تُعتبر المدرسة الاستشراقية من أكثر المدارس تحاملاً على التراث العربي الإسلامي عموماً، والفلسفي خصوصاً. فقد كان همّ هذه المدرسة في دراسة الفلسفة الإسلامية ينحصر في استخلاص العناصر الأجنبية فيها وردّها إلى مصادر غير إسلامية، ونزع المساهمة العربية الإسلامية في ميدان الفكر الإنساني.
وهكذا أصدر جماعة من المستشرقين – وليس كلهم – أحكاماً قاسية على الفلسفة الإسلامية وهي الأحكام التي تبلغ من الجور والتحيز والذاتية درجة سحب بساط الابتكارية من تحت أقدامها، كما هو لائح من حكم دي بور الذي يقول عنها: “ظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام فلسفة انتخابية عمادها الاقتباس ممّا ترجم من كتب الإغريق، ومجرى تاريخها أدنى أن يكون فهماً وتشرّباً لمعارف السابقين، لا ابتكاراً، ولم تتميز تميزاً يذكر عن الفلسفة التي سبقتها، لا بافتتاح مشكلات جديدة، ولا هي استقلت بجديد فيما حاولته من معالجة المسائل القديمة، فلا نجد لها في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن نسجلها له”[1].
فهذا المستشرق الهولندي المشهور يرى أنّه لا وجود لفلسفة إسلامية متميزة لها أركانها وكيانها وهويتها وأصالتها. “ونكاد لا نستطيع أن نقول إنّ هناك فلسفة إسلامية بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، ولكن كان في الإسلام رجال كثيرون لم يستطيعوا أن يردوا أنفسهم عن التفلسف، وهم، وإن اتشحوا برداء اليونان، فإنّ رداء اليونان لا يخفي ملامحهم الخاصة، ومن اليسير علينا أن نستهين بشأنهم إذا أطللنا عليهم من ذروة إحدى المدارس الفلسفية الحديثة المزهوة بفلسفتها، ولكن يحسن بنا أن نتعرفهم في بيئتهم التاريخية، ولندع الآن ردّ كل فكرة من أفكارهم إلى أصلها الذي انحدرت منه، تاركين هذا المبحث قائماً بذاته”[2].
ولا يخفى على القارئ الكريم مقدار ما في هذا الحكم من جور، وفي هذا القول من تطاول. ولا يتوانى دي بور من الرقص على أنغام بعض “أنصاف الفقهاء” المكفرين للفارابي، وهم الفقهاء الذين أعطى لنفسه الحق لنعتهم بالعلماء الحقيقيين، قائلاً: “أمّا علماء الإسلام الحقيقيون فقد رموه بالزندقة، فوسم بها إلى الأبد. وقد يكون لرأيهم هذا ما يؤيده”[3]. أمّا مذهب ابن رشد ففيه “ثلاثة آراء إلحادية كبيرة، تجعله مخالفاً لما أثبتته علوم العقائد في الديانات الثلاث الكبرى في عصره […] وأيّاً ما كان فابن رشد مفكر جريء منطقي لا اضطراب في تفكيره، وإن لم يكن مفكراً مبتكراً”[4]. فمتى كان الفقيه الذي زاده التكفير عالم الإسلام الحقيقي؟
وهكذا تغاضت المدرسة الاستشراقية في – بداياتها الأولى على الأقل – عمّا ينطوي عليه الفكر الفلسفي الإسلامي من عناصر إبداعية وتجديدية وقيمة مضافة إلى الفكر الإنساني، ولم تجد أدنى حرج في أن تشطب بشطحة قلمها نتاجاً فكرياً وفلسفياً إسلامياً خصباً.
ولا نبالغ إذا قلنا إنّ المدرسة الاستشراقية كانت حاضرة بقوة لدى مصطفى عبد الرازق الذي يميز بين صنفين من الباحثين في الفلسفة الإسلامية، جانبا الصواب معاً، وهما: فريق المستشرقين الذين يزنون الفلسفة الإسلامية بميزان النزعة المركزية، وفريق المؤلفين الإسلاميين الذين يزنون الفلسفة بميزان الدين. “وليس من همنا أن نتقصى ما قاله علماء الغرب في الفلسفة الإسلامية منذ العصور البعيدة، فإنّ ذلك على ما فيه من عسر قليل الغناء. لكنّنا نريد أن نتبع جملة نظر الغربيين إلى الفلسفة الإسلامية وحكمهم عليها منذ استقرت معالم النهضة الحديثة لتاريخ الفلسفة إلى أيامنا هذه”[5].
ويتعرض مصطفى عبد الرازق للعديد من الآراء والأحكام الاستشراقية الجائرة المضطربة والمشتطة في الفلسفة الإسلامية التي ألحقت بها حيفاً كبيراً، وفي مقدمتها قول المستشرق الألماني تنمان Tennemann (ت. 1819) الذي يجعل من القرآن الكريم وأهل السنّة والجماعة مشجباً يعلق عليه إعاقة النظر العقلي الحر ورقي الفلسفة الإسلامية لدى المسلمين الذين استبد أرسطو بعقولهم وغلب عليهم الإيمان الأعمى والتأثر بالأوهام وشرح المذهب الأرسطي وتشويهه[6].
وكذلك قول الباحث الفرنسي فيكتور كوزان Cousin (ت. 1847م) الذي لم يتردد في نعت المسيحية بأكمل الأديان وأتمّها وأنسخها وغايتها وخاتمتها. فهي دين إنساني واجتماعي أثمر الحريات والديمقراطيات والفلسفات الحديثة، بينما أثمرت الأديان الأخرى ـ وفي مقدمتها الدين الإسلامي ـ التخلف والاستبداد![7]. ولا يحيد المستشرق الفرنسي إرنست رينان Renan (ت. 1892) عن هذا الرأي في نظره إلى المسيحية والفلسفة. فالجنس السامي ـ خلافاً للجنس الآري المتفوق فلسفياً ـ لم يثمر فلسفة خاصة بحكم طبيعته السامية، التي جعلت الاقتباس والتقليد والتعريب أقصى ما بلغه ومنتهى ما وصله. وهذه الآراء، وغيرها كثير، مهلهلة وهشة، لا تصمد أمام النقد. “فهل يظن ظان أنّ عقلاً كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئاً طريفاً، وأنّه لم يكن إلا مقلداً لليونان؟ وهل مذاهب المعتزلة والأشعرية ليست ثماراً بديعة أنتجها الجنس العربي”[8]؟
ويجمل لنا مصطفى عبد الرازق هذه الآراء في القرن العشرين، ويعود “إلى تقرير موقف الفلسفة الإسلامية عند الغربيين في القرن العشرين، مستندين إلى أقوال المؤلفين المعاصرين، فنجمل هذا الموقف في الوجوه الآتية:
(أ) تلاشى القول إنّ الفلسفة العربية والإسلامية ليست إلا صورة مشوهة من مذهب أرسطو ومفسريه أو كاد يتلاشى، وأصبح في حكم المسلم أنّ للفلسفة الإسلامية كياناً خاصاً يميزها عن مذهب أرسطو ومذاهب مفسريه: فإنّ فيها عناصر مستمدة من مذاهب يونانية غير مذهب أرسطو، وفيها عناصر ليست يونانية من الآراء الهندية والفارسية…إلخ. ثم إنّ فيها ثمرات من عبقرية أهلها ظهرت في تأليف نسقي فلسفي قائم على أساس من مذهب أرسطو، مع تلافي ما في هذا المذهب من النقص باختيار آراء من مذاهب أخرى وبالتخريج والابتكار، وظهرت أيضاً في أبحاثهم في الصلة بين الدين والفلسفة.[…].
(ب) تلاشى القول إنّ الإسلام وكتابه المقدّس كانا بطبيعتهما سجناً لحرية العقل، وعقبة في سبيل نهوض الفلسفة أو كاد يتلاشى.[…]
(ت) أصبح لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية شاملاً، كما بيّن الأستاذ هورتن، لما يسمى فلسفة أو حكمة ولمباحث علم الكلام، وقد اشتد الميل إلى اعتبار التصوف أيضاً من شعب هذه الفلسفة، خصوصاً في العهد الأخير الذي عني فيه المستشرقون بدراسة التصوف […] وعندي أنّه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملاً لها، فإنّ “علم أصول الفقه” المسمى أيضاً “علم أصول الأحكام” ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها أصول العقائد الذي هو علم الكلام، بل إنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثاً يسمّونها “مبادئ كلامية” هي من مباحث علم الكلام، وأظن أنّ التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضمّ هذا العلم إلى شعبها”[9].
وهكذا تعرض مصطفى عبد الرازق لرؤى ومواقف الباحثين الغربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين حول الفلسفة الإسلامية، وحاول اقتناص بعض الفروق في الأحكام الصادرة في حق الفلسفة الإسلامية ما بين بداية القرن التاسع عشر ونهايته، وهي الفروق التي تصبّ في خانة إنصاف الفلسفة الإسلامية ورفع الحيف عنها، ويخالف فيها المعاصر معاصره، ويدحض اللاحق فيها ادعاءات السابق. فلنستمع إلى الباحث الفرنسي الألماني الأصل مونك Salmon Munk (ت. 1867م) في ردوده على بعض زملائه، وخاصة مزاعم تينمان: “إنّ الفلسفة لدى العرب لم تتقيد بمذهب المشائين صرفاً، بل هي توشك أن تكون تقلبت في كل الأطوار التي مرّت بها في العالم المسيحي، ففيها مذهب أهل السنّة الواقفين عند النصوص، ومذهب الشك، ومذهب التولد، بل فيها مذاهب شبيهة بمقال اسبينوزا ومذهب وحدة الوجود الحديث”[10].
وإذا كان الاعتراف فضيلة، كما يقال، فإنّ مصطفى عبد الرازق قد اعترف للمستشرقين بأناتهم وصبرهم الجميل، منوّهاً تنويهاً كبيراً بالجهد الجهيد الذي بذلوه في دراسة الفلسفة الإسلامية، ولم يقف موقفاً سلبياً منهم. فلنستمع إليه يقول: “أمّا بعد، فإنّ الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها لا يسعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم، وسعة اطلاعهم وحسن طريقتهم، وإذا كنا ألمعنا إلى نزوات من الضعف الإنساني تشوب أحياناً جهودهم في خدمة العلم، فإنّا نرجو أن يكون في تيقظ عواطف الخير في البشر وانسياقها إلى دعوة السلم العام والنزاهة الخالصة والإنصاف والتسامح، مدعاة التعاون بين الناس جميعاً على خدمة العلم باعتباره نوراً لا ينبغي أن يخالط صفاءه كدر. وليس يؤنسنا من ذلك أن تهبّ في بعض البلاد نزعات كانت ركدت ريحها، ليس من شأنها أن تخلص نفوس الناس من عوامل العصبية والهوى، مثل نظرية تفوق السلالة النوردية الشاملة لشعوب أوروبا الشمالية، التي تحيا في ألمانيا لهذا العهد، ومثل فكرة تفوق البيض على السود المنتشرة في أمريكا الشمالية، وفكرة تفوق الجنس الأبيض على الجنس الهندي التي دعت إلى تسمية المتولدين بين إنجلترا وهنديين تسمية خاصة في بلاد الهند وفي بلاد أفريقية الجنوبية، بل نحن نرجو أن يغلب العلم والحق هذه النزوات التي لا يسندها علم ولا حق. ويقوّي رجاءنا أن نجد في أمريكا نفسها أصواتاً تقرر باسم العلم أحياناً ما نقرره نحن الآن”[11].
ومع هذا الاعتراف الجميل والصادق بالجهد الدؤوب للعلماء الغربيين من المستشرقين، فإنّ مصطفى عبد الرازق الذي تتبع نظرهم وحكمهم عليها، يأبى ـ بعد أن يعترف لهم ـ إلا أن يلمح إلى فساد نظرية التفوق العنصري الواهية الأركان، مستدركاً وهو يأمل بتغليب العلم على الأهواء والعقل على العرق والمنطق على العاطفة والحق على الباطل.
وإذا كان مصطفى عبد الرازق قد تعرّض لرؤى المستشرقين المختلفة والمتغايرة حول الفلسفة الإسلامية، فإنّه بالمقابل تعرض لعدد من تصورات الإسلاميين حول الفلسفة، مثل صاعد بن أحمد الأندلسي (ت. 462هـ)، والشهرستاني (ت. 548هـ)، والجاحظ، وابن خلدون، والمقريزي، وابن النديم، والتوحيدي. كما خصّص فصلاً لـ “تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين” أشار فيه إلى مقالات الكندي[12] والفارابي[13] وإخوان الصفا[14] وابن سينا[15]. وتحدث عن ما بعد ابن سينا وطبيعة الصلة القائمة بين الفلسفة والكلام والتصوف، مورداً مقالات مصطفى بن عبد الله المشهور باسم حاجي خليفة (ت.1067هـ)[16]، وطاش كبرى زاده (ت. 962هـ)[17]، وابن خلدون[18]. كما عقد فصلاً في “الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين”، فأورد آراء الفلاسفة، مثل: ابن حزم (ت. 406هـ)، وابن رشد (ت. 595هـ)، والشهرستاني، والفارابي، وابن سينا، قائلاً: “هذه خلاصة رأي الفلاسفة الإسلاميين في العلاقة بين الدين والفلسفة. وإذا كان الفلاسفة يحاولون غالباً التوفيق بين الشريعة والحكمة في أسلوب ليس فيه عنف ولا نزوع إلى كبرياء، فإنّ لبعضهم أساليب تكاد تكون مهاجمة للدينيين أو دفاعاً بعنف”[19]. وبالمثل أورد فيه آراء علماء الدين الذين يميزهم عن الفلاسفة السابقين، لأنّ “منزعهم غير ذلك المنزع، وهم في أكثر الأمر خصوم للفلسفة في غير هوادة ولا رفق. ونقول في أكثر الأمر لأنّ بعض الدينيين ممّن كان للفلسفة في عقولهم أثر لا يخلو طعنهم على الحكمة من رفق”[20]. وقد ذكر المؤلف في هذا الصدد الراغب الأصفهاني (ت. 502هـ)، والغزالي (ت. 505هـ)، وابن الصلاح الشهرزوري ت. (643هـ)، وأحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده (ت. 962هـ). يقول المؤلف: “ومن المتقدمين قبل الغزالي من كانوا حرباً على الفلسفة لا يعرفون هوادة ولا ليناً، وجلّ هذا الصنف ممّن لم يتذوقوا طعم الفلسفة ولم يتنسموا ريحها، وفي كلامهم من الخلط ما يدلّ على أنّهم لا يتكلمون عن علم فيما عالجوا من أمور الفلسفة”[21]. ويذكر ضمن هؤلاء الشيخ جمال الدين محمد بن العباس الخوارزمي (ت. 383هـ). و”أمّا الفقهاء من علماء الدين المتأخرين، فالظاهر أنّهم لا يرون بين الفلسفة وبين الشعوذة والسحر والكهانة فرقاً”[22]. ومن هؤلاء في نظر المؤلف النووي محي الدين أبو زكريا يحيى (ت. 677هـ)، وعلاء الدين محمد بن علي الحصكي (ت. 1088هـ)، وابن القيم الجوزية (ت. 571هـ). ويقرر المؤلف في خاتمة هذا القسم الأول من الكتاب الخلاصة التالية: “كلام الإسلاميين في الفلسفة الإسلامية، مع قصوره عن تكوين منهج تاريخي، هو في غالب الأمر يعنى ببيان نسبة هذه الفلسفة إلى العلوم الشرعية، وحكم الشرع فيها، ورد ما يعتبر معارضاً للدين منها. وليس بين العلماء نزاع في أنّ الفلسفة الإسلامية متأثرة بالفلسفة اليونانية، ومذاهب الهند وآراء الفرس. ولعل هذا هو الذي يجعل الباحثين في تاريخ التفكير الإسلامي والفلسفة الإسلامية من الغربيين يقصدون في دراستهم استخلاص العناصر الأجنبية التي قامت الفلسفة الإسلامية على أساسها، أو تأثرت بها في أدوارها المختلفة، يجعلون ذلك همهم ويتحرون على الخصوص إظهار أثر الفكر اليوناني في التفكير الإسلامي واضحاً قوياً. وليس من العدل إنكار ما لهذه الأبحاث من نفع علمي، برغم ما قد يلابسها من التسرع في الحكم على القيمة الذاتية لأصل التفكير الإسلامي وعلة مبلغ انفعال هذا التفكير بالعوامل الخارجية من غير اعتبار لما يمكن أن يكون له من عمل فيها. والعوامل الأجنبية المؤثرة في الفكر الإسلامي وتطوره، مهما يكن من شأنها، فهي أحداث طارئة عليه، صادفته شيئاً قائماً بنفسه، فاتصلت به، لم تخلقه من عدم، وكان بينهما تمازج أو تدافع ولكنها على كل حال لم تمحُ جوهره محواً”[23].
لقد نحا مصطفى عبد الرازق منحى جديداً، وسعى بخطى حثيثة إلى رسم معالم منهج جديد مميز وغير مسبوق في دراسة الفلسفة الإسلامية يتلافى عيوب مناهج الباحثين الغربيين من المستشرقين من جهة، ومثالب مناهج الباحثين الإسلاميين من أهل الدار من جهة أخرى. فكان بحق فاتحة عهد جديد لدراسة الفلسفة الإسلامية. “من أجل هذا رأينا أنّ البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها، ثم نساير خطاها في أدوارها المختلفة، من قبل أن تدخل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيراً فلسفياً. وجرياً على هذه الخطة نشرع في البحث عن بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين”[24]. وهذا يعني التجند للرجوع إلى النظر العقلي الأولي الساذج عند المسلمين ورصد حركيته وتطوره على مرّ الأزمان والعصور. ويمكن اعتبار الاجتهاد بالرأي هو بداية تفجّر النظر العقلي. “هذا الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين. وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب من الدين. ونشأت منه المذاهب الفقهية وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم “أصول الفقه”، ونبت في تربته التصوف أيضاً كما سنبينه. وذلك من قبل أن تفعل الفلسفة اليونانية فعلها في توجيه النظر عند المسلمين إلى البحث فيما وراء الطبيعة والإلهيات على أنحاء خاصة. والباحث في تاريخ الفلسفة يجب عليه أولاً أن يدرس الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نسقاً من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده”[25].
وهكذا يمكن اعتبار الرأي والفقه وأصوله وعلم الكلام بداية لتشكيل الفكر الفلسفي الإسلامي، قبل أن يتطور النظر العقلي في الإسلام ويتوج بفلسفة الفلاسفة المسلمين، أمثال ابن سينا وابن رشد. فالعوامل الداخلية هي المحدد الرئيس في تشكيل الفكر الفلسفي الإسلامي الذي تفاعل مع الأفكار والمصادر الأجنبية والمؤثرات الخارجية. فالقرآن والسنّة هما الحضن الذي نشأت فيه الفلسفة الإسلامية التي لا يمكن اجتثاثها عن بيئتها وظروفها الداخلية. وهذا ما يضع عليه إبراهيم مذكور يده بالقول: “كيفما كانت الأفكار الأجنبية التي سرت إلى المسلمين، فإنهم استطاعوا أن يخلقوا بيئة عقلية خاصة بهم ويكونوا حياة فكرية مستقلة، ومن الخطأ أن نحاول تفسير ظواهر هذه الحياة في ضوء المؤثرات الخارجية وحدها التي يظن أنّها لم تهضم ولم تتأقلم ولم تنسجم مع العالم الإسلامي، أو أن نستهين بشأن العوامل الداخلية التي امتزجت بها فكانت أوثق اتصالاً وأنفذ أثراً.[…]، فهناك علم وفلسفة إسلاميان[…] فإنهما، وإن كانا قد استمدا الكثير من المصادر الأجنبية، إنّما قاما على جهود المسلمين، ودرسا بروح وعقلية إسلامية. وفي وسعنا أن نذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فنقرر أنّه ليس ثمة بحث عقلي عرفه المسلمون إلا وله نقطة بدء إسلامية. بدأ أولاً في ضوء تعاليم الإسلام، وشبّ تحت كنفه، وتغذى ما استطاع من الكتاب والسنّة، ثم لم يلبث أن سعى وراء غذاء خارجي ومدد أجنبي، فنما وترعرع وتفرع وتشعب، ولكنه بقي وثيق الصلة بالبيئة التي نشأ فيها والظروف المحيطة به”[26]. ولذلك فالكتاب والسنّة هما البذور الأولى لكل كلام وتصوف وفلسفة، وعلى هذين الأساسين الحافزين والممهدين قامت كلّ هذه الحقول والمباحث. فالفلسفة الإسلامية “ذات طابع خاص وشخصية مستقلة، أخصّ خصائصها التوفيق والاختيار[…]، ففي الفلسفة الإسلامية أخذ وتأثر بما قبلها، كما أنّ فيها خلقاً وابتكاراً أضافت به جديداً إلى الثروة الفكرية العامة[…]، هذه الفلسفة اطراد واستمرار للفكر الإنساني، بل تقدّم له في بعض النواحي، أخذت ما أخذت عن الفلسفات القديمة، ثم ساهمت في تنقيحها وإضافة جديد إليها، ومهّدت لما جاء بعدها من فلسفات أخرى”[27].
لقد عانت الفلسفة الإسلامية من القاصي (من المستشرقين) والداني (من الإسلاميين)، ومع ذلك فقد شقت طريقها بهدوء واتزان مؤثرة حتى في خصومها ومناوئيها. “ولئن كان قد عارضها فريق وحمل عليها آخر، فإنّ هذا لم يحل دون تأثيرها، لأنّ الآراء والأفكار تفعل فعلها دائماً، صديقة أو عدوة، مؤيدة كانت أو معارضة، وكثيراً ما نفذت إلى خصومها على غير قصد وعلى الرغم منهم”[28]. ولا أدلّ على ذلك من أبي حامد الغزالي الذي يصلح أن يكون مستشهداً به هنا. فبعد أن تحامل على كثير من الآراء الفلسفية وقام بردّها ونقضها، عاد ليقول بها أو بما يماثلها. إذ “بالرغم من خصومته لها لم ينجُ من أثرها، وقال بآراء تقترب منها كلّ القرب. وخصومة الأفكار تختلف إلى حد ما عن خصومة الأشخاص، فقد تستطيع التبرؤ من كلّ ما يتصل بخصمك المادي، على حين يعزّ عليك أحيانا أن تنجو تماماً من سلطان فكرة تعارضها. ذلك لأنّ النظريات والآراء بما فيها من قدر من الصواب يمكنها أن تؤثر في أصدقائها وأعدائها، بل في أشد الناس هجوماً عليها”[29].
علي سامي النشار: هل هو الابن البار أو الابن العاق لمدرسة مصطفى عبد الرازق؟
يُعدّ علي سامي النشار أحد أهم الباحثين في الفكر الفلسفي المعاصر، والابن البار لمدرسة مصطفى عبد الرازق التي ذهب بمنهجها مذهباً قصياً، من خلال الدفاع عن المنهج الإسلامي الحق الذي ينبغي تلمسه في الأصلين الأصيلين: علم أصول الفقه وعلم الكلام باعتبارهما اللبنة التي قامت على أساسها الفلسفة الإسلامية التي تُعدّ بحق ديوان الأمّة الإسلامية الذي سجل شخصيتهم وملامحهم وحضارتهم. “ليس ثمة شك في أنّ الفلسفة الإسلامية هي التعبير النهائي المتجدد للأمّة الإسلامية، والانقداح المنصهر السيال لتطور هذه الأمّة الخلاق خلال الدهور. وليس في حياة المسلمين ولا في تاريخهم من حقائق أخطر ولا أدق من حقائق هذه الفلسفة الإسلامية. إنّها جوهر حياتهم ومرآة تطورهم وانعكاس لما في باطن مجتمعهم من آمال وآلام. وقد شملت هذه الفلسفة آفاقاً متعددة واقتحمت ميادين متسعة، ميتافيزيقية وطبيعية وأخلاقية وسياسية، وأقامت حضارة ذات طابع خاص يميزها عن غيرها من الحضارات، ويفصلها عن غيرها من الأمم[…]، إنّ الروح الفلسفي المنبعث من أمّة ذات خصائص معينة يختلف عن الروح الفلسفي المنبعث من أمّة مختلفة الخصائص ومختلفة الآفاق. لا شك أنّ هناك تاريخاً عاماً للفلسفة يشمل الفلسفات جميعاً، وتوضع هذه الفلسفات في إطاره، والفكر الإنساني متصل الحلقات، ولكن من الخطأ الكبير القول إنّ الفلسفات تتشابه في جوهر مذاهبها[…]. كانت الفلسفة الإسلامية بدء عصر تنويري مبدع نفاذ، إنّها أتت بخلق جديد، وألقت بتصورات كبرى في تاريخ الفكر الإنساني، وحولت هذا الفكر من طور إلى طور، وسارت قدماً حتى حلّ الأصيل”[30].
لقد تساءل علي سامي النشار عن الفلسفة الأصيلة والفلسفة الدخيلة، وحاول أن يبرهن على أنّ في الإسلام فلسفة أصيلة مغايرة لفلسفة اليونان، وهذه الأصالة لا تجسدها الفلسفة الإسلامية كما قد يتبادر إلى الأذهان، وإنّما يمثلها أصول الدين وأصول الفقه. ويعتبر علي سامي النشار من كبار ممثلي هذا الاتجاه بالرغم من أنّ الإرهاصات الأولى والبوادر الجنينية لهذا الطرح نجدها لدى أستاذه مصطفى عبد الرازق. فالتلميذ هو الذي سار بهذا الطرح إلى أقصى مداه، وقال إنّ ضميمة أستاذه التي ذيل بها كتابه الموسوم بـ “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” أمارة على هذه الفلسفة الأصيلة، وأنّ مصطفى عبد الرازق يذكر صراحة أنّ الفقه والكلام هما الفلسفة الأصيلة. وبناء على ذلك، يكون مصطفى عبد الرازق قد تجند – كما قال هو نفسه – للبدء “باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها”[31].
وتبعاً لهذا الطرح الذي أثراه علي سامي النشار ونفخ فيه حد التخمة، فإنّ فلاسفة الإسلام لم يبلغوا مرتبة المتكلمين في تأصيل فكرهم، بل “إنّ الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد “مقلدة اليونان”، و”المقلد غير عقلاني”. إنّ ما لدى الكندي وابن رشد من عقلانية أصيلة إنّما هي عقلانية مستعارة من المعتزلة والماتريدية وغيرهم من مفكرين مسلمين…، كان هؤلاء [ويقصد الفلاسفة] متفلسفة وليسوا فلاسفة. أسميهم بأصحاب الفلسفة الإسلامية، وليسوا بأصحاب الفلسفة المسلمة. لقد بدأ الإبداع الفلسفي في الإسلام لدى المعتزلة، وأعقبهم الأشاعرة، والشيعة. وهنا تكمن فلسفة الإسلام الحقيقية”[32]. ولا غرابة في هذا النص المتعصب والمتحامل، لأنّ صاحبه يعتبر امتداداً لمدرسة مصطفى عبد الرازق (1885- 1946م) التي ما فتئت تدعونا إلى دراسة الفلسفة الإسلامية في “مظانها الحقيقية”. “ومنذ أن أعلن مصطفى عبد الرازق ـ أستاذ الفلسفة الإسلامية الأول القديم ـ دعوته إلى دراسة الفلسفة الإسلامية في مظانها الحقيقية، وتلامذته الأقدمون قد نفروا إلى أعنف موضوعاتها، يدرسونها في تؤدة وإتقان، ثم يقدمونها للحياة الإسلامية المعاصرة، وللمسلمين جميعاً في صورة متلألئة فاتنة. ظهرت الأبحاث الغنية العارمة من رجال تلك المدرسة، فوضحت قواعدها وثبتت ركائزها، وانطلق كلٌّ في نطاقه يعرض لأصالة الفكر الإسلامي في ناحية من نواحي هذا الفكر”[33]. فعلي سامي النشار يقرر أصالة الفكر الفلسفي في الإسلام، مؤكداً على أنّ “الفكرة الخاطئة التي كانت تقصر الفلسفة الإسلامية في نطاق الفلسفة الإسلامية المشائية قد انتهت أيضاً. بل يكاد يكون من المسلمات الآن: أنّ الفلسفة الإسلامية تشمل المشائية الإسلامية، والأفلاطونية الإسلامية، والأفلاطونية المحدثة الإسلامية والرواقية الإسلامية، ثم علم الكلام بفروعه المختلفة، وبفرقه المتعددة، ثم التصوف، ثم الدراسات الكلامية والمنهجية في علم أصول الفقه”[34]. ولعل التأريخ للفلسفة الإسلامية سيظل دائماً تأريخاً بين قوسين وقابلاً للمراجعة والتعديل ما لم يتم العثور على المخطوطات وتحقيقها تحقيقاً علمياً رصيناً. “لقد قلت من قبل: إنّ تأريخ الفلسفة الإسلامية لن يستقر استقراره الكامل حتى ينشر الدفين الكبير من المخطوطات العربية. غير أنّ مجهودات الباحثين في الفلسفة الإسلامية مستمرة دائماً، وفي طاقة جبارة لإخراج كثير من المخطوطات وتحقيقها. وبقدر ما يظهر من مخطوطات ووثائق، بقدر ما يزداد تضخم تاريخنا للفلسفة الإسلامية، وهذا ما يدعونا إلى التغيير والتبديل المستمر في أبحاثنا”[35].
وصفوة القول: إنّ الشيخ مصطفى عبد الرازق قد ابتكر منهجاً جديداً في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، وهو المنهج الذي مكنه من تجاوز مآزق المناهج التقليدية في دراسة الفلسفة الإسلامية التي أصبحت بفضل هذا المنهج غير المسبوق لمدرسة مصطفى عبد الرازق قطعة من النص الديني التأسيسي الأول، لا ظاهرة عرضية كما يزعم المستشرقون. وقد مثل علي سامي النشار ومحمود الخضري ومحمد مصطفى حلمي وعبد الهادي أبو ريدة ومحمد يوسف موسى، وعثمان نجاتي، وعباس محمود، وغيرهم من التلاميذ الباحثين الأعمدة مدرسة الشيخ عبد الرازق الفلسفية، وهم من أينع ثمار هذه المدرسة المدافعة عن الروح الحضارية الإسلامية بفضل التلمذة المزدوجة لمصطفى عبد الرازق في الأزهر وعلى يد الإمام محمد عبده من جهة، وعمق دراسته بالجامعات الفرنسية من جهة أخرى. الشيء الذي جعله يحظى بشرف إعادة إحياء الفلسفة الإسلامية في الفكر العربي الحديث بعد رحيل ابن رشد. وهو الإحياء الذي بدأه جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده واستأنفه بعزم مركزي أكبر وأعمق مصطفى عبد الرازق، وما زال أثره ممتداً إلى عصرنا الحاضر.
ومع ذلك، فإنّ الأمانة العلمية تفرض علينا القول إنّ مصطفى عبد الرازق ليس مسؤولاً صراحة عن “تعصّب” تلميذه علي سامي النشار الذي حصر همه الأكبر في اتهام فلاسفة الإسلام العظام بالتقليد وعدم الأصالة، كما هو الشأن لاحقاً لطه عبد الرحمن الذي أبى إلا أن ينخرط في سلك هذه الأوهام النافية للإبداع عن الفلسفة الإسلامية، وهو ما يجعل علي سامي النشار وطه عبد الرحمن بمعية آخرين يلتقون صراحة مع الاستشراق في صورته غير المنصفة بدل صورته الإيجابية التي كشفت لنا عن الوجه الإنساني العالمي لكبار فلاسفتنا الذين اكتشفهم الغرب ولم يكتشفهم أهل الإسلام من العرب المسلمين الذين يشككون في إبداع وأصالة ما خطه يراع الفلاسفة من مدونات.
لائحة الإحالات والمراجع
ـ إبراهيم مذكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، الجزء الأول، سميركو للطباعة والنشر، طبعة ثانية منقحة ومزيدة.
ـ دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربية وعلق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت.
ـ علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، دار المعارف، الطبعة الثامنة.
ـ مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، الطبعة الثالثة، لجنة التأليف والترجمة والنشر.
[1] دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربية وعلق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص 53
[2] انظر: المرجع نفسه، ص 54
[3] انظر: المرجع نفسه، ص 188
[4] انظر: المرجع نفسه، ص ص 322 ـ 323
[5] مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، الطبعة الثالثة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص 3
[6] انظر: المرجع نفسه، ص 5
[7] انظر: المرجع نفسه، ص ص 8 ـ 9
[8] انظر: المرجع نفسه، ص 13
[9] المرجع نفسه، ص ص 25 ـ 26 ـ 27
[10] المرجع نفسه، ص 14
[11] المرجع نفسه، ص ص 27ـ 28
[12] المرجع نفسه، ص 48
[13] المرجع نفسه، ص 49
[14] المرجع نفسه، ص 54
[15] المرجع نفسه، ص 56
[16] المرجع نفسه، ص 67
[17] المرجع نفسه، ص 71
[18] المرجع نفسه، ص 74
[19] المرجع نفسه، ص 81
[20] المرجع نفسه، ص 82
[21] المرجع نفسه، ص ص 87 ـ 88
[22] المرجع نفسه، ص ص 88 ـ 89
[23] المرجع نفسه، ص 98
[24] المرجع نفسه، ص 102
[25] المرجع نفسه، ص 123
[26] إبراهيم مذكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، الجزء الأول، سميركو للطباعة والنشر، طبعة ثانية منقحة ومزيدة، ص ص 195ـ 196. ويقول أيضاً: “ولا يمكن أن تفهم النظريات الفلسفية الإسلامية فهماً صحيحاً إن نسينا أو تناسينا أنّها نبتت في جو فكري فسيح الأرجاء وحياة عقلية متعددة النواحي”، المرجع نفسه، ص 12
[27] المرجع نفسه، ص ص 197 ـ 198 ـ 199
[28] المرجع نفسه، ص 12
[29] المرجع نفسه، ص 107
[30] المرجع نفسه، ص ص 22 ـ 23
[31] مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، سبق ذكره، ص 101
[32] علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، دار المعارف، الطبعة الثامنة، ص 18
[33] المرجع نفسه، ص ص 23 ـ 24
[34] المرجع نفسه، ص 17
[35] المرجع نفسه، ص 21
____
*مؤمنون بلا حدود