*يوسف ضمرة
منذ أرسطو إلى اليوم، لم يتوقف الكتاب عن البحث في فن الشعر؛ جمالياته ولغته ومضامينه وقيمته. لكن أحداً حتى اليوم لم يتمكن من تعليم الناس هذا الفن.
كل ما يكتب يعتمد على الإبداع الشعري نفسه. يشبه الأمر استنباط بحور الشعر من الأشعار التي كانت قائمة.
وبالطريقة نفسها، يمكن الحديث عن فن الرواية، وفن القصة، وما إلى ذلك. وبعد هذا كله، فاجأتنا رواية جديدة ليس فيها مما قرأناه شيء.
أنت تستطيع القول إنك أحببت هذا الشعر أو لم تحبه. لكنك غالباً لا تعرف السبب الحقيقي في الحالتين. قليلون هم من يغوصون عميقاً لتبيان هذه الأسباب، وللوصول إلى معانٍ ومفاهيم لا تطفو على السطح. لا أحد من الأغلبية العظمى من قراء الشعر، يفكر في مقولة درويش: لا طروادةٌ بيتي/ ولا مسّادةٌ وقتي. بل يمكن القول إن نسبة كبيرة لا تعرف طروادة إلا من خلال بعض الأفلام العابرة، والأغلبية العظمى لم تسمع بـ«مسّادة» أو«مسعدة». حينها لا يستطيع قارئ كهذا أن يكون حراً في القبول أو الرفض؛ أعني قبول مقولة درويش أو رفضها. لماذا لم يقل «إسبارطة» أو«إيثاكا» أو «أثينا»؟ لماذا اختار المملكة الوادعة المسالمة التي وقع عليها الاعتداء وليس العكس؟ أليس الفلسطيني شبيها بابن طروادة؟ دعنا من «عقدة مسعدة» التي لا تخص أحداً في التاريخ الإنساني سوى اليهود؛ أسطورة الصمود التي لا مثيل لها عبر التاريخ. فهي في نهاية المطاف ليست أكثر من هامش يضاف إلى هوامش توراتهم.
علينا أن نكون أكثر صدقاً مع أنفسنا ومع ما نقرأ، أن نفكر فيه، صحيح أن كل قارئ لديه تأويله وقراءته ومساحته الخاصة أثناء قراءة النص، إلا أن هنالك قواسم مشتركة تظل عامة، سيجمع قارئو الجريمة والعقاب على كرههم للمرابية العجوز، لكنهم سينقسمون حيال عملية القتل.
حين يأتي الحديث إلى اللغة، الكلمات وإيقاعاتها، والتراكيب الشعرية، فهنالك ذاكرة اللغة التي تنشأ مع المرء. نحن مثلاً نعرف أن كلمة «القمر» تدل على ذاك الكوكب البرتقالي المتقلب، جميل الشكل. لم يفكر أحد ماذا عسانا نقول لو كانت كلمة «شاحنة» تدل على ذاك الكوكب؟ الآن سنقول إنها ثقيلة، ولا تتناسب وجمال الكوكب. حسناً، فإن بورخيس يرى أن selene الإغريقية، تبدو معقدة بعض الشيء وهي تشير إلى القمر، بينما تبدو» luna الإسبانية الجميلة رنانة، لكنها مشكلة من مقطعين. لكن moon تتسم بالبطء الذي يناسب القمر، وهي كلمة دائرية بحيث يبدو مبتدأها شبيهاً بمنتهاها لفظياً.
إذا أردنا أن نتحدث في الكلمات، فلمجرد الإشارة إلى أن الأدب يتشكل من جماليات عدة، من بينها جماليات اللغة. لكن هنالك جماليات أخرى على الأدب أن ينطوي عليها. على القصيدة أن تذكرنا بشيء ما في حياتنا مثلاً. على القصة أن تقول لنا إن الأمر يحدث هكذا أو بطريقة ما، لكنه يحدث، ولا نتوقع شكل الفعل قبل وقوعه.
هذا القول كله من دون مناسبة؛ مناسبته المستمرة هي الشعر. إما أن تكون شاعراً أو لا تكون. إما أن تكتب على غرار فلان أو علان من الشعراء فهذا لا علاقة له بالإبداع الشعري.
أغلبية ما يطالعنا به شعراء اليوم، قائم على محاولات التفرد، لكنها أشبه ما تكون بالتيه. كم سنة سيستمر؟ لا نعرف. لكننا نعرف أن قلة قليلة جداً، ستتمكن من شق طرقها الخاصة في صخور الشعر وميادينه.
_________
*الإمارات اليوم