رأسُ السنة 4.. أمطار ديسمبر البيضاء


*وحيد ابوالجول


خاص ( ثقافات )
بدا له الصباح مختلفاً وهو يمضي بقدميه خارج غرفته في اليوم الأول من شهر ديسمبر والذي يجده ملائماً لروحه وهي تتفقد عن قرب النجوم المتساقطة على الرصيف والملاحظات المتخمة برائحة القرنفل الشهي وتأوهات حنان واتقاد لسانها الذي يلعق الملح الذي يخرج من مسامات جسده وهو يجذبها لأضلعه فتتوسد صدره بكل أنوثتها وبريقها الذي يتوجه بأنفاسه , يضج بها لأحراق الدقائق الملاصقة لجسده , يحملها للذة على طول قامتها وكأنه ناراً مستعرة تغوص في داخل عروقها وبجوار حلمه الطفولي والطرقات التي قرأ عنها والأراضي الشاسعة والمدن البرونزية .. تنفس قطرات المطر الخفيف الذي صادفه وهو يتجاوز الساعة الثامنة صباحاً بشعور طفل صغير يراقص يديه والنسمة الهفهافة التي تقرص خديه , قفز ليلامس طرف غصن شجرة , كان مسروراً على غير عادته , يمازح الأولاد الذين خرجوا للمطر بقمصانهم الجديدة والنساء اللواتي يعرفنه وبائع الأحذية الذي يرميه بالنكات كلما مر على وجهه العبوس .
لم تكن البيوت المتراصة ببعض سوى إيماءة تشبه الحياة في شهر ديسمبر تخرج منها رائحة طيبة وأغاني تجعل من الصباح أكثر نضوجاً من ساعات الليل الأخيرة , الشوارع المكتظة بظلال أرجوانية ممزوجة بغبار خفيف , السماء القريبة من الرؤوس لها لون التفاح الأخضر , واجهات المباني مازالت نائمة على كتفي الشمس , بعض الأماني تنظر لأفق اليوم من على سطوح البيوت , الأزواج المنهمكين بالعيش نمت بجوار أنفاسهم شجيرات صغيرة يستظلون بها كلما شعروا بالتعب ورغبة بمواصلة الكسب .. شعر بالجوع , نظر السماء تلك التفاحة الخضراء الكبيرة , ضحك وهو يرجع بقلبه إلى الوراء .
ــ أشعر بالجوع .
ضحك سامي .
ــ في كل وقت تشعر بالجوع .
ابتسمَ .
ــ هنَّ النساء من يفتحن شهيتي .
ــ هو أنت منذ بلغت عقلك تخلقهن في لحظة .
ــ هنَّ شهيات سامي ككتاب لا يتركك تغادره .
ــ لهنَّ عمق وردي …. لذيذ . 
ــ يشبه البداية .
ضحك من عقله الذي بلغه في سن الثانية عشر والذي مازال يجوبه بحثاً عن نساء كلما شعر بالجوع , كرر النظر إلى السماء ( إنك شهية ) تقدم جوعه بخطوات عبر بها الشارع باتجاه مقهى صغير , جلس في زاوية تمكنه من رؤية الشارع والمارة الذين يتباطؤون بحركة أقدامهم كلما اقترب الوقت من المساء ومن أعينهم التي تحاول الوصول إلى ما خلفوه وراءهم بأقل جهد , طلب قهوته , أشعل سيجارة , دفع برأسه إلى الأمام لتفحص الدقائق المهملة في ذاكرته والقرى التي امتدت على طول خط الاستواء , ذلك اللهاث الوهمي الذي يحاول نزعه لأيام وإغراقه في تكهن آخر غير الفقر الذي يحدث هناك والعظام التي تنمو حتى تصل إلى ارتفاع هش .
ــ تفضل قهوتك كما تحبها بدون سكر .
ــ شكراً .
ابتسم لذكرياته وهو يرتشف قهوته والهاجس الذي دغدغ مقدمة رأسه , أخرج من جيب معطفه قصاصة ورقية هزيلة , همهم , ثم أرجعها إلى جيبه ( الوقت يمر سريعاً ) ذاك المهمل كساعة اليد المعطلة التي قايضها بسيجار كوبي فاخر مع بائع خردوات , الجزء الذي يراه من حياته معطلاً , فقط النظر من ثقب كبير في جدار الغرفة إلى الشارع الممتلئ بفضلات الأسرة واللعاب الفائض عن الحاجة وأصوات أبواق نشاز تزيد من وجع الرأس بعد كل محاولة ترجع قلبه إلى نقطة البداية لرفع الزوائد العالقة بجسده ( هراء ) قال لنفسه , ضحك بصوت عالٍ , أخفى رأسه بين كتفيه معتذراً من شاب يجلس بجواره .
ــ آسف .
قال الشاب مع ابتسامة علت ملامح وجهه .
ــ لا تشغل نفسك بوجودي .
كان يرى الوجود فقاعة كبيرة وأن حياته مجرد عرض شيق يبدأ بلعنة وينتهي بلعنة وما بين اللعنتين فراغات كثيرة يحاول إشغالها بالقراءة والفرص الوهمية وآثار الشغب على سريره والطريق الذي يسلكه من وقت لآخر في جوف خياله الخصب تاركاً بعد كل متر يقطعه أثراً لابتسامته ودائرة بيضاء صغيرة يحيطها بوجهات النظر المصاحبة لهواجسه التي تسكن مقدمة الرأس وما يشاهد من ظلال وفتيات صغيرات وهنَّ يبرزن أنوثتهن للهواء الطلق وشفاههنَّ للرذاذ في مراوغة لا تخلو من اللذة , ابتسم وهو يخبأ ضحكته في جيب معطفه الأسود الصوفي بعد أن غمز الثالثة بعد الظهر بطرف عينه وهو يهمس للشاب .
ــ كل هذا هراء .
قال الشاب مستغرباً .
ــ ماذا .
ــ ما يحدث الآن .
ابتسم الشاب في ظن أن الرجل مجنون .
ــ وماذا يحدث .
ضحكَ وهو يخرجُ بجسده إلى الشارع تاركاً الشاب على كرسيه يتفقد بنظراته ظنه الذي شغل عقله ( ماذا يحدث الآن ) والغرابة التي التصقت بواجهة المقهى الزجاجية وملابسه الأنيقة وربطة عنقه الزهرية .. كان الفراغ هو ما يحدث الآن , ما شعر به حين خبأ ضحكته في جيب معطفه وذكرى قديمة مرت من أمامه حين تفحص كتلة هلامية تزحف على الأسفلت الرديء بمطباته الكثيرة .. لم تكن الظهيرة وحدها من أحاطها بالضحك , كانت عيناه أيضاً والمقهى الذي اعتاد الجلوس فيه والوقت المهمل والأجساد التي يخرج من زغبها الروائح الطيبة كلما لامسها بأطراف أصابع يديه والهواجس المضيئة والغد الذي يراه قريباً من مساء يوم الأحد القادم ببرده الخفيف .. طبع ابتسامته على خدي النهار وهو يحمله بعيداً عن ضجيج الشوارع , جالسه في غرفته في انتظار وجبة العشاء بعد جوع أنهك قلبه وزاد في شحوب وجهه .. كان صوت حنان وضجرها من الوقت الذي يمر سريعاً يصل معدته الخاوية وفمه الذي لبسه الجفاف , شعر بالغثيان , نظر إلى الشمس التي لم يتبقى منها إلا خيطاً أحمرَ قاني من خلال الثقب الكبير الذي أحدثه في الجدار , تنفس بعمق , قَلبَ ببطء صفحات الكتاب الذي لازمه لأكثر من سنتين , وقف عند الجانب الشرقي لنهر يمتد بمحاذاة المغيب وعلى طول الاف الأميال المحشوة بأجساد سوداء هزيلة وأحجار بركانية وعظام لحيوانات ميتة وأنسجة عناكب كبيرة وقرى متفرقة مبنية على مرتفعات صخرية , أذهله المكان والمرأة التي خرجت من طرف صوته وركضت باتجاه النهر , جلس على سريره المعدني وعيناه تراقب نزول الليل .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *