*حوار: فيصل رشدي
خاص ( ثقافات )
في هذا الحوار، نستضيف الشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري الذي يعتبر من أهم الأصوات الشعرية الجديدة في المغرب والعالم العربي. ولد 1972 بأولاد عمران- مدينة الجديدة المغربية، وصدر له العديد من الدواوين الشعرية من بينها: ” لماذا شهدت علي وعد السحاب؟” (2005)، و” ترياق” (2009)، و”ذاكرة ليوم آخر” (2013)، و”من علو هاوية ” (2015). كما له دراسات في النقد أبرزها: “تحولات المعنى في الشعر العربي” (2009)، و”نقد الإيقاع” (2011)، و”في راهن الشعر المغربي” (2014) . وحصل على جوائز عربية في الشعر والنقد، من بينها: جائزة الشارقة للإبداع العربي، وجائزة ديوان الشعرية، وجائزة القصيدة العربية بالمغرب.
1- فزتم مؤخرا بجائزة القصيدة العربية بالمغرب، ما هي القيمة المضافة لهذه الجائزة ؟
– كل جائزة يمكن أن يحصل عليها أديب عربي لا يمكن إلا تثمينها، وخاصة إذا صدرت من جهات تحترم الإبداع وتكرمه قياساً إلى معايير وقواعد نزيهة. بالنسبة إلى هذه الجائزة، فهي ذات قيمة معنوية واعتبار رمزي خاص، لأنها تنتصر للشعر العربي وللغة العربية، ولأنها تعطى من مدينة فاس بعراقتها وخصوصيتها الحضارية والثقافية، ثم لأنّها حملت في دورتها الرابعة اسم “الشاعرة المغربية أمينة المريني” التي أعتزّ بإنسانيتها وعملها الإبداعي داخل مدوّنتنا الشعرية المعاصرة.
وكما قلت في حفل تسلُّمي إياها، فإن الجائزة مثلت لي أكثر من كونها جائزة، بل هي صلة وصل بأصدقاء كثيرين أحاطوني بفيض من المحبّة منذ أن تناهى إلى علمهم خبر الفوز بالجائزة – أيّاً تكن – فلا قيمة لها إذا لم تكن جوازاً إلى قلوب الناس. ولكم يتأثّر المرء عندما يتلقى التهاني من أناس لا يعرفهم ولم يسبق أن التقى بهم، فيكتشف أن الجائزة قد وصل إليها وهي لا تقدر بثمن.
2- تولي في دواوينك قيمة خاصة للإهداء. فمثلاً، تهدي “ذاكرة ليوم آخر” لأبيك. هل من رمزية للأب داخل العمل؟
– بالفعل، تأخذ الإهداءات في مجموع أعمالي صفة خاصة، فهي ليست إشارة عابرة أو موضة طارئة، وإنما هي بمثابة ثريا تضيء جوهر العمل. وإذا مثّلنا بديوان “ذاكرة ليوم آخر”، فقد أُهدي إلى الأب، الأب الغائب الذي افتقدت حضوره وأنا ما أزال صبيّاً لا يعقل ما حواليه. لذا، فهو لا يحضر في ذهني إلا بصورة غامضة، ولكن مفعمة بكثير من الأسرار والتجليات والهواجس. وبالتالي، فغياب الأب كما في قصيدتي “صبراً أيتها الذاكرة” و”الحياة في غضون ذلك”، يلقي بظلاله الكثيفة على العمل ككل، ويغذي فيه الشعور بالفقد واليتم، ويجعل الزمن يحضر بكثافـةٍ مؤلمـةٍ. وكما قال الشاعر والناقد العراقي علي جعفر العلاق: “إنّ للمـاضي، وللفقـدان، وللشجـن القـديم حضوراً فاجعاً، وهو ينحدر إلينا، قـديماً ومتجـدّداً، من ينابيعـهِ النضاحـةِ باليتـم الفـرديّ والإنسانيّ: من الأب الجسـديّ الشخصـيّ، نـزولاً إلى آبـاء الفجيعـة الكبار: كلكامـش، المتنبي، المعري، المعتمد بن عبـاد. ومن المتفجعـين أو الساخطـين من الأجيال اللاحقة: نازك الملائكة، أمل دنقل، عبدالله راجع، سركون بولص…”
3- في ديوانك “من علو هاوية” توتر بين الماضي والحاضر، بين السفلي والعلوي. وأكثر من موضع فيه تكررت كلمة الطائر، إلى ماذا يرمز؟
– يرصد هذا الديوان الحاضر في تجلياته المدمرة، أي عالماً شعريّاً منذوراً «للهاوية» بما هي سقوط وأسف على المشاهد الآيلة إلى الانهدام، كأنّ القصيدة وقوف على جرف الحياة وعلى كابوس ما نَفَق منها. إنّه عالمٌ سورياليٌّ طافح بالموت، وقبيح، يربأ أنا الشاعر بنفسه أن يتلوّث به ويعمل على مواجهته بمنطقه الخاص. وهذا ما يجعل من العمل ككل يعكس توتُّراً شديد الأثر داخل هذا التقاطب المكاني بين السفلي/ تحت والعلوي/ فوق، فيحضر الطائر في مواجهة لهذا الانهدام المتسارع بتجاوزه وتخطّيه المدمي، حيث يغدو الطيران من أعلى وصفه استعارة أليغورية- إشاريّة يستثمرها أنا الشاعر في الشهادة على الحاضر ومغامرة كتابته من التقاط الإشارات إلى إشارات الحلم والوعد بالآتي.
4– يجد القارئ لجل قصائدك احتفاءً بالذكريات. ماذا تمثل لك هذه الذكريات ؟
– هو كذلك. وهذا ما يعطي لما أكتبه صفة الشعر الشخصي أو السيرذاتي. ثمة دائماً عودة إلى الماضي، ولكنها ليست عودة تنقطع فيما مضى، بل تصل هذا الذي مضى بما صار، أو بالأحرى انعجن به وتشابك معه بصورة مركبة.
من عمل إلى آخر، ثمة حرص على شخصنة شعري بإشارات وملفوظات نابعة من رحم سيرتي الذاتية، ولكن بمجرّد ما تدخل تحت ميثاق الشعر التخييلي يصير هذا الشخصي وجهاً للاشخصي وامتداداً له، وهو ما يعطي للسيرة في الشعر صفة السيرة المتخيَّلة التي لا تحيل على المرجعي إلا بمقدار ما تقوّضه وتجعله ينزلق في سلسلة من الدوال لا تنتهي.
5- نجد في مجموع دواوينك مزاوجة بين الوزني والنثري، بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. هل يتعلق الأمر بمساكنة بين زمنين ورؤيتين داخل سيرورة تجربتك؟ أم تخلق “إيقاعاً ثالثاً” متخفِّفاً من الغنائية والنثرية معاً؟
ــ يحاول الإيقاع، في تصوري، أن يتقفّى أثر التجربة ويتجاوب معها في سيرورتها. لذلك يتمُّ تنويع مصادر اشتغاله عبر اللغة وخارجها، فلا يعنيني التوقيع العابر تحت ضغط الوحدات الوزنية، بقدر ما يهمُّني الجَرْس الصوتي الذي يلفت القرينة من غفلتها، ويبعث شتيت المعنى من سقطه المهدور. نلمس ذلك بأشكال متنوّعة ومُشظّاة من نصّ إلى آخر، ومن شذرة إلى آخرى، حيث يعبر الإيقاع في اللغة مدركاً ومحسوساً وباتراً ومرئيّاً أو غير مرئيٍّ. وسواء كان داخل قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، فإنّ الإيقاع مُفكّرٌ فيه كأثر لا كعلامة، وهو يتّكئ، باقتصاد بليغ وعبور هامس، على مجمل “اللونيّات” و”الفراغات” التي تأثر عن توتُّرات اللغة وتجاويفها في علاقتها بملفوظ الأنا. من ثمّة، يمكن لنا أن ننعت هذا الإيقاع، تجوُّزاً، بأنّه “إيقاع ثالث”، لا هو إيقاع الوزن الذي يتردّد على مسافات منتظمة، ولا هو إيقاع النثر السيّال كيفما اتفق.
6- في نقدك لراهن الشعر المغربي تبنّيت مفهوم الحساسية بديلاً عن مفهوم الجيل. ما الدافع إلى اختيار هذا المفهوم؟ وهل يعكس في حقيقته تطوّراً للحركة الشعرية؟
– وجدت أن مفهوم الجيل لم يعد قادراً على الإحاطة بحركة الشعر الجديد؛ إذ من التعسف أن نجمع أفرادها داخل جيل أو نحجرهم على تصنيف عقدي كما كان جارياً من قبل. ولهذا، اكتشفت في مفهوم الحساسية إطاراً أوسع من الجيل، فهي ممتدة بصمت، وأرحب من أن تتأطر داخل مفهوم مغلق ونهائي مثل مفهوم الجيل، ومافتئت تكشف عن أثر التغير الذي يحدث باستمرار. ولهذا آثرت أن أتحدث الحساسية الشعرية الجديدة بسبب ما خلقته من جماليات كتابية مغايرة عكست فهما جديدا لآليات تدبر الكيان الشعري، مما يمكن للمهتم أن يتتبعه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور، منذ أواسط التسعينيات إلى اليوم. وهذه الحساسية تظهر لنا حبلى بالانعطافات التي تحفز شعراءها على التحرك الدائم في جسد التجربة وأخاديدها، لا يرهنون ذواتهم لإيديولوجيا أو ينضوون تحت يافطة بارزة. إنها تكشف عن كونها كناية عن اختلاف في تشكلات الرؤية الإبداعية، أو في تصورها لأفق الكتابة الشعرية برمتها.
أما بالنسبة إلى ما يمكن أن يكون إضافات قدمتها الحساسية للحركة الشعرية، فإنه يحسن بنا أن نشير إلى أهم ملمح ميزها وهو نزوع النفر الكبير من شعرائها إلى الاهتمام بالذات في صوتها الخافت والحميم وهي تواجه بهشاشتها وتصدعها الأشياء والعالم واختلاطات الحياة اليومية، والنزوع المستمر إلى بساطة القول الشعري والانفتاح على السرد وجمالياته البانية، ثم الاعتناء بكتابة الشظايا وأسلوب فقراتها الشذري بصورة غير مألوفة راحت تقلب نظم بناء الدلالة وطرائق شعرنتها.
ومن المهم أن نشير، هنا، إلى أن الحساسية الجديدة ليست حكرا على الشعراء الجدد، بل يساهم فيها أيضا شعراء من أجيال سابقة يمثل إبداعهم وتجديدهم حافزاً إضافيّاً لشعراء تلك الحساسية على الاستمرار في رهانهم الجمالي على تحديث الشعر المغربي، بلا ادعاء القطيعة أو وهم “قتل الأب”.
7- بدأنا نلاحظ مع عصر الفايسبوك تهافت التهافت على الشعر، وتدفق الإصدارات الشعرية بشكل لافت. كيف تفسر هذه الظاهرة؟
– للأسف، الظاهرة أشبه بحفلة تنكرية كبيرة. وإذا صادف أن غاب أحدهم، لسبب قاهر أو آخر، عن المشهد الشعري وعاد إليه، فإنه سيعيش غربة مضاعفة: غربة داخل مجتمعه، وغربة بين جيش من “الشعراء” الذين تضخم عددهم بصفة زادت عن “الدخل القومي للأفراد” وأربكت توقعات “المندوبية السامية للتخطيط”، ولا أعرف إن كان ذلك حلّاً مناسباً لتحقيق “الردع النووي” وتوازن الرعب بينهم وبين المتملصين من أداء الضريبة؟
إن أكثر ما ينشر لا علاقة له بالشعر، والأخطر أن يصير هذا “اللاشعر” قاعدة ميسرة يتلقفها قراء ومشاريع موهوبين قادتهم المصادفة أو ضربة الحظ إلى هذه الصفحات الفايسبوكية التي تفتري على الشعر وأحاطت نفسها بجيش من (المعجبين) الذين بلا هوية ولا ذائقة. وحتى المجاميع الورقية نفسها التي يُعنى فيها بكل شيء (الصورة، الخط، الورق..) إلا أن يكون شعراً، وربما الذي ساعد في اتجاه هذا الوضع هو دور النشر “الارتزاقية” التي تتعامل مع الكتاب كسلعة ومع صاحبه كدافع للأجر فوريا، ولا يهمها إن كان ما تنشره شعراً أم نوعاً من “الخطّ الدمياطي” لضرب الكف. فلا لجنة قراءة لدى معظمها ولا هم يحزنون. لكن الذي يضيع ليس المال، ولا الضريبة غير المؤداة، بل الشعر الذي أُسيء فهمه ومزّقوه كل ممزق.