*إسماعيل سامي غسان أبو لبدة
خاص ( ثقافات )
سَنستَظِلُّ معًا في هذا المَقالِ تحتَ رحابِ وَقفاتٍ روحانيّةٍ رمضانيةٍ ، نروي بها قلوبنا الظّمأى للطّاعاتِ والاقتراب من ربِّ الرّحماتِ، نبوحُ معًا ما أدركتهُ مشاعِرُنا وما عاشتُهُ قُلُوبُنا من الأعماقِ في هذا الشّهر الفضيل من لحظةِ اقترابِ قُدومهُ حتّى أَصبَحَ واقعًا عشناهُ وأحببناهُ وألفناهُ؛ فأَصبحَ جزءًا منا والآن يشارِفُ على الرّحيل، فَكَيفَ سَنَعيش بعدَهُ؟
الوَقفةُ الأُولى: إنّهُ رمضانُ بينَ الشّوقِ والانتظارِ
نعم … قَدِمَ شهرُ رَجَب وبدأَ النّاسُ يتداولونَ عبارةَ “اقتربَ رمضان” ولم يبقَ لهُ إِلا القليلُ، فَجاءَ شعبانُ فَفَرحِت القُلوبُ واستعدت للقاءِ الشّهر العظيمِ، فما أن أُعلنَ أنّ غدًا هو اليومُ الأولُ من رمضانَ حتّى تزيّنتِ السَّماءُ وُفتحتْ أبوابُ الجنَّةِ وغلقت أبوابُ النّيرانِ وصفِّدت الشّياطينُ و صارت الأرواح على أُهبةِ الاستعدادِ والقُلوبُ مُبتهجةٌ والصّدورُ مُنشرحةٌ والابتسامةُ ارتسمتْ على الوجوهِ والألسنُ تلهجُ بالدعاءِ والأيدي رُفعت عنانَ السّماءِ تناجي ربَّها، وبدأ المُسلمون يُهنِئون َبعضَهم بَعضًا، ويُردِّدون : اللّهمُ أَهلّهُ علينا بالأمنِ والإيمان والسّلامةِ والإسلام، فبَعدَ أن ضاقتْ الأرضُ بِما رَحُبتْ وتَجافتِ القُلوبُ جَاء الشّهرُ المبارك.
الوقفة الثّانيةُ : رَمضانُ شهرُ القرآنِ والعتقِ من النّيران
اشرأبت النّفوسُ للطّاعةِ وعَجَّت المساجدُ بالمصلينَ وتسابقَ النّاسُ في التّلاوةِ؛ أيُّهم يَختِمُ القرآنَ مراتٍ عديدةٍ. وازدَادَ الخشوعُ، والدّموعُ تنهمِرُ خَوفًا من الله، والألسنُ تُناجي رَبها ، ورُقعةُ المحبةِ ازدادت، وتلاشت الضّغينةُ، وامتلأت القلوب عطفًا ورحمةً على الفقراءِ واليتامى والمَساكين، وتعالت آيةُ “وبالوالدين إحسانا” (الإسراء: 23)، وُوُصل المنقطعُ من الأرحامِ، واعتذرَ المُذنب، اقتربت القلوبُ بعد أن تجافت، نَشيج البكاءِ في جوف اللّيلِ وصل عنانَ السَّماء طمعًا بالعتق من النّيران.
الوقفة الثّالثة : يومُ المسلِم في رمضانَ هو اليومُ المثاليُ لبقيةِ حياتِه
أرادَ الخالقُ سبحانه وتعالى أن يكونَ اليومُ في رمضان نموذجًا ليوم العبد المسلمِ، فمن وضع جدولًا عِباديًا في رمضان من تلاوةٍ للقرآن الكريم والأذكارِ والمحافظةِ على الصّلاةِ في أوقاتِها وصلاةِ الضّحى والوترِ والاستغفارِ وقيام اللّيل وزيارةِ الجيران والمرضى والأرحامِ، هذا بالإضافةِ إلى حفظ اللّسان من الغيبةِ والنميمةِ واللغوِ والفسوقِ وقولِ الزّورِ وغضّ البصرِ تجاه المُحرماتِ والمُنكراتِ، وكفّ الأذى …. فإنَّ هذا الجدولَ العباديَّ يصلحُ لجميعِ أيامِ المسلم؛ بل هو المطلوب …فمن اعتاد عليه في رمضانَ يجب عليه الاستمرارُ …
الوقفةُ الرّابعة : رُويدًا رُويدًا يا رمضان!
قبلَ أيامٍ كُنَّا ننتَظِرهُ “شَوقًا”وعندما قَدِمَ رحّبنا بِهِ”أهلًا”، والآنَ نَقُولُ لَهُ “مَهلًا”، ها هوُ رمضان يستعدُّ للرحيل بأيّامِهِ ولياليهِ و في قُلوبِ الصَّالِحين لوعةٌ، وفي نفوسِ الأبرارِ حُرقَةٌ، ولكن السُّؤالُ هُنا: ماذا بَعدَ رمضان؟؟
الوقفة الخامسة : كُن ربّانيًا ولا تكن رمضانيًًّا.
ليس للطّاعةِ وقتٌ محددٌ ، بل إنّ المسلّمَ دائِمُ العبادةِ والطّاعَةِ وهي لا تنتهي بحقهِ إلا عندما يُغادر الدّنيا”وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ” (الحجر:99)، فربُّ رمضانَ هو ربُّ شعباَن ورب شوالَ وذي الحجة.
قال عليّ رضي الله عنه-كونوا لقَبولِ العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا قول الله عزّ وجلّ “إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ”(المائِدة: 27) .
نستنبطُ من هذا الكلام أنَّه هكذا يجبُ أن يكون العبدُ، مستمرًا على طاعةِ الله، ثابتًا على شرعه، مستقيمًا على دينه، يعبدهُ آناء اللّيل وأطراف النّهار.
فإذا كان رمضانُ إلى رمضانَ كفارةٌ لما بينهما؛ فإنّ الصّلواتِ الخَمسَ و الجمعةِ إلى الجمعةِ كفاراتٌ لما بينهما إذا اجتنبتِ الكبائرُ، كما قال رسُولنا محمد-صلّى الله عليه وسلم- ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ )) رواه مسلم ،وإن كان الدّعاءُ في رمضانَ لايردُ؛ فإنّ هناك مواضعَ أخرى في السّنةِ الدّعاءُ فيها مجابٌ نحو، (( في يوم الجمعة ساعةٌ لا يسأل اللهَ أحدٌ فيها شيئًا وهو قائمٌ يصلي إلا أعطاه الله إيّاه))رواه البخاري ، كما أنّ الّسجودَ تُرجى فيه الإجابة ((أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ؛ فأكثروا الدّعاء)) رواه مسلم ، ولئِن انتهى قيامُ رمضانَ فقيامُ اللّيلِ مشروعٌ في كلِّ ليلة ولهُ أجر عظيم عند الله عزّوجلّ “كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ” (الذاريات:17) ، ولئِن انتهى صيامُ رمضانَ فهناك صيامُ النَّوافل على مدار العام : كالسِّتِّ من شوال والإثنين والخميس والأيامِ البيضِ من كل شهر وعاشوراء وأيّامِ ذِي الحجَّة وعرفة وغيرها، ولئِن انتهت صدقةُ وزكاةُ الفطرِ،فهناك أبوابٌ للخير والصدقةِ كثيرةٌ لا تعدّ ولا تحصى، وبالنّسبةِ لتلاوةِ القرآنِ؛ فهي ليست خاصةً برمضان، بل هي في كل وقت، وإن كنت ممن حافظ على الأذكار والدّعاء والاستغفار، فحريّ بك أن تستمر عليها.
الوقفة السّادسة : حياتك كُلها لله
فلا تعتقد أَخي الحبيب أن رمضانَ وحده الزّائل بل الدّنيا كُلها فانية؛ وما يبقى إلا الأثر ولا ينفعك إلا العملُ الصّالحُ، فافرح لأنَّك مسلمٌ ستلقى ربَّكَ مؤمنًا به؛ واعلم أن جميعَ أوقاتِك وحياتِك يجبُ أن تكون مسخرةً للّذي خلقك فسواك فعدلك، الّذي خلقكَ بأحسن تقويم “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الأنعام:162).
فالسؤالُ هنا لِمن يغفلُ عن العبادةِ بعد رمضان: هل تَملِكُ نفسكَ وتضمنُ العيشَ لرمضان المقبِلُ؟! كم من صديقٍ في العام الماضي كان يتمنّى أن يكون بيننا في رمضان الحالي، إلا أن الأجلَ قد وافاه والأملُ لم يتحقق؛ لأنّ ساعتهم قد حانت، فالرّابحُ منهم من استثمرَ كلَّ دقيقةٍ من حياته ولم يتمنى على الله الأماني، نعم… “وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً” (الإسراء : 19).
الوقفة السّابعة : لا تهدم ما شيدته بمشقةٍ وعناء
ففي أحدِ الأيامِ كان هُناك مزارعٌ يعتني بزرعهِ ويُداومُ على رعايتهِ متجوِلًا بين حقولِهِ مجتهدًا في العملِ والرّيِّ، وكان لا يتوانى يَومًا عن سقايةِ مَزروعاتهِ وتفقُدها، فانتابه يومًا ما شعورٌ بالتَّعب والإرهاقِ الشّديدِ وأصبح الكسلُ يَحُطُّ عليه من كل جانبٍ، فشعر أنّه بحاجةٍ ماسةٍ إلى استراحةٍ وأنَّ الماء الّذي سقى فيه مزروعاتهِ يكفيها عدّة أيامٍ؛ إلا أنّه قد نسي أن هذا الفصلَ هو فصلُ الصّيف؛ فتبخرَ كلُّ الماء عن زرعه وجفّتِ التّربةُ وبدأت الأشجار تموتُ شيئًا فشيئًا، والمزارع يَغطُ في سُباتِهِ العميقِ. إلى أن استيقظَ وإذ به يرى مالا يُرى من المصائِب ….فهل ينفع الندم؟!
هكذا للأسفِ حالُ بعضنا يتعب ويكدُّ في العمل والطّاعة في رمضان ويأتي بعد رمضان و يهدمُ ما تمّ تشييده وبناؤهُ، فمثله كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوةً أنكاثًا،” وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا”(النّحل: 92).
إِخوتي الأحبّة: لا تُضيعوا رصيدَ الحسناتِ الّذي تحصّلتم عليه من الطّاعات، ولا تهدموا بيتَ إيمانكم؛ بل اسعوا للعلو في البنيانِ.
الوقفة الثّامنة :أحسن كما أحسنُ الله إليك؛ فهل جزاءُ الإحسان إلا الاحسان!
اشكر ربك الّذي تفضّل عليك بالإسلام وجعلك من خير أمة أخرجها للنّاس ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه”ِ (آل عمران: 110)، أحبّك ويسّر لك جميعَ أبوابِ المغفرةِ والرّزقِ وفتح لك أبوابِ التّوبة والإنابةِ ولم يجعل لها موعدًا، وأعطاكَ العديدَ من الفرِصِ لإصلاحِ ذاتك المخطئةِ وتُهذيبها فتملأ قلبكَ نورًا بعد أن مُلِئ غمامًا، ومن هذه الفرصِ شهر رمضانُ المبارك، ففتح لك أبواب الجنان وغلّق أبواب النّيران وصفد الشّياطين ؛ليتيح لك الرّجوع إليه دون معوقاتٍ، فهل تجازيه بعد رمضان بأن تعود لمساوئ العادات وقبائح الأعمال والأقوال! لماذا نكثت عهدك مع الله؟! فأين أنت من قوله “وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا” (البقرة:177) ….
الوقفة التّاسعة : هل تُريد الجنّة؟
فما دامت فيك الرّوحُ باقيةً والدّمُ يسري بعروقك والقلب ينبضُ وأنفاسكُ تتجدد تذكر أنّ هدفَك الجنة، ولكن حتى تغنمَ بهذه الجائزةِ عليك أن تكونَ أهلاً لها، ويكونَ استحقاقها ببذل أكبر قدرٍ ممكنٍ من الجُهد في الطّاعةِ وأن تُلحق الطّاعة بالطّاعة، ثمّ بالدّعاء لقبولها، وعليك أن تكون شديد الحرصِ على مراجعِة نفسك ومحاسبتها باستمرار قبل أن تُحاسب ((ولتنظر نفس ما قدمت لغد))، ودائمًا تذكر ما ادخرت لآخرتك “يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” ( الشّعراء:88+89 )، فلذلك ليس عليكَ في رحلتكَ هذه إلا الاستمرار بخطىً راسخة صوبَ الجنة؛ باتباع سيد المرسلين، والوُقود الّذي ستحتاجه في رحلتك هو الصّبر” إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ” (الزمر : 10)، فكما كنتَ تتسابقُ مع إخوتك إلى كسب الحسنات وتطمحُ أن تكون من العتقاءِ وكنت تصلي في الصّف الأوّلِ وتذكر الله قيامًا وقعودًا وأناملك بالتّسبيح مشغولةٌ، فأنت بهذا اجتزت مراحلَ كثيرةً بطريقك إلى الجنّة، فما عليك إلأ الثّبات.
الوقفة العاشرة :اثبت واستمر على طاعاتك، تغتمَ وتَفز:
فإن استفدت من رمضان وحققت فيه صفاتِ المتقين وتخرجت منه بدرجاتٍ عُلا، وجاهدت نفسك فيه، فاحمدِ الله واسألهُ الثُباتُ على ذلك حتَّى المماتِ، لإنّ من علاماتِ قَبولِ رمضان منك هي استمرارك على الطّاعة والعمل الصّالحِ وبقاءِ قلبك معلقًا بالله؛ فلا تنتكس بعد أن تلذَّذ قلبُكُ بالطّاعةِ، ولا تنطفئ بعد أنرتَهُ بالقربِ من الله، فالرّابِح من هوعلى ارتباط دائمٍ مع الله في رمضانَ وغيره حتى يلقى الله وهو عنه راضٍ.
وصيتي الأخيرة : لا تنس أنّه تبقى من رمضانَ أيامٌ قلية؛ فلا تُفرط بها واغتنمها، لعلّ ليلة القدر توافق احدى اللّيالي القادمة….الّلهمّ يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين،،،