الساخر جلال عامر …عبقرية التكثيف والبساطة




*يوسف غيشان


في إحدى رسائله المطولة ، حينما كان في المنفى، كتب الزعيم المصري الكبير سعد زغلول لصديق له معتذرا عن طول رسالته يقول:” اعذرني على الإطالة فليس لدي وقت للاختصار”. ولم يفرنقع عنا القرن المنصرم ، إلا وكانت مصر قد أنجبت سيد الاختصارات والتكثيفات الساخر جلال عامر في 25 سبتمر عام 1952…عام الثورة.
قبل أن يكون ساخرا، كان عسكريا، وشارك في ثلاثة حروب ضد إسرائيل(لكنه مات وهو يخوض حرب الثلاث وجبات)، وساهم ضابطا في حرب تشرين عام 1973 وشارك في معركة تحرير منطقة القنطرة، وكان يكتب الشعر والقصة. ثم تحول – ربما بعد تقاعده- إلى كاتب ساخر لم تنجب مصر مثيلا له حتى الآن. وكان قد درس القانون في كلية الآداب، وعمل في بداياته الكتابية صحفيا في جريدة “القاهرة” الرسمية.
صحيح أن مصر أنجبت الكثير من الساخرين ، وكان أول نص ساخر في منطقة الشرق الأوسط كتبه مصري …على لسان العبد الذي يسخر من سادته، وقد وجد النص محفوظا في مخطوطات الفراعنه قبل خمسة آلاف عام.
وصحيح أن مصر في العصر الحالي أنجبت محمود السعدني وأحمد رجب ويوسف معاطي وفيليب جلاب وأحمد فؤاد نجم والعشرات، لا بل المئات غيرهم …..لكن جلال عامر يبقى حتى الآن سيد النثر المصري الساخر .
انضم جلال عامر إلى سادة التكثيف بين رواد السخرية العالميين، من اليوغسلافي المقدوني تشيدومير إلى الفيلسوف الأيرلندي برنارد شو والأمريكي مارك توين، ليتفوق عليهم جميعا في تخصصة بالكلمة المكثفة، إضافة إلى اعتماده ما يسمى في عالم النقد الأدبي بتيار الوعي والتداعي الحر ، الذي يستخدمه الروائيون الكبار ، أمثال فوكنر وفرجينيا وولف، لكن جلال عامر كان أول من استخدمه بشكل عبقري في الجملة الساخرة المكثفة.
توفي جلال عامر عام 2012 في منطقة راس التين في الإسكندرية، إذ أصيب بنوبة قلبية حادة، خلال مشاركته في مظاهرة ضد حكم العسكر ، عند هجوم فيالق من البلطجية على المتظاهرين، فغضب إذا رأى أهل مصر يقتل بعضهم بعضا..وظل يصرخ قائلا:”المصريين بموتوا بعض” ،وظل يرددها في المستشفى العام الذي نقل عليه إلى أن توفي بعد عدة أيام…وقال قبل وفاته بقليل:” مشكلة المصريين الكبرى أنهم يعيشون في مكان واحد، لكن في أزمنة مختلفة”… وهو قول ينطبق على العرب جميعا.
ترك جلال عمر وراءه عدة كتب ، وصلني منها كتاب “مصر على كف عفريت”، وكتاب “قصر الكلام” الذي كان في المطبعة عند وفاته، وصدر بعدها، وقد تصدرته كتابات لزوجته ولكريمته رانيا ولأولاده راجي ورامي ينعون فقيدهم – بل فقيدنا جميعا- الكبير.
الثروة الكبرى التي تركها الفقيد الكبير كانت كتاباته الكثيرة والمتنوعة والممتعة التي نشرها في عموده اليومي “تخاريف” في جريدة “المصري اليوم”، وكتابات في صحيفة الأهالي ، إضافة إلى مئات المشارات في مواقع الكترونية مثل موقع”الحوار المتمدن” وغيره، ما تزال روائعه تجتذب الكثير من القراء ، وبعضهم يقتبس منها وينشره في الفيس بوك والتويتر وبقية وسائل التواصل الاجتماعي، وأنا واحد من هؤلاء المسحورين بكتابات جلال عامر التي يصعب، بل يستحيل، تقليدها.
في مقدمة كتابة “مصر على كف عفريت ” كتب جلال عامر:
– هذا الكتاب لبحث حالة وطن كان يملك غطاء من ذهب، فأصبح بدون غطاء بلاعة.
– ..فقد بدأت مصر بحفظ الموتى، وانتهت بحفظ الأناشيد، مع أن كل مسؤول يتولى منصبه يقسم بأنه سوف يسهر على راحة الشعب، دون أن يحدد أين يسهر ولساعة كام.
– ..لم يعد في مصر من يستحق أن نحمله على أكتافنا سوى انبوبة الغاز
اما كتابة الكبير قصر الكلام(بضمّ حرف الصاد) فهو معجم رائع لتركته العملاقة ، وسوف اقتبس هنا بعض التكثيفات المذهلة:
– في مصر يموت الميت و(نصوّت)عليه، وفي أول انتخابات يعود ليصوت بنفسه.
– هناك يدا خفية في مصر تمنعها من الدخول في العصر النووي والاكتفاء بعصر الليمون.
– استمرار لظاهرة التدين الشكلي التي تنتشر هذه الأيام، أصبح معظم سائقي التاكسي يشغلون “القرآن”، ومع ذلك لا يشغّلون “العدّاد.
– 
– هذه هي الوحدة الوطنية، عندنا بوليس، وعندنا حرامية، وكل واحد قاعد في حاله، إعمالا لمبدأ قبول الآخر.
– إذا الشعب أراد “الحياة” أو”دريم” أو”المحور” فلا بد أن يستجيب الريموت.
– كان نفسي اطلع محلل استراتيجي، لكن أهلي ضغطوا عليي لأكمل تعليمي.
– كلنا أبونا آدم، إلا الحكومة أبوها “آدم سميث”.
– نصحتك لا تبع الثلج في بلاد الأسكيمو، ولا تبع الجهل في بلاد العرب.
– النيل ينبع من بحيرة فكتوريا، ثم يصب في خراطيم المياه في ميدان التحرير.
– 
– المرشح يقبّل يد الناخب لينتخبه، وبعد شهر، الناخب يقبل يد المرشح لخدمه.
– ليس من حقك أن تتطلع إلى منصب مهم في بلدك، فهي مثل مقاعد الأوتوبيس مخصصة لكبار السن.
وليس آخرا
اعترف أولا أنني منحاز لهذا العبقري ، ولا يمكنني أن أصف شهادتي عنه بالموضوعيّة، وأعترف ثانيا، بأنني لم أعطه كامل حقه في هذه العجالة، وأتمنى على كل قارئ أن يبحث عن كتاباته وكتبه في المواقع والمكتبات ، وليقرأها… ولن يشتمني على الأقل.
وكتب جلال عامر عن نفسه، على غلاف كتابه الأخير:
عابرسبيل
ابن الحارة المصرية
ليس لي صاحب…
لذلك كما ظهرت فجأة
سوف أختفي فجأة…
فحاول تفتكرني
وخير ما انهي به هذه الكلمات هو عبارة نشرها نجل جلال عامر على الفيسبوك يوم وفاته يقول فيها:” جلال عامر لم يمت، فكيف تموت الفكرة؟؟؟؟ الفكرة مقدر لها الخلود.
_____
المصدر: العين 
*كاتب أردني.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *