صدى المتاهة




*ناصر سالم المقرحي


خاص ( ثقافات )
كنتُ قبل البدء في قراءة مجموعة الكُتب التي اقتنيتها من معرض الكتاب قد عزمت على أن لا أكتب عن أي منها تارِكاً ذلك لفرصة أُخرى قد تأتي أو لا تأتي . مفسحاً المجال كامِلاً للأستمتاع بمطالعتها واستشفاف جمالياتها والأضطلاع بدور المتلقي باقتدار , غير أن المجموعة الشعرية موضوع قراءتنا هذه ظلت على الرغم من الحصار الذي فرضته على نفسي تجذبني إلى حقل الكتابة وتُغريني بهذا الفعل إلى أن قمت بذلك صاغراً في نهاية الأمر .
هو ديوان ” تأبط منفى” الصادر عام 2001 والذي أودع فيه الشاعر العراقي عدنان الصائغ خُلاصة ما جادت بِهِ قريحته فيما يخص موضوع المنافي والمَهاجر التي دفعته إليها قسوة الأوضاع , حين طوى وطنه في حقائب وانطلق ذات سانحة في رحلة طويلة لم تنتهي حتى اللحظة هيأَ لها مبكراً بأحد دواوينه الكثيرة بقوله :-
بين عمر يذوب 
وحلم يسافر نحو البلاد القصية
نحو السماوات 
تومض بين الحشا
نجمة مستحيلة .
وبعكس دواوينه السابقة التي اشتملت على خاصية الرمزية وشابَ قصائدها نوع من الغموض وتلاعب فيها على مؤشر الضبابية ونسبية الرؤية وتجريديتها لأسباب فنية وبسبب أنُ لا يزال مقيما بالعراق حتى ذلك الوقت في ظل نظام حكم صارم وغير متساهل وهو السبب الأهم الذي نرى أنهُ حدَ من انطلاق الشعر في شِعاب البوح , بعكس ذلك نراه هنا ينحو إلى الصياغة الشعرية البسيطة والمُيسرة في غير تقريرية ومُباشَرة فجة بسبب جرعة الحرية التي تعاطاها , دون أن تتخلى هذه الصياغة عن محمولاتها من الإدهاش والمباغتة والمُفارقة الحابسة للأنفاس نتيجة الوضوح الذي قد يكون مربكاً ومراوغاً وحتى صادماً , وذهب إلى استعمال المأنوس والقريب من الكلمات حين أسرف في تشريح دوافع ونتائج الهِجرة القسرية نحو المتاهات الفاغِرة أفواهها دائماً استعداداً لابتلاع كل من تقذف به الأقدار إليها وانطلاقاً من تجربته الشخصية في هذا الشأن والتي لا تزال إلى ذلك الحين تجربة حديثة ومتواضعة , ومن أقدر من الشعراء على نقل هذه التجربة الإنسانية بكل أفراحه وآلامها . .
وعلى طريقة قصيدة الهايكو اليابانية وقصيدة البيت الواحد أو ما عُرِفَ في زمناً ما ببيت القصيد لم يزِد الشاعر عن أن يضع شحنته الأنفعالية ودفقته الشعورية وخُلاصة أحاسيسه وردة فعله الجياشة عما يختبر نفسياً وواقعياً في بضعة أسطُر وعدة مفردات في الأعم – إذا ما أستثنينا بعض المطولات – , تُلمح أكثر مما تُفصح , حمّلها كل ما يؤمن به من قيم نبيل كالمحبة والعدل والخير والتسامح والسلام والحرية والمساواة وهي القيم الإنسانية العالية التي ظل سؤالها الكبير يتردد صداه طويلاً ويمتد إلى كل نص جديد في المجموعة , وخير ما يرمز إلى قيمة الحرية التي قصدها الشاعر في هذا الديوان ونشدها في حياته والتي تُشير من طرف خفي إلى مِحنته الذاتية وحريته الشخصية قوله :-
بين القفص المملوء حبوباً
والأُفق الأجرد
يصفق طير الشعر جناحيه
بعيداً
في الريح 
ولن يتردد .
وما الطير هنا إلا الشاعر وما الأفق الأجرد إلا الحرية فمرحبا بالجوع إن كان في أُفق الحرية وكنف السلام برأي الشاعر وبرأي كل من يتوق للأنعتاق من ربقة العبودية , ولنبرة الحزن الذي طغت على القصيدة العراقية الحديثة ووسمتها بميسمها نتيجة الأوضاع السياسية والصراعات الدامية التي أنهكت العراق , حضور واثق هنا أيضا كما لو أن الشاعر شأنه شأن كل أو جل شعراء العراق الحديث لا يستطيع إلا أن يكون حزيناً ومنشغلاً إلى حد بعيد بمستقبل بلاده وحاملاً لهمومه التي لا تنفك تتضخم .
وبقدر ما كان الكاتب هنا شاعراً كان سارِداً عندما أقحم السرد في متاهة الشعر وألبس القصيدة أهاب القصة وواءمَ بينهما في شكل متحد على اختلاف منطلقات ومعطيات واشتراطات نهوض كل منهم , وللبرهنة على هذا الملمح نكتفي بإيراد هذا النص القصير .
الذين صفوا
في ساحة الإعدام
حملقوا بعيون مرتجفة
إلى الفوهات السود
المصوبة إلى رؤوسهم الحليقة
لكنهم لم يروا عيون القتلة 
كانت محجوبة خلف صف البنادق الطويل
لهذا ظلت نظراتهم
مُسمرة نحونا
. . إلى الأبد .
وهنا حكاية طفيفة وقصة قصيرة جداً أخذت من الشعر شكله المقتضب وإيحاءاته المضيئة :-
على رصيف شارع الحمراء
يعبر رجل الدين بمسبحته الطويلة
يعبر الصعلوك بأحلامه الحافية
يعبر السياسي مُفخخاً برأس المال 
يعبر المثقف ضائِعاً
بين ساهو وحي السلم
الكل يمر مسرعاً ولا يلتفت
للمتسول الأعمى
وحده المطر ينقط على راحته الممدودة باتجاه الله .
مع الإشارة إلى أن قراءة أحد هذه النصوص التي تُشبه في وجه من وجوهها الكثيرة أختزال علاج فعال في قرص صغير مُركز وشديد التأثير واختصار لعناصر شتى , لا يستغرق أمر القراءة هنا وهي الفِعل الأجدى والأبقى في المشروع الثقافي سوى ثانية أو اثنتين بينما يتطلب أمر الوقوف على المعنى الجامع واستخلاص الجماليات والحصول على المُتعة غير مجتزئة أو منقوصة إلى أوقات مُديدة ومضاعفة مئات المرات , إلى جانب أن نصوص الديوان مركز القراءة هي من النوع الذي يجبر القارئ على الأنقطاع عن القراءة بين الحين والآخر بغرض التدبر في المقاصد , وهي أيضاً من القصائد التي لا تكتفي قراءة عابرة للإلمام بحيثياتها فلا بأس من العودة إليها بين الفينة والأخرى طالما كان ذلك ممكناُ لتتبع اتجاهاتها المتجددة .
والقصائد النثرية على قُصرها الشديد تعد تنويعة طويلة على تيمة واحدة وموضوع محدد سلفاً أو لِنقُل بشيء من الإيضاح أنها مرثية مسترسلة للوطن السليب زاخِرة بالصِور الشعرية المبتكرة فالشاعر يعول كثيراً على هذه الميزة , ولعلها الميزة الوحيدة لدينا التي احتفظت بسر جمال القصائد ولأنهُ عصر الصورة عن جدارة واستحقاق هذا العصر , كان لزاماً على الشعر القابل للتطور ومُسايرة العصر أن يكون تصويراً بالكلمات وهو ما نعتقد أنهُ تحقق وإلى حد بعيد , ولننظر إلى هذه الصورة البسيطة ولنتأمل في ألوانها زاخرة الدلالات .
قال أبي
لا تقصص رؤياك على أحد
فالشارع ملغوم بالآذان
كلُ أذن
يربطها سلك سري بالأُخرى
حتى تصل السلطان .
وبعد تجاوز التناص الواضح على مستوى الكلمات مع النص القرآني وبقليل من الخيال هل نستطيع أن نتخيل كيفية اتصال الآذان ببعضها حتى تؤدي مهمتها في إيصال المعلومة للنظام الديكتاتوري عبر هذه الصورة الناطقة .
ويقف القارئ إلى ذلك من خلال ما رشحت به القصائد على الممارسات القمعية التي قد توقعها الديكتاتوريات بذواتها وبشعوبها ذات غفلة قد تطول أو تقصُر .
والحال كذلك لم يتردد الشاعر وهو المتجرد في بلاد الغربة إلا من كلمته ووِحدته في أن يتخذ من القصيدة وطناً بديلاً يأوي إليه في ظل فقدانه لوطنه الأصلي , وإلى حين العثور عليه وكما يتمناه تبقى القصيدة خير ملاذ ومأوى للشاعر هذا إن لم يقتله الحنين إلى ما فقد قبل ذلك .
وإيماءً إلى التسمية الأصلية ” تأبط شراً ” والتي استقى منها الشاعر تسميته الخاصة ” تأبط منفى ” كعنوان يكتسب إضافة إلى أنهُ عتبة مهمة دِلالاته ويستمد أهميته من تناصه مع الشخصية التراثية صاحبة الحكاية المشهورة , وتوظيف النماذج التراثية ميزة أخرى شائعة ورائجة اشتغل عليها في وقتٌ ما العديد من الشعراء العرب مثلما فعل الشاعر الليبي مفتاح العماري مع شخصية الشنفرى وشخصية ديك الجن الذي منحه في انعطافه غير مسبوقة ملامحه الطرابلسية – نسبة إلى مدينة طرابلس –وهو الشيء الذي فعله أدونيس قبل ذلك مع مهيار الدمشقي ذات ديوان مبكر , وكما فعل غيره مع وضاح اليمن وأقطاب الصوفية وأعلام الحب العُذري وغيرهم وقالوا عبرهم ما يودون قوله والبوح به دون أن تلاحقهم سياط السلطة وعيونها المبثوثة في كل مكان ودون أن تطالهم رماح العيب والحرام والممنوع , غير أن التوظيف في هذا الموضع لم يكُن مباشراً أو لِنقُل أن التلامس كانَ عن بُعد وتلك لمحة فنية تُحسب لمستثمرها .
ولا بأس من الأستطراد لنُشير إلى أنهُ – وفي مجال المقارنة – توجد عدة قواسم مشتركة بين الشاعرين الليبي مفتاح العماري والشاعر العراقي عدنان الصائغ سواء في القاموس اللغوي المتقارب الذي ينهل منه كل شاعر مفرداته وينحت ألفاظه أو في التجربة الإنسانية المتشابهة وبدرجات متفاوتة التي مر بها كل منهما وضمّن بعضا من تفاصيلها في شعره , فالكاكي وهو نوع من الملابس العسكرية والبساطل أو الأحذية العسكرية الثقيلة والخود والطلقات والرصاص والبنادق كلها مفاتيح لشعر كليهما الذي يمتح من حياة الثكنات ونسق الخطوط الأمامية والسواتر في مرحلة ما , وثمة نغمة واحدة يعزفها كل منهما بآلاته الموسيقية الخاصة وسمات أُخرى يشترك فيها الشاعران بإمكان الباحث اكتشافها بيسر من خلال قراءتهما . 
والديوان مع ذلك يلخص ويختصر تجربة أنسانية عميقة ومحفوفة بالألم مع الغربة المكانية وما يتبعها بالضرورة من اغتراب نفسي ووجودي وتخلخل على مستوى الروح يعيشهما المغترب ولحُسن طالعنا كمتلقين فأن المغترب في هذه الحالة كانَ شاعراً أفلح في أن يُذوِّب معاناته ويترجمها إلى كلام عذب ويُدون نُتفاُ من هذه التجربة وينقلها إلينا شِعراً , وهي من أغنى التجارب الشعرية التي تناولت هذا المنحى من النشاط البشري والتدافع الإنساني , وهي بهذا المعنى من أفضل ما تم تسطيره في شأن المنافي أو ما نعتها هو ووصفها ببعض قصائده بالمتاه كزيادة في تعميق الإحساس بمعناها وتأكيداً لقسوة الحياة في ظلها حتى وإن توفرت للتائه تبعاً لهذا المعنى كل ضرورات الحياة المادية ورفاهية العيش , فمرارة الغربة لا تقدر كل سكريات العالم على محوها وإزالتها من نفس المغترب , سوى أن ما يدفعه للأغتراب أمرّ .
وطني حزين أكثر مما يجب
وأغنياتي جامحة وشرسة وخجولة
سأتمدد على أول رصيف في أوروبا
رافعاً ساقيَ أمام المارة 
لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات 
التي أوصلتني إلى هنا 
ليس ما أحمله في جيبي جواز سفر 
وإنما تاريخ قهر . 
وهو ذات القهر الذي ينحسر عنه بين الفينة والأخرى ليهتف نادماً .
أية بلاد هذه
ومع ذلك
ما أن نرحل عنها بضع خطوات
حتى نتكسر من الحنين
ونهرع إلى صناديق البريد
نحضنها ونبكي .
كُتبت قصائد الديوان المذكور خلال النصف الأخير من عشرية التسعينيات في وقت كان فيه العالم يتهيأ لقطع المسافة القصيرة الواصلة إلى الألفية الثالثة حيثُ شهِدت هذه الفترة وبكل المقاييس تحولات ضخمة على المستويين العربي والعالمي وتركت هذه التغييرات آثارها الخطيرة وأفرزت ظواهرها التي تتصدرها ظاهرة تنامي الهجرات الشرعية واللا شرعية خاصة من الجنوب الفقير إلى الشمال المُتخم , وهو ما صبغ القصائد ببعض تجليات هذه المظاهر الوليدة الني عاصرها النَّاص / الشاعر واخترقت وعيه بحدة كونه أحد أدوات تمظهرها وكونهُ أيضاً ضحية من ضحايا هذه الأوضاع المستجدة .
وحرص الشاعر مع كل كتابة أن يُذيل كل قصيدة بلحظة اقتناصها من يد المجهول – أي تاريخها ومكان تدوينها – في إشارة إلى اتساع خُطاه في المنافي وتوغله عميقاً في مرابع التيه فمن بغداد المبتدأ والكوفة بالعراق وبيروت وبعلبك بلبنان مرت قافلة الشعر إلى دمشق وإلى مالمو ولوليو بالسويد وإلى روتردام بهولندا ثم إلى كوبنهاجن بالدنمارك والخرطوم بالسودان وإلى براغ وعمان بالأردن وصنعاء وأوسلو والقاهرة وبرلين وصولاً إلى أقصى نقطة بجنوب القطب الشمالي حيثُ لم تعبر السماء قذيفة مدفع منذً مائتي عام حسب تعبير الشاعر وهو القادم من بلاد السماوات المزروعة بالقذائف والمشتعلة بالحمم .
الأمر الذي يوحي بأن الشاعر كان يكتب قصائده بدم القلب وعلى عجلٍ وهو في حالة سير أو ركض من بين لُهاثه نحو هدف عصي عن التحقق هذا إذا لم نعتبر عملية التنقل المحموم تعويضاً عن الإقامة الطويلة في ذات المكان أو هروبا من هاجس داخلي مُلح وابتعاداً متعمداً عن نزيف الدم والدموع والمشاعر بعراقه الجريح لذلك لم يُخطئ الشاعر حين وصف نفسه عبر قصيدة شجية بأبن الضائع بدلاً من أبن الصائغ .
لحظة الأنعتاق الخاطفة
بماذا يفكر السهم
بالفريسة 
أم . .
بالحرية .
والشاعر انطلق وانتهى الأمر ولم يفكر في العواقب وكل ما يهمه هو الحرية فقط التي لم يتذوق طعمها كما يجب بوطنه لأسباب معروفة للجميع .
ولا شك في أن لعلامتي التاريخ والمكان أسفل القصائد دلالات وأبعاد مهمة وخاصة , أراد لها واضعها الوصول إلى المتتبع حتى يضمن تفاعله مع النصوص أو على الأقل استمالته إلى هذا الفعل وتوثيق لهذا الفعل الجاد من وجهة نظر الشاعر الذي يهمه توثيق أزمنة وأمكنة ارتكاباته الشعرية لأمرٍ في نفسه , ولا يمكن من جهة مقابلة حذف عناوين النصوص لأنها جزء أساسي منها ومُكمل لا غنى عنهُ لكل من أراد استقبال المعاني كاملة , والعناوين في الغالب لا تتجاوز الكلمة الواحدة ولكنها تنطوي على طاقة تعبيرية عالية لا تغيب إلا عن التعيس وغير الجاد من القُراء .
وكذلك بالإمكان بقليل من الجهد المعرفي بالشخصيات أستشفاف معاني إضافية عبر الإهداءات التي تتصدر النصوص , ولعلامات الإستفهام والتساؤل التي وضعها الشاعر كمداخل وكتقديم لنصوصه دلالات استثنائية كما أنَّ للنصوص التي تُرِكت بلا عناوين أو رٌقِمت تحت عنوان رئيسي واحد , إشارات تأويلية مُصاحبة وللفراغات المُنقطة التي يوجِدها الشاعر بقصيدته معاني مؤازرة , فالشاعر كأنهُ بذلك يدعو قارئه لمشاركته كتابة القصيدة هذا ناهيك عن البياض الشاسع الذي تسبح فيه الشذرات الشعرية والذي هو الأخر يحفز المتلقي لكتابة قصيدته الخاصة انطلاقا من الفراغ أو اللا شيء الذي تؤسسه القصيدة , 
وقد كُتبت هذه القصائد في الحانات والمقاهي والساحات والمكتبات العامة والقطارات والمطارات والموانئ التي ارتادها الشاعر في تطوافه الطويل وارتحاله وقضى فيها جل أوقات غربته مُراقِباً الحياة من حوله متأمِلاً مفارقاتها جامِعاً في لحظته ماضي وحاضر ومستقبل الإنسان , ومثلما ولدت قصائده بهذه الأمكنة المتباعدة كانت موضوعاً وخلفية لهذه القصائد والأجتراحات الشعرية ولم تنفصل عنها .
وفي التنقل والأرتحال حياة أخرى لهذا يقول في شذرة عابرة :-
أقدامنا . . .
أرصفة متحركة .
مُعوِضاً عما فاته وبكل مدينة يحل بها الشاعر كان العابر الهائل بنعال الريح حاملاً في جعبته أقلامه ودفاتره وكراريس الشعر مع مسراته الشحيحة وحكاياه الصغيرة وذكرياته المجللة بالسواد مختزلاً في ذاكرته ملامح من أحب , يسفك حبره في كل مرة ليدون مأساته الذاتية ومأساة شعبه المتوزع في الشتات .
ومن موقعنا كمتابعين نجد أنهُ بقدر ما في هذه التجربة من معاناة وقهر ومرارة فيها من الفائدة والمتعة لمَّا تحولت إلى فن وكانت هذه الأشعار نتيجة من نتائجها الكثيرة وحسنة من حسناتها على قِلتها .
وهيمنت النبرة السياسية والهمّ الوطني على يعض مؤثثات الديوان وحتى عندما كتب الشاعر قصائد غزلية وإنسانية وذاتية محورها الأنا الشاعرة لم يعدم وجود السياسة التي ظلت تتلصص برأسها الخبيث من وراء الأحرُف والكلمات , وما يبدأ غزلياً أو وجدانياً ينتهي لأن يكون سياسياُ بامتياز .
هكذا نجلس 
متقابلين
أصابعنا متشابكة
وقلوبنا تهيء حقائبها للسفر .
إذاً هذه بعض الخصائص الفنية والتكتيكية التي احتوتها القصائد وانطوى عليها الديوان وكل ذلك بطبيعة الحال لا يغني عن أن نستمر في التحاور المباشر مع الجُمل الشعرية ودون أية وساطة حيثُ يقول الشاعر في إحدى القصائد وتحت مُسمى ” حنين ” 
لي بظل النخيل بِلاداُ مُسورة بالبنادق كيف الوصول إليها 
وقد بعُد الدرب بيننا والعتاب
وكيف أرى الصُحب
ومن غُيِبوا في الزنازين
أو كُرِشوا في الموازين
أو سُلِموا للتراب
إنها مِحنة بعد عشرين عاماً
أن تُبصر الجسر غير الذي عبرت
والسماوات غير السماوات
والناس مسكونة بالغياب .
في إدانة صارخة للقمع والقهر وبعد عودته إلى العراق زائراً بعد غياب طويل لم ينسى الشاعر أن يقرأ هذا النص في أمسية شعرية أُقيمت لهُ ببغداد وهو يعبر تماماً عن موقفه مما يحدث في أختصار شديد وصراحة هي أشد بُعداً عن لغة التباكي والخطابات والضجيج والجعجعة الخالية من الطحين .
وفي رِثاء الوطن السليب والمذبوح ينشد الشاعر متألماً في قصيدة ظلت مشدودة إلى الإيقاع الحروفي والموسيقى البيتية والسلم اللحني , على بناءها النثري , ولم تخلو من غنائية مُحببة على موضوعها التراجيدي المصطبغ بالسوداوية .
العراق الذي يبتعد
كلما اتسعت في المنافي خُطاه
والعراق الذي يتئد
كلما انفتحت نِصفُ نافذة
قلتُ آه
والعراق الذي يرتعد
كلما مرَ ظِل
تخيلت فوهة تترصدني 
أو متاه
والعراق الذي نفتقد
نصف تاريخه أغاني وكحل
ونصفه طغاه .
وبهذه القصيدة التي كُتبت بعيدا عن الفوهات المتربصة بعيدا عن الموت المُشاع , في روتردام بهولندا حيث التجأ الشاعر من تاريخ معمد بالدم وتحصن من هواجس تاريخية تتحين غفلته لافتراسه يغدو العراق هو الشاعر والشاعر هو العراق , يندغم كل منهما في الآخر ويتماهى إلى الحد الذي يستحيل معه التفريق بينهما في الواقع وفي الخيال الشعري فكل ما يُسيء إلى الشاعر يُسيء بالضرورة إلى العراق وبالعكس وكل ما يسُر الشاعر يسُر العراق , وحين نهتف يا عراق يلتفت الشاعر وحين ننادي عدنان الصائغ يحضر العراق بكل ثقله التاريخي . 
______
كُتبت هذه المقالة سنة 2008 ونُشرت بصحيفة أويا الليبية والآن يعاد نشرها منقحة ومزيدة .

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *