تجليات ما بعد الحداثة في رواية كاماراد




نديم دانيال الوزه(*)


خاص ( ثقافات )
لم يكن تناول (كاماراد: رفيق الحيف والضياع) للروائي الجزائري الصدّيق حاج أحمد المعروف بالزيواني، لمسار المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا هو الحافز الأساس بالنسبة لي لمقاربتها نقدياً. أولاً لأنّ الأسباب التاريخية لهذا المسار واضحة بالنسبة لي. وثانياً لأنّ ما تشهده البلدان العربية حالياً، من عوامل الهجرة تكاد تكون أكثر تعقيداً وإثارة للأسئلة من الحال التقليدية لمعاناة رفاقنا في القارة السوداء. لولا أنّ الروائي الجزائري الصدّيق حاج أحمد، من الذكاء بحيث جعل كلّ ذلك يقوم على بنية واحدة في تقاطعاتها الكونية من خلال علاقات الشمال بالجنوب. وإذا كانت معاناة الجنوب من الشمال متفاوتة ومتدرجّة، حتى تكاد تغيب في بعض العربية، إلا أنها حاضرة في مختلف بلدان الجنوب، بنسب متفاوتة، ولنفس الأسباب، التي تتمحور حول رغبة الشمال الدائمة بالاستحواذ على ثروات الجنوب الطبيعية، وعلى قواه العاملة، وحتى على عقوله بأرخص الأثمان والأجور. 
غير أنّ اكتفاء بلدان الشمال من القوى العاملة الجسدية، وعدم حاجته للمزيد منها مؤخراً، ولاسيما بسبب تطوره التكنولوجي، مع استقرار حالة الفقر والبطالة في الجنوب، خلق مشكلة بالنسبة لمن يرغب من سكان الجنوب بالهجرة إلى الشمال، من غير مؤهلات علمية حرفية: هندسة، طب، اقتصاد.. لأنّ الشمال عاكف عن استقباله بالطرق الشرعية. 
مشكلة الهجرة هذه هي ما تتناولها رواية (كاماراد)، وهذا واضح من العنوان، الذي يطلق كاصطلاح شعبيّ في إفريقياً على جميع الراغبين بالهجرة غير الشرعية إلى دول الشمال. وإذا كانت الرواية لا تغفل الأسباب التاريخية الآنفة، إلا أنها ذكرتها بجمل عابرة لمجريات السرد، ليفصح هذا السرد، عن عدة مستويات من التناول لراهن المشكلة، وطبيعتها المعيشة:
المستوى الاقتصادي:
يذهب الروائي الصدّيق حاج أحمد الزيواني في روايته هذه إلى نقطة الصفر في بنية العلاقات الكونية لاستغلال الشمال للجنوب. حيث النيجر الغنية باليورانيوم، وهو أغلى مادة خام للتصنيع التكنولوجي النووي، هي أكثر دول العالم فقراً ليس في توفير فرص العمل للسكان، وإنما فيما تقدمه الدولة من خدمات معيشية لهم، إلى درجة أنها بخلت فيها عليهم حتى بعمال النظافة، أو حتى بشبكة للصرف الصحّي. فما هو الحال حين السؤال عن الطعام والشراب؟
بينما تشرح الرواية هذه الحال المزرية في نقطة الصفر والعدم الحضاري سوف يمتد سردها من هذه النقطة، وإن سريعاً، ليشمل معاناة جميع الدول الإفريقية من الحروب المحلية، التي تتّخذ طابعاً قَبلياً أو طائفياً، بينما هي في الواقع تخوض هذه الحروب برغبة من زعماء القبائل والطوائف من أجل الاستيلاء على مراكز الثروات كالماس والنفط.. إلى آخره. ليتحوّل هذا السرد إلى معاناة قبائل الطوارق في الجنوب الجزائري من قلّة الخدمات، واضطرارهم على تحمّل مشاقّ التهريب في الصحراء الإفريقية. لينتقل إلى طبيعة الأعمال الشاقة التي يتولاها الأفريقيون في مدن الجزائر، أو تلك غير القانونية كالتسوّل وتهريب المخدرات وتزوير العملة. متمهلاً في شرح طبيعة حياتهم في عشوائيات الصفيح، التي ابتنوها لأنفسهم على أطراف المدن والبلدات الجزائرية. وصولاً إلى مدينة الفنيدق المغربية. 
وما يثير المواجع فعلاً،هو استمرار بطل الرواية (مامادو) ورفاقه في المعاناة من شظف العيش، على الرغم من المسافة التي قطعوها من موطنهم الأصلي (حي Gـمكلي في النيجر)، من الطريف ملاحظة أنّ الروائي يستخدم الحروف اللاتينية مدمجة بالحروف العربية للفظ الأسماء بأصواتها الأصلية، ليصل البطل مع الرفاق إلى مدينة الفنيدق المغربية المحاذية لسبتة الإسبانية، حيث قطع مسافة 5212 كم، إلا من بعض الوجبات الدسمة، وتدخين الحشيش والراحة في وسائل النقل اضطراداً مع اقترابهم من الشمال المغربي. كأنهم لم يغادروا -Gمْكلي. وربما هذا يفسّر لماذا يصرّ الطموحون من الأفارقة، على عدم الاستقرار في الجزائر مع توفّر العمل، والتطلع إلى عبور السياج الفاصل بين الفنيدق المغربية وسبتة الإسبانية، حيث الفردوس المنشود.. الشيء الذي أخفق فيه مامادو، بينما استطاع رفيقه إدريسو، ليكتفي الرفيق ساكو بالعمل في الجزائر. وهؤلاء الثلاثة خرجوا معاً من G-مْكلي، وتفرقوا بسبب الكاماردية بعد أن كانوا أصدقاء عمر فيها.
المستوى المعرفي للشخصيات:
يعتمد هذا المستوى على كيفية معالجته للمستوى الاقتصادي أو لأقل من خلال علاقته الجدلية به. لا أتطرّق الآن لرؤية الرواية المعرفية كعمل فنّي، وإن كان ما أكتبه حالياً يندرج في هذه الرؤية التي سأشرحها في الأداء المعرفي للرواية لاحقاً. 
وربما من نافلة القول: إنّ المستوى الاقتصادي المتردي لسكان النيجر، سوف ينعكس على مستواهم التعليمي، حتى أنّ مامادو اضطر إلى ترك المدرسة الثانوية على الرغم من تفوّقه العلمي فيها بعد وفاة أبيه ليعمل مكانه في بيع أعواد شجرة G-غورو، متجولاً بعربة صغيرة بين شوارع نيامي وأحيائها المليئة بالقمامة والهواء الملوث. لولا أنّ التعليم هو جزء من المعرفة، التي تشمل كافة نشاطات الإنسان الثقافية ومعتقداته وأفكاره حول الوجود. بهذا المعنى يمكن القبول بنوع من المعرفة الإدراكية للحياة، يمكن تجاوزها إلى إيديولوجيا غيبية دينية، إسلامية في النيجر، أو إلى الموروث السحري من الديانات الإفريقية القديمة قبل وصول الإسلام والمسيحية إليها. وذلك حين يعجز الإدراك عن فهم الأمور. أو للتسلح بهذه المعرفة الغيبية في حال الشدائد والمهالك.
لكنّ أهمية هذا المستوى أنه يشرح أنّ الإنسان الأفريقي قابل للحضارة الحديثة، أو المعاصرة بالأحرى، إذا ما تم أخذ عصر ما بعد الحداثة بالحسبان، كما أحسب أنّ الروائي يفعل. فمن جهة هناك ثقافة جسدية تعتمد على الغناء والرقص. ومن جهة هناك ثقافة اجتماعية وأخلاقية تقوم على التعاون وحرية السلوك –حتى بالنسبة للمثليين- والأمانة والنزاهة حتى في الأعمال غير الشرعية طالما أنّ هؤلاء الأفارقة، لا يعرفون ما هو القانون بعد. ومن جهة أهم، هناك انفتاح على كافة الديانات طالما تستجيب لمتطلبات العيش اليومية. فمامادو -وهو اسم مشتق من اسم رسول المسلمين محمد- يصلّي كلّ صباح باعتبار أنّ ديانته الحالية هي الإسلام. لكنه آمن أيضاً بتميمة G-ونكي التي أعطته إياها أمه، موضحة أنها كانت لأبيه، وجاءه بها رجل من سوق الشعوذة. وكان من اللاّفت أن تفعل هذه التميمة فعلها الإيجابي لديه، إضافة إلى مصادفة أنّ أيام سعده كانت مقترنة بيوم الجمعة المقدّس عند المسلمين. غير أنّ هذا لم يمنعه من قبول اسمه المسيحي في الجزائر، وارتدائه لسلسلة الصليب، ليغطي على جواز سفره المزوّر من دولة مالي، ذات السكان المسحيين، بل من غرائب الصدف، أن يقترن يوم سعده بيوم الأحد بعد ذلك، وإن إلى حين وصوله إلى المغرب، وتخليه عن الجواز المالي واسمه اليسوعي والسلسلة المرافقة له. ولكن من غير أن يتخلّى عن “فردوسه” الأرضي بإسبانيا، إلا مرغماً من قبل حرس الحدود المغربية.
الأداء السردي للرواية:
يعتمد هذا السرد على حكاية بسيطة، تقوم على رغبة أحد المخرجين الفرنسيين بإنتاج فيلم سينمائي عن حال المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا. علّه بذلك يستطيع الفوز بالسعفة الذهبية لمهرجان (كانْ) السينمائي، الذي يقام سنوياً في فرنسا. ويبحث عمن يحكي له تجربة واقعية لكتابة السيناريو، مقابل مبلغ من النقود. وكان من حسن حظّه أن مامادو قد عاد تواً من رحلته الفاشلة على متن طائرة مغربية. وحصل أنّ سجّل له تفاصيل هذه الرحلة على مدى سبع جلسات سردها الراوي دفعة واحدة. 
ولا يحتاج القارئ لفطنة كبيرة ليعلم أنّ هذا المخرج، إنما يلعب دور الروائي الصدّيق، بينما يلعب الروائي دور مامادو الراوي. بل إنّ استحضار دور المخرج يمكن أيضاً أن يكون إنابة عن المتلقي -القارئ للتشويق، وكسر إيقاع البشاعة والتخفيف من الألم، الذي يمكن أن يتركه أثر السرد الحيادي أو النمطي لما ذكرته في المستويين السابقين. هذا إضافة إلى أنّ السرد بحدّ ذاته اتصفَ بحيوية تدلّ على مهارة الروائي الزيواني، ورشاقته و خفته، ومقدرته الهارمونية الفائقة على التنقل من السرد الذاتي إلى الوصف والحوار بلا تلكؤ أو حتى نشاز بسيط، وكأنّني أمام أغنية سردية غالباً ما تكون راقصة، إذا ما جاز هذا المجاز في القول النقدي. وقد لا يكون استحضاره للمفردات والعبارات الأفريقية بأصواتها، وللمفردات الفرانكفونية، والأمازيغية، ولكثير من المفردات العربية القديمة، والتي استغنت بالمعجم لفهم بعضها إلا مساهمة إيقاعية في كلّ ذلك. هذا كله، والروائي الصدّيق لما يتجاوز روايته الثانية بعد!
الأداء الأبستمولوجي للرواية:
ربما اتّضح من قولي في مقاربة المستوى المعرفي لشخصيات الرواية، أنّ الروائي الصدّيق الزيواني يحاول من خلال روايته (كاماراد) أن يتجاوز الوعي الثوري أو المحارب لحلّ القضايا العالقة بين دول الشمال بتاريخها الاستعماري وحاضرها الامبريالي، والجنوب المنهوب والمتروك للاستبداد والفقر والجهل. وهو بذلك ينطلق من رؤية ما بعد حداثية مسالمة تقوم على تقديم الاقتراحات، مشفوعة بالوقائع الموضوعية والذاتية لإمكانية حلّ هذه القضايا عن طريق النزعة الإنسانية، المتمثلة في المخرج الفرنسي من جهة. وبالطالب الثانوي المتفوّق، ولكن المحروم من إكمال تعليمه بسبب الفقر والعوز للعمل بأيّ شكل من الأشكال من جهة أخرى. 
إذ بعد أنّ أنهى مامادو سرده لرحلته، اكتشف المخرج مقدرته على كتابة السيناريو، وكان قد علم من خلال حكي مامادو بمحبته للتصوير. فما كان منه إلا أن طلب منه أن يقوم بتصوير فيلم وثائقي عن “مظاهر الحرمان لدى الشعوب البائسة”، متكفلاً بمساعدته المالية على إنجازه، بعد أن أهداه كاميرته ومسجلّه.
وإذا كانت الرواية بذلك قد برهنت على إمكانية الحلول من خلال اكتشاف المواهب الإبداعية لشعوب الجنوب، وإمكانية تحقّقها في أوطانها من غير الحاجة إلى الهجرة الشرعية، أو غير الشرعية، إلى دول الشمال بهذه السهولة، إلا أنّ السؤال حول رغبة الشمال بذلك، ورغبته بالمساعدة لتعميم ما تحقّق افتراضياً في الرواية، ما يزال مطروحاً. وميزة هذه الرواية الإضافية، أنها لم تترك هذا السؤال عالقاً طالما أنها قدّمت إجابتها عنه. وهي إجابة، مع أنها مفترضة من لدن الشمال لولا أنها تدينه في الوقت نفسه، على الأقلّ أمام ما أبدعه –هذا الشمال-من قيم إنسانية للعيش بحرية وكرامة وسلام!
أخيراً:
على الرغم من انتماء هذه الرواية إلى عصر ما بعد الحداثة من خلال رؤيتها الفيزيقية للوجود، ورؤية شخصياتها الذاتية للوجود، ووعيهم الإدراكي له، إلا أنّ بناءها جاء متماسكاً، ومتوافقاً مع النزعة السلمية لبعض مفكري ما بعد الحداثة، ولاسيما في محاولة ترميم، وإعادة بناء ما تمّ تخريبه، وتشظيه، إن كان بفعل الحداثة الاستعمارية القديمة، أو كان بسبب الرؤية العدمية للعولمة المابعد حداثية بوجهها الإمبريالي القبيح. وجاء ذلك كله وفق مبررات فنية عقلانية، تفترضها براغماتية الشخصيات، ومواهبها الشخصية، مما أضفى على رواية (كاماراد) طابعاً تركيبياً لإعادة إنتاج الواقع، ليس كما هو وحسب، وإنما كما ينبغي أن يكون في خيال الروائي، وإعادة إنتاجه فنياً. مما ساهم في مصداقيتها السردية، والمعرفية، وتشكلها جمالياً في جنس أدبي هو الرواية، الرواية السردية الحكائية، ولا شيء آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) شاعر وناقد سوري.
صدرت الطبعة الأولى لرواية (كاماراد: رفيق الحيف والضباع) هذا العام 2016 عن دار فضاءات- الأردن، وتلتها الطبعة الثانية عن دار فضاءات -الأردن بالاشتراك مع دار ميم- الجزائر.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *