
* محمد إبراهيم الهاشمي
خاص ( ثقافات )
جَالِسٌ أمام النافذة ، ينظر إلى الخارج ، ومستغرق في التفكير
يومٌ آخرُ ممطرْ .. يظل للمطر سحره الخاص
كثر يحبون المطر .. المشتاقون و الفلاحون
لا أعلم لماذا يتم دائما الربط بين المطر و الشوق لمن نحب .. هل لأنه يحبس شريحة واسعة من الناس في بيوتهم ، مما يضطرهم لقضاء الوقت مع بعضهم في جو من الحميمية و تبادل الحديث والذكريات
أم لأنه يحرك شهوة المشي تحته برفقة شخص آخر
لا أعلم
و لكن صدقا .. المطر يغسل القلب من أحزانه ، يجعلنا نتفاءل بالغد ، و يحرك شوقنا للحلم و لمن نحب
و أنا الآن أشاهد المطر .. أشتاق لك .. أشتاق للبعيدين .. وللذين غادرونا
لم يحدث شيء يذكر الأيام الماضية .. كأنه نفس اليوم يتكرر ، السماء يكسوها اللون الرمادي ، ولا أعرف لماذا أتضايق من لون السماء كلما كانت رمادية
لا أذكر تحديدا ، كم مرة رأيت المطر ينهمر و الشمس مشرقة ، ربما مرة أو اثنتين .. فهذا شيء نادر الحدوث في سماء طرابلس ..و لكن ما أذكره هو شدة ابتهاجي
أَنْ يجتمع المطر و نور الشمس ، شيء مميز حقا ..و لو كان الأمر بيدي لزدت عدد مرات حدوث ذلك ، و لكن هذا كأشياء أخرى ، ليس بأيدينا
هذا ما هو عليه الحال الآن ، المطر ينهمر و أنا أشاهده ، و أتجنب النظر إلى السماء الرمادية .. أشتاق لك ، أشتاق للبعيدين ، و للذين غادرونا
الناس هنا يحبون المطر ، و يحبون رمزيته للخير .. رغم أنهم يتضايقون من البلل الذي يصيب أحذيتهم الرخيصة ، والوحل الذي غالبا ما يلطخ ملابسهم ، والتفافهم من شارع إلى لآخر ، لأن المطر يغلقه
يظل حبهم للمطر كما هو ، و لا يسمحون لأي شيء من هذا ، بأن يغير من هذا الحب
– تفضل قهوتك
يلتفت ناحية الصوت .. الممرضة فاطمة
– شكرا يا فاطمة
– العفو
يدخل ممرض آخر وهو يصرخ محادثا الطبيب : عليك أن تأتي بسرعة
ينهض الطبيب بسرعة للحاق بالممرض الذي خرج مسرعا
وجد على السرير في حجرة الإسعاف ، شابا في السابعة والعشرين ، مغمىً عليه ، كل جسمه جروح ، و ممرضة تقوم بقص ملابسه بمقص لكي يتم إسعاف الجروح
ذهل لحجم جروحه .
* *
بعد إسعافه للمصاب و القيام بما تقتضي الحالة ، خرج من الغرفة .. هرع إليه رجلان يسألان عن الشاب المصاب
– كيف هو الآن
– بخير
– هل ستشفى جراحه
– أجل . و لكن ستبقى آثارها .. فالجروح عميقة
ما سبب هذه الجروح .. حقيقة لم أعرف ما يمكن أن يسبب مثل هذه الإصابة . ما الذي جعل ملابسه تتمزق و هي على جسده ، و الجراح منتشرة في معظم مناطق الجسد
– آه يا دكتور
قالها أحد الرجلين . الأكبر سنا .. كانت هيئته و ملامحه تدل على أنه في نهاية العقد الخامس من عمره
نحن من تاورغاء ، و نعيش في ذلك المخيم القريب من هنا
” ذلك المخيم ، سحقا للأيام .. قالها الطبيب بينه و بين نفسه ”
يكمل الرجل حديثه – بالأمس جاءت إحدى الميليشيات و قامت بأخذه .. بعد أن حققوا معه و لم يجدوا أنه متورط في أي شيء ، قاموا بربطه بحبل في السيارة ، و جره على ساحة معسكرهم و السيارة تجري .. و من ثم رموه في فناء المخيم و هو ينزف
لم يصدق الطبيب ما يسمعه .. يُسْلَخُ إنسان و هو حي . أي وحشية هذه .. ساحة المعسكر إسمنتية ، و بها فناء ممتلئ بحجارة صغيرة
استمر الرجل الخمسيني في الحديث ، و لكن الطبيب لم يكن يسمعه ، توقف دماغه و تخدرت حواسه .. طنين في الرأس ، و صداع مميت
* *
في اليوم التالي ، و هو متجه إلى الغرفة التي يرتاح بها الأطباء ، شاهد فتاة سمراء تبكي أمام غرفة الشاب الذي أسعفه بالأمس .. لم يشغله الأمر كثيرا .. فقد تعود على مثل هذه الأمور . فالموت و البكاء أيضا ، أشياء تصبح عادية عندما تكرر كثيرا أمامك
في الحجرة ، حيث يرتاح الأطباء تحادثه الممرضة فاطمة
– مسكينة هذه الفتاة .. إنها خطيبته
لم يعرف بماذا يرد . كل ما فعله هو أنه استمر في النظر و الاستماع إلى فاطمة
تصور أنهما مخطوبان منذ 2009 .. كان مقررا زواجهما في نوفمبر 2011 ، و لكن للقدر أحكام أخرى
فكر بينه و بين نفسه .. منذ 2009 ، أي منذ أربع سنوات
انتقلت فاطمة للحديث عن موضوع آخر ، عن أطفالها و عن الحياة .. و عاد هو ينظر من خلال النافذة ، إلى ما وراء النافذة ، إلى ذلك المخيم
* *
توطدت علاقة الطبيب أكثر بذلك الشاب ، الذي جاء قبل أيام و هو مصاب .. يزوره يوميا ، لتبادل الحديث و قضاء بعض الوقت
اسمه أحمد ، مهنته كهربائي و ضحكته لا تغيب أبدا
خطيبته مرحة مثله ، اسمها صفية ، تصغره بعام .. متناغمان إلى حد يثير الذهول ، من يراهما يقسم أنهما يعيشان معا منذ عقود .. لا تمل من الطواف حوله .. إن احتاج شيئا ، تعرف ما هو من حركة جسده
في الحجرة حيث يقيم أحمد لتلقي العلاج .. يجلس الطبيب بجانبه على السرير و نظرهما باتجاه النافذة
تناولهم صفية كوبين من الشاي ، و تحادث أحمد
– سأذهب لأتمشى قليلا في الحديقة ، هل تريد شيئا آخر
– أن تطلي عليَ و أنت تبتسمين
تبتسم صفية ذَاتَ الابتسامة الرقيقة و تخرج
الطبيب – هل يمكنني أن أسألك
أحمد – تفضل أرجوك
– لماذا لا تتزوجان
يصمت أحمد قليلا
– بالتأكيد تعلم حجم البؤس الذي نعيشه في ذلك المخيم
– إلى حد ما
– على الرغم من الأوضاع المزرية للمخيم ، و كما تعلم أنني أشتغل كهربائي .. حالتي المادية جيدة ، يمكنني تأجير مسكن و الانتقال إليه أنا و أمي و صفية
عندما سَأَلْتُ أمي عن الانتقال من المخيم ، رفضت الانتقال .. و لكنها ألحت علَيَ للانتقال أنا و صفية كزوجين
لا تريد مفارقة جيرانها و أقربائها . كبار السن ، كالأشجار العظيمة ، كلما كبرت ازدادت قوة .
تعلو ضحكته و يستطرد . أمي شجرة عظيمة يغطي ظلها الجميع
لو رأيتها عندما كنا في تاورغاء ، تهتم بالكل . بوالدي و بي ، بخمسين شجرة ، بقرة ، عشرة أغنام ، و بضع دجاجات
كان أبي دائم المزاح معها ، مريم في رقبتك سبعون روحا
يصمت قليلا .. يعود للحديث مجددا – أبي لم يستطع مفارقة أرضه ، توفي بعد خروجنا بأسابيع .. كان يريد أن يُدْفَنَ في تاورغاء ، و لكن كما تعلم …
على الرغم بكل ما مرت به ، تبقى دائما قوية
ابتسم .. فقد أصبحت صفية مرئية من خلال النافذة
يشع بريق من عينيه و يعود للحديث – هل جربت يوما أن تأكل التمر و هو رطب قبل أن يتم قطافه ، أي وهو في العرجون
– لا
– عليك أن تجرب ذلك .. عندما نعود سنفعل ذلك سويا أنا و أنت
– بإذن الله
و لكنك لم تجبني على سؤالي ، لماذا لا تتزوجان
– آه نسيت .. على الرغم من البؤس الذي نعيشه في المخيم .. معظم الليالي أقضيها برفقة صفية نشاهد النجوم .. يضحك مجددا . تصور لم يفتنا أي اكتمال للقمر
صفية مثل أمي تماما . لا تريد مفارقة أقربائها و أصدقاءها .. عندما نكون مع بعضنا و ننهض ليذهب كل منا إلى مسكنه الصغير من الأنابيب البلاستيكية و الصفيح لينام . عندما تلتفت لي قبل دخولها مودعة إياي بابتسامة ، حينها أنسى البؤس ، المخيم ، وكل شيء
على الرغم من أنها أحيانا تبيت و هي تبكي
– حبا بالله لماذا لا تجيبني بكلمتين
تعلوا ضحكة أحمد مجددا و يهتز كامل جسمه من شدة الضحك
– بيتنا الذي سنعيش فيه ينتظرنا ، مسألة وقت فقط .. هكذا نجيب أنا و صفية كل من يسألنا
سنعود قريبا ، و نعيش في بيتنا كزوجين وسط أرضنا و بين أشجار أبي .. ستأتي لتزورني ، و سأسمي ولدي الأول تيمنا بك ” رضا “.
______
– القصة عن شخصيتين من مدينة تاورغاء . مدينة ساحلية ليبية تم تهجير جميع أهلها ، بعد أحداث ثورة 17 فبراير ، و يعيش معظم أهلها في مخيمات متفرقة داخل ليبيا.
– تم نشر القصة في موقع ليبيا المستقبل من قبل.