فن البديهة الراصدة!


لفن الكاريكاتير -الذي تعود نشأته القريبة للقرن السابع عشر- سمات يصعب أن تتوافر لغيره، أبرزها: الكثافة المركزة، والوصول إلى رائيه بالسرعة القصوى، وكَنز الدلالات والمعنى بما قد يوازي كتابا، وتوسيع دائرة “قرائه” لتشمل غير الناطقين بلغة فنانه، وذلك كله من خلال قوام لا يحتاج مساحة أكبر من راحة الكف.

نقده مجرح كحد الشفرة، وسخريته ضاجة كشلال، ومفارقاته مرصودة بعين قنّاص. تتأمله لدقيقة أو أقل فيمتلئ ذهنك بالفكرة, وتفعم روحك بالغبطة أو الأسى، ويتبيّن لك بيسر الخيط الأبيض من الأسود. ولهذا قيل: إن عددا من الصحف والمجلات تشترى، بالدرجة الأولى، من أجل رسم الكاريكاتير.

وإذ يبالغ الكاريكاتير بالتظهير، فإنه ينبش المستور ويستخرج الخبايا ويفضح للناس المكنوز عنهم، أو هو يُظلل المعلن المتداول الصريح لصالح إضاءة المكتوم المهمل المتواري غير المنتبَه إليه. بشخصية، أو بحركة، أو تضخيمٍ هنا، أو مضاءلة هناك، سيرعب الرسم الطغاةَ، ويشعرهم بالصَّغار -كما هم عليه- وسيعرّي سماسرة الحياة، وتخريب البيروقراطيين، ونزعة الذكورة لدى البعض، وأُنْسَ المهمّشين المضيع، ومجمل, مفردات حيواتنا وعاداتنا ومفاهيمنا ويومياتنا.
في رسم لفنان كاريكاتير من تشيلي يظهر زعيما سياسيا على هيئة رجل عملاق وهو يخطب أمام حشد من الجماهير، ثم نراه في غرفة نومه متضائل الجسم كطفل صغير، يتلفّت مذعورا جراء كابوس يرى فيه تلك الحشود وهي تندفع نحوه غاضبة، ثائرة عليه!

وفيما هو أعم وأشمل يقدّم لنا الفنان علي فرزات رسما مكثفا عميقا يحتاج إلى كتاب لو أردنا التفصيل في دلالاته وأبعاده، حيث نرى قمة جبل وقد توسّطت ذروتَه عارضةٌ خشبيةٌ بتوازن دقيق، يقف على طرفها الأول جندي وهو يوجه فوهة بندقيته مستعدا لإطلاق النار على صدر رجل يبدو مواطنا فقيرا أعزل يقف على الطرف الآخر من العارضة الخشبية!
ألا يطرح هذا الرسم مقولة كبرى مفادها أنه ما من سلطة مستبدة تحاول القضاء على أبناء البلد المحكوم إلا وتكون عرضة للسقوط والتهاوي في الآن نفسه؟ وينشغل رسم آخر بوجه مختلف من موشور الدلالات فيصور مقاتلين اثنين مدججين بالأسلحة يمتطيان حصانين في مواجهة عنيفة وهما يتبادلان الطعن والضرب، فيما يتقارب رأسا حصانيهما ويتعانقان متبادلين الغزل والحب!
وكما في الحقل السياسي، سيتوغل فن الكاريكاتير في الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، ويصل إلى البعيد النائي بالتقاطات ذكية، نافذة الرؤية، دسمة المعنى، ومبسّطة الخطوط كحال مهرجٍ نراه يعبر الكواليس حزينا مهموما منكسرا حتى إذا ما وصل خشبة المسرح تحت الأضواء راح يتشقلب في حركات تضحك الجمهور إلى أن ينقلبوا على ظهورهم، ومن ثمّ يغادر الخشبة نحو الكواليس لنراه وقد عاد إلى ما كان عليه من حزن وهمّ وانكسار.
وفي رسم آخر يعمل رجل فقير على زراعة حديقة منزله في الطابق الأرضي، فإذا ما نما الزرع وتتطاول قطف ثماره الرجل الغني في الطابق العلوي!!
وإذا كان الكاريكاتير يغرف من شهد خلية النحل، فإن “غذاء الملكة” يكمن في تلك الرسوم الخالية من أي تعليق مرافق، لكأن الكتابات في الرسم عكاكيز تسند ضعفَه وتساعده للوصول إلى مشاهده، وهو ما يبدو جليا فيما لو طوينا الرسم، تبقى الفكرة متضمنة في الكلام المكتوب!!
مزية هذا الفن أن أفكاره ورؤاه الكبرى محمولة على بضعة خطوط فحسب، وغالبا يكون بالأبيض والأسود من دون حاجة إلى أي لون إلا عند الضرورة القصوى.
يتوغل رسم للفنان الأرجنتيني الأصل “إكينو” في أعماق الإنسان عبر تصوير رجل غاضب في غرفة، يصرخ ويحتد ضاربا على صدره حينا، وعلى الجدار حينا آخر.. فيما تنكفئ امرأة أمامه، تتراجع، وتنطوي، وتنصاع حامية رأسها تارة ومدارية وجهها أخرى في ردود فعل استجابية، حتى إذا ما رن منبه مركون فوق المكتب، وجدنا الرجل وقد توقف عن الصراخ، مصافحا المرأة بيد، وناقدا إياها مبلغا من المال باليد الأخرى، ثم نراه يخرج هانئا مرتاحا، متخففا من أعبائه، ليدلف رجل آخر (كان يجلس في غرفة الانتظار حانقا متجهم الوجه) فيبدأ بالصراخ والضرب على صدره، فيما تعاود المرأة حركات التداري والاستجابة عينها!
هل نحن إزاء “عيادة” للتنفيس عن المكبوت والمحرم والمحظور في دواخلنا بمختلف أشكاله وأسبابه؟! وهل رفع الصوت، إطلاق سراحه وتظهيره ليس ضرورة يمليها الواجب، أو يفرضها الالتزام بالتعبير، أو تقتضيها الحاجة في بناء الكذا… بل حاجة إنسانية صرفة تستمد ضرورتها من نفسها: من كون العين وُجدت لترى، والأذن لتسمع، والصوت لينطلق عبر أي نافذة أو كوّة أو ثلم كي لا يمكث داخل صاحبه، ويتفاعل في الخفاء، فيقتله كالسمّ، أو يخنقه كمداً؟!
ومن الرسوم التي كبرتها، وعلقتها على الجدار، لوحة تُظهر أبا سجينا، يمد يديه الاثنتين من بين قضبان الشباك إلى أقصى ما يمكنه، فيما ابنه الصغير، خارج السجن تحت الشباك، يتطاول على رؤوس أصابع قدميه، رافعا يديه الاثنتين إلى أقصى ما يمكنه، من دون أن تتلاقى أيديهما أو أن تتلامسا إطلاقا. إذ تظل هناك مسافة بالغة القِصر، بيد أنها فاصلة، حاجزة بحسم، فيها تحتدم الأشواق والعذابات والآمال، من دون أن تضم سوى الهواء والفراغ!

ألم تفصلنا تلك المسافة، على قِصرها -سجناءَ كنا أم طلقاء- عن أوطان عشنا فيها وعشقناها ثم حُرمنا منها، وعن أصدقاء عمر حميمين باعدت جدران سجن أو أحوالُ قهر بيننا، وعن الذين أحببنا، خلسة أو علانية، وأحبونا، فحالت الأقدار دون لقائهم وهم على مرمى أعيننا، وعن آمال وأحلامٍ قضينا أعمارنا في الرنو إليها، ثم رحلنا أو نكاد ونحن لما نزل نرنو ونتوق ونرجو من دون أن تقبض أيدينا سوى على حبال الهواء والأوهام، وسوى على فراغ تلك المسافة القصيرة، القصيرة!؟

ما يفرد مساحة خاصة، فريدة، لهذا الفن دون غيره من الفنون الجميلة أن إبداعه لا يكون إلا على يد موهوب بالفطرة، رشيق الروح، حاضر البديهة، لماح، راشح المفارقات، بحيث لا يتمكن من هذا الفن، ولا ينجز في حقله حتى كبار الفنانين التشكيليين. إنه فن يمضي بالاختزال إلى نهاياته، ويحتشد بالاكتناز إلى أقصى الحدود على غرار ما تقدمه لنا الأمثال الشعبية العريقة السائرة.
______
*قاص من سوريا(الجزيرة)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *