ظهرت مؤخرا أشكال جديدة من الكتابة والسرد للقصة القصيرة تجاوزت الأشكال التقليدية من السرد التي عرفت عن كبار الأدباء العرب، فإذا كانت القصة القصيرة في الغرب بدأت مع جي دي موبسان الفرنسي وأنطون تشيخوف الروسي، فقد أسّس مجموعة من الكتّاب العرب البناء الفني للقصة القصيرة، ومنهم: محمود تيمور ومحمود طاهر لاشين وعيسى عبيد ومحمود البدوي ونجيب محفوظ ويحيى حقي، وغيرهم من الكتّاب الذين أسّسوا الريادة في القصة العربية.
إلا أن يوسف إدريس يبقى هو العلامة البارزة في تاريخ القصة القصيرة العربية الحديثة، حيث يعتبر كثير من النقاد العرب أن يوسف إدريس هو صاحب الفضل في نقل القصة القصيرة العربية إلى مصاف العالمية، وأنه تمكن من أن يرسم من خلال أدوات سرد مميزة هموم المواطن العربي العادي بلغته البسيطة والدارجة.
يقول د. مصطفى حسين رجب، أستاذ النقد الأدبي: إن يوسف إدريس يُعتبر من روّاد القصة القصيرة من خلال موهبته الفذة التي عانقت هموم وطموحات الإنسان المصري والعربي، وجسّدت الرغبات الإنسانية والعشق المحموم للوطن، فهو ثار على الشكل التقليدي للكتابة القصصية، واستطاع أن يؤسّس لغة خاصة به.
ويضيف د. مصطفى قائلاً: إن الراحل يوسف إدريس كان يمتلك الحيوية الفائقة في رصد اللحظات الفارقة للبشر ومعايشة الواقع بجوارحه وأعصابه، فهو أول مَنْ فتح الباب بأسلوبه لكثير من الأجيال التالية له، كي تدخل عالم الكتابة القصصية وهي واثقة من أنها تسير على الطريق الصحيح.
وفيما يتصل بشكل الكتابات الجديدة، يؤكد د. مصطفى أن كل عمل إبداعي لا يستوي قائماً على قواعده الفنية إلا إذا سبقته إليه حاسة النقد الذاتية لدى الكاتب، وشاركت في إنشائه فتختار الموضوع الذي انفعلت من أجله بما في ذلك القصة القصيرة.
• تقنيات جديدة
ومن ناحيته، يقول د. رمضان بسطاويسي، أستاذ علم الجمال بجامعة عين شمس: لقد أصبح البحث عن المعنى أو المغزى مرتبطاً بفهم تقليدي لنوع خاص من القصص الذي تنوّع إلى الوصف والسرد، وارتبط هذا التغيير بتقنيات جديدة تجعل النص يحدث صدمة لدى المتلقي، لأنه لا يستند إلى الجاهز من التراكيب اللغوية، ولا يستعين بالعبارات المألوفة، وإنما يستخدم اللغة على نحو خاص، فلم تعد القصة وصفاً لحركة الفعل.
ويضيف بسطاويسي: القارئ لا يستطيع أن يكمل بخياله الحركة، وبالتالي لا توجد فائدة لكي يكمل القاص ما هو معروف سلفاً، لذلك يحار المرء عند فراغ نصوص تصف وتسهب فيما هو معروف للقارئ، ولا يتجاوزه إلى تقديم هذا التخيل الشعوري الذي حدث في تقنيات السينما المعاصرة، فلم يعد ممكناً تصوير الحركة المعروفة سلفاً، ويكفي بدايتها للانتقال لما يليها، ولم يعد التتابع المنطقي مألوفاً في السينما، وإنما لا بد أن يوجد منطق داخلي للعمل الفني، وكذلك الأمر بالنسبة لفن القصة الذي ظهرت فيه اتجاهات عدة تحاول تقديم تقنيات حديثة للتعبير عن الواقعية السحرية والواقعية النفسية وغيرها، وتُعتبر محاولة للغوص في أعماق تلك هي جماليات الرواية الحديثة والفن القصصي عامة.
• ثبات النص
أما القاص سعيد الكفراوي، فيقول: إن يوسف إدريس من الكتاب العرب المعدودين الذين تميزت أعمالهم بما يمكن وصفه سرديا بـ “ثبات النص”، معتبرا أن النص الثابت الذي يكرّس قيم المجتمع باعتبارها ثابتة في الزمان والمكان، ذلك النص الذي يدور في خوائه على مستوى اللغة والأداء والمعنى وعلى مستوى رؤيته للأشياء.
لكن الكفراوي يشير إلى أن ما يشير له بـ “الكتابة الجديدة” جاءت لتطيح بهذا النص المكرّس وتخلق أشكالها المختلفة مستفيدة من كل المنجزات التي حدثت، ومن كل الكتابات التي حدثت، ومن تجربتهم الخاصة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتجربة الإنسان في الحياة.
ويؤكد الكفراوي على احتفائه بأي كتابة مخالفة، بشرط أن يكون هذا الاختلاف في صف الإنسان وحلمه في عدل ما ومواجهة ظلم ما، مشيراً إلى أنه أكثر الناس احتفالاً بجمالية الكتابة واللغة وشاعريتها، ولكنه ليس مع النص الذي يختفي في التراب، فعلى النص أن يزرع جذوره في أرض الواقع وأرض محليته، حتى يتسم بصفة الإنسانية، وحتى يستحق أن يُوصف بأنه أدب عالمي.
ويذهب نقاد آخرون إلى أن حاسة النقد الذاتي التي يتمتّع بها المبدع تمثّل ضرورة ثقافية في مراحل الاختيار الأولى، وبذلك فالتطوّر الملموس للقصة في عالمنا العربي ينتج عن امتلاك الفنان لمقومات الكتابة، وتحسّسه للأساليب التي يرتكز عليها في سرده الفني، ومن هنا فتاريخ القصة ليس منفصلاً عن تاريخ الفن أو الإبداع بصفة عامة، فقد شهدت القصة هذا التطوّر بإنجازات كتّابها الذين أدركوا مواطن الضعف والقوة في أعمال الآخرين، وتملّكتهم الرغبة الصادقة نحو كتابة مغايرة تحقّق التطوّر والإضافة لإسهامات الروّاد.
ويؤكد أن صدمة المتلقي هي أن فن القصة عامة قد تعرّض خلال الخمسين سنة الأخيرة لعملية تغيير عميقة، حوّلته من فن الحكي إلى فن يستوعب تقديم أدق الخبرات الإنسانية في صورة تقترب من الفنون الأخرى.
• أسلوب جديد
ويشير القاص محمد المخزنجي، إلى أن كُتّابنا من جيل الروّاد مروراً بالخمسينيين ثم الستينيين هم باقة من عظماء مبدعي القصة القصيرة في العالم أجمع، وقد كنت محظوظا في أن أجد زاوية القص الموجز بلا إنجاز كبير، أو لا يكاد فيها إنجاز ملموس، لافتاً إلى أن الفرح الحقيقي للكاتب عندما يحسّ أنه أنجز شيئاً، ولا يوجد كاتب لا يعد مواطن الضعف أو القوة فيما يكتب.
ويعبّر المخزنجي عن مدى تأثره بروّاد القصة القصيرة، وكيف أنه استلهم من كتاباتهم أسلوبا جديدا وشكلا جديدا للسرد يكتب به، يعتمد على الإيجاز والتكثيف والعبارات القصيرة ذات المعاني العميقة.
ويقول: لقد اتجهت القصة القصيرة إلى تعميق الإحساس وتكثيف الموقف الإنساني، ومحاولة إثارة وعي المتلقي بدهشة خاصة أو صدمة شعورية تترك شيئاً ما في أعماقه، وهذا ما يسمّى الأثر في القصة القصيرة.
إلا أن القاص الأردني صبحي فحماوي، يشير إلى شكل جديد من أشكال السرد، وهو شكل تطور وارتبط بالتوسع الكبير في استخدام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وهو فن الأقصوصة، موضحا أنه من خلال الفيس بوك – على سبيل المثال – فإن القاص يستطيع أن يطرح أقصوصته على أكبر عدد ممكن من المتابعين لصفحته على الفيس بوك، ثم يحصل على علامات إعجاب وتعليقات على ما كتب فورا، بل إن بعض التعليقات تساعد القاص على تطوير أقصوصته.
_______
*وكالة الصحافة العربية