ماذا بعد الرواية الحديثة؟


لطفية الدليمي

لم تزل الرواية الحديثة بسِماتها المعهودة سائدة في المشهد الروائي العالمي ولها حضورها المميز فيه . ولكن الرواية الحديثة ذاتها ساهمت وبقوة في تخليق أنماط روائية جديدة يمكن عدّها امتدادات طبيعية لها وليست تطوّراتٍ منقطعة الجذور عنها . يمكن في هذا الشأن معاينة الأشكال الروائية التالية التي تعتبرُ ولاداتٍ طبيعية للرواية الحديثة – باستثناء الرواية الرقمية :- 

الرواية مابعد الحداثية Postmodern Novel :
تطورت الرواية الحديثة إلى أنماط بعد حداثية في الجغرافيات التي كانت توصف في العادة بالإمبراطوريات أو الكولونياليات المهيمنة أو مابات يُعرَفُ بالمراكز الثقافية طبقاً لنموذج المركز – الهوامش الثقافيّ ، وتعدّ الثقافتان الأنكلوساكسونية والفرانكوفونية – إلى جانب الثقافة الجرمانية – الميدان الأرحب الذي نشأ فيه هذا الفن الروائي . ليست ثمة سمة مشتركة خالصة تجمع بين الأنواع الروائية مابعد الحداثية سوى مخالفتها الصريحة للرواية الحديثة في جانب ، و تناغمها معها في جوانب كثيرة أخرى : حافظت الرواية مابعد الحداثية على سمات التشظي الزماني والمكاني والسايكولوجي وأوغلت فيه كثيراً ، لكنها من جانب آخر باتت تركّز في معالجاتها الروائية على ثيمات أصغر بكثير من الثيمات الكبرى أو – ذات الطبيعة الملحمية أحياناً – التي تعهّدتها الرواية الحديثة برعايتها القصوى من قبل ، وقد تنوعت موضوعات الرواية مابعد الحداثية وبلغت تخوماً تبعث على الإدهاش مثلما نرى – مثلاً – في مقاربة علاقة الإنسان بالبيئة و موضوعة التلوث البيئي الطاغي بعامة والتي استحالت لوناً روائياً متفرداً يمكن وصفه بالرواية البيئية . اختصّت المعالجة الروائية مابعد الحداثية على مقطع زمني ومكاني صغير ولمعضلة محددة ولم تعد تتناول الحالة المرجعية بأكملها ( مثل التقنية على اختلاف أشكالها ، أو الكوارث الطبيعية كلّها ) مثلما كانت تفعل الرواية الحديثة. 
الرواية مابعد الكولونيالية Postcolonial Novel : 
نشأت هذه الرواية في الجغرافيات التي كانت تُعتبرُ تقليدياً جزءاً من المستعمرات الكولونيالية المهيمِنة ، وتلاحظ فيها – وبخاصة في بواكيرها – غلبة الاشتغالات السياسية عليها إلى جانب النزعة التطهيرية المتطرفة التواقة لإحداث فصام كامل مع تراث الماضي الكولونيالي بطريقة غاية في التطرف إلى حدّ بات معه بعض أقطاب هذا اللون الروائي يدعون إلى قطيعة مع لغة المستعمر السابق وإحلال لغات محلية بدلاً عنها . ولكن هذه النبرة المتطرفة خفتت كثيراً في العقود اللاحقة للاستقلال عن المراكز الكولونيالية السابقة بعد تسارع وتيرة التلاقح الثقافي وخفوت حدّة النزعة الثورية الراديكالية العالمية و نضوب خزين ( المأزوميّة ) في أرواح كُتّاب مابعد الكولونيالية و بخاصة الأفارقة منهم . 
ثمة في هذا المجال ماينبغي إيلاؤه اهتماماً مضاعفاً : سمحت هجرة بعض الأفراد من جغرافيات الهوامش إلى المراكز الكولونيالية بنشوء أطفالهم في بيئة ثقافية هجينة Hybrid تحوز سمات كلّ من ثقافة المركز والهامش معاً ، فتطوّر بعض هؤلاء واستحالوا كُتّاباً أبدعوا في كتابة الروايات التي باتت تُعرَف بالرواية مابعد الحديثة – مابعد الكولونيالية ، ونضج هذا اللون الروائي كثيراً حتى أن الغربيين أنفسهم باتوا يرون فيه شكلاً روائياً باعثاً على أعلى درجات الاهتمام لميله في إعلاء شأن قيم التسامح والتعدد الثقافي ولركونه إلى تجارب وخبرات بشرية لم يختبرها العقل الغربي وَلايمكن له إغفالها أو نكرانها.
_________
*المدى

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *