كأسٌ من النبيذ للشخصِ الغريب


*حازم شحادة


خاص ( ثقافات )
لوهلةٍ اعتقدتُ أنّ ما حدث مجرد خيال لكنني بعد تركيزٍ عميق أيقنتُ ضلال اعتقادي.
كان المطرُ غزيراً في الخارج..
عبر زجاجِ النافذة لم أستطع رؤية شيءٍ بسبب الظلامِ الشديد. 
لا كهرباء لأنيرَ المصباح فهي غالباً ما تكونُ مقطوعة في هذا الجزء المهملِ من المدينة..
أنرتُ شمعةً لكنني رغم ذلك.. لعنتُ الظلام.
أنهكني الملل ولم تكن لدي أي رغبة للقراءة فاستعنتُ بهاتفي ورحتُ أستعرضُ ما فيهِ من أغانٍ وموسيقى.. توقفتُ عند تحفة بيتهوفن الخالدة ثم ضغطتُ زرّ التشغيل. 
مع هكذا طقس لا بد من هكذا موسيقى.. 
جلستُ إلى طاولتي وأمامي دفتر قديم أخط عليه مسودات قصصي وقصائدي ثم أشعلتُ سيجارة وبدأت الكتابة.. 
انهمرت الكلمات غزيرة كالمطر وارتسمت على السطور قصةً جيدة ارتأيت خاتمة مناسبة لها أن يلاقي بطلها حتفه على يد امرأةٍ جميلة ثم يلفظ أنفاسه الأخيرة فوق صدرها العارم. 
ضرب هزيم الرعد بقوة واشتدت العاصفة فتركت ما بين يدي واتجهت صوب المطبخ كي أسكب لنفسي كأساً من النبيذ.
ـ اجعلهما اثنين
قال صوت رخيم من ورائي فتجمدت أرضاً.
لساعات خلال هذا الليل البهيم لم أكن أسمع سوى صوت السحاق اللذيذ بين الرياح العاتية والأشجار..
ها هو صوت كائن غامض يقتحم المشهد بهدوء.. 
تملكني الرعب.
خشيتُ أن أنظر خلفي.
قدرتي على النطق توقفت لدقيقتين وربما لثلاث..
استجمعت ما تبقى من عقلي وشجاعتي وألقيت نظرة وكانت زجاجة النبيذ ما تزال في يدي. 
على سريري جلس رجلٌ وسيم في منتصف العمر يرتدي معطفاً رمادياً وبيدهِ سيجارة..
راح يرمقني بنظرات قرأت فيها الحزن والعتب ثم كرر طلبه وقال: 
ـ اجعلهما كأسين.. 
اللعنة.. 
كيف سأفسر لنفسي ما يحدث..
تساءلت بحيرة وقلق:
ـ هل أزفت ساعة الانتقال إلى العالم الآخر؟ 
هل استفقدني الرفيق الأعلى في هذه اللحظات؟ 
أرجوك أيها الشخص لا تكن من أعتقد أنك هو فالوقت غير مناسب للرحيل الآن وعلي الكثير مما يجب أن أقوم به. 
ناولته كأس النبيذ بينما كان غارقاً في نوبة جنونية من الضحك..
ـ لا تخف 
قال ثم كبع ما في الكأس دفعة واحدة وأردف..
– أراكَ خائفاً.. 
هل أنت خائف؟ 
بلعت ريقي ثم أشعلت سيجارة بعد أن هدأ روعي قليلاً..
– كنت جالساً هنا وحدي أكتب قصةً في هذا الجو العاصف ثم ظهرتَ حضرتك من العدم وطلبت مني كأساً من النبيذ.. 
هل أنا خائف؟
يا لهذا السؤال العبقري..
أجل أنا خائف خاصة عندما ظننتك رسوله إلى الجحيم..
ألن تقول لي من أنت..
ابتسم الغريب بسخرية وحدق في عينيّ مطولاً ثم قال..
– غريبٌ أمرك..
تخاف مما كنت ستفعلهُ بي؟!
اعتقدتك أشجع..
صحت غاضباً..
ـ تباً لك أيها الشبح الأبله.. 
ما الذي كنت سأفعله بك؟
ومنذ متى أعرفك وأنا لم ألمح وجهك مرة في حياتي.. 
مشى الشخص حاملاً كأسه خمس خطوات باتجاه النافذة المطلة على بحر الظلام وقال دون أن يلتفت إلي..
ـ قبل قليل كنت ستقتلني بيد امرأة جميلة راسماً مصيراً لم أختره من أجل غرورك وعنجهيتك ورغبتك في أن تكون لقصتك نهاية درامية مشوقة.. 
اللعنة عليك.. 
هل فكرت أنني أريد العيش بسلام إلى الأبد.. 
أوتعتقد أنك تمتلك الحق بوضع نهاية لي كما تريد.. 
برقٌ قوي وصل بين السماء والأرض..
خفت هدأة الرياح قليلاً وفي البعيد بدأت أصابع الضوء تطل من بين الغيوم الداكنة بينما كنتُ غير قادرٍ على الإتيان بحركة أو النطق ببنت شفة..
اختفى الشخص الغريب كما ظهر فجأة..
لوهلة اعتقدتُ أن ما حدث كان مجرد خيال في خيال لكنني لمحت كأساً من النبيذ يحدّق بي من على حافة النافذة..
فكرت بكلامه.. بنظراته.. بحبه للحياة ولو على صفحات قصة.. 
أعدتُ كتابة المشهد الأخير وفي النهاية ـ قلت لنفسي ـ 
ـ لمجرد أنني من خلق هذه الشخصية، لا يحق لي وضع حدّ لحياتها على مزاجي.. 
الحياة أجمل. 
___________
شاعر وكاتب قصة قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *