*د.غسان إسماعيل عبد الخالق
(1)
تتسم «مشاهد الربيع العربي» الذي عصف بالعديد من الأقطار العربية، بكل مواصفات «ما بعد الحداثة» من حيث: التمرّد على الأب والفكر الأبوي، ورفض اليقين المطلق، واللاعقلانية، وتحطيم النّسق أو النظام، وتقويض فكرة الجدوى أو الغاية، وتصعيد الثقافة الشفوية!
أما تعبير «مشاهد الربيع العربي» فهو متعمَّد ومقصود، لأن عين الكاميرا اضطلعت بالدور الرئيس في إنجاز هذه المشاهد، وتأثيثها بالتفاصيل اللازمة لإكسابها صفة الواقعية الجارحة، من جثث ودماء وأشلاء وبيوت مهدمة وجموع بشرية تكرّ أو تفرّ، فضلاً عما تتطلبه هذه المشاهد من بلاغة الجلاّد أو بلاغة الضحيّة.
وقد التقطت سامية العطعوط، المغزى من كل هذه المأساة، في لحظة تأمل عميق، واندفعت لتجسيده فنياً، عبر عمل روائي لافت، بعد أن أدركت بحسّها التراجيدي المرهف، أنه أكبر وأوسع وأعمق من أن يُجسّد في قصة قصيرة أو مجموعة من القصص.
(2)
يمكن تلخيص أحداث رواية «عالميدان رايح جاي» كما يلي: عبد الناصر شاب أردني في الثلاثين من عمره يقطن حياً من أحياء عمّان الشرقية ويرتبط بعلاقة صداقة وطيدة مع سعيد الذي يصغره في العمر ويسكن في بيت ملاصق له مع أمه وشقيقته الصغرى. إنهما نموذجان للشباب الأردني المحبَط والحالم والمغامر في الوقت نفسه، بسبب البطالة وأوهام التعلّق الرومانسي بالحب وأمجاد الشعر، والتسكع في شوارع البلد بلا هدف محدّد سوى دفن كل هذه المشاعر بوجبة من الأطعمة الجاهزة أو الحلويات الشرقية الدسمة. مع ضرورة التذكير بأن عبد الناصر يمتشق آلة التصوير الخاصة به بحثاً عن لقطة شاردة يمكن بيعها لبعض الصحف أو المجلات المحلية أو العربية، وهو الأكثر ثقافة ونحولاً وإحباطاً، فيما يبدو سعيد الأقل ثقافة والأكثر اجتراء على كتابة الشعر الركيك والأكثر إقداماً على التهام كل ما يمكن أن يشتريه من أطعمة وحلويات.
تنفجر «ثورة الياسمين»، ويقرر عبد الناصر التوجّه إلى تونس دون إبطاء، أملاً في أن يلتقط صورة تاريخية للبوعزيزي، وسرعان ما يلحق به سعيد، ويعيشان لحظات الثورة بحلوها ومرّها وتناقضاتها ومفارقاتها المفجعة؛ يفشل عبد الناصر في تحقيق حلمه لأن البوعزيزي كان قد فارق الحياة بعد أن أشعل النار بنفسه، وتكفّلت السلطات التونسية بتنصيب مقلِّد له ليكون بديلاً عنه، من باب الحرص على امتصاص غضب الجماهير وكسب الوقت! يصاب سعيد برصاصة في قدمه أثناء مشاركته القسرية في إحدى المظاهرات، ويُنقل للمستشفى، فيتعلّق بممرضته التونسية السمراء (منى) ويحبها حباً جمّاً رغم علمه بأنها في فترة حداد على خطيبها/ ابن عمها، الذي قُتل في إحدى المظاهرات!
ويقرّر عبد الناصر مغادرة تونس والتوجه إلى مصر مروراً بليبيا، فيقرّر سعيد المكوث في تونس ريثما تبلغه منى بقرارها النهائي، لكنه سرعان ما يلتحق بعبد الناصر أيضاً ويشهدان ملحمة ميدان التحرير في أوج عنفوانها وبراءتها، ثم يصاب برصاصة في القلب ويموت بين ذراعي عبد الناصر بعد أن يتمنى عليه العودة لتونس وإبلاغ منى بما حدث حتى لا تظل تنتظر عودته!
ويبلغ عبد الناصر أم سعيد وشقيقته بالخبر الأليم ويقضي في مصر ما يكفي من الوقت ليرى بأم عينيه كيف تختطف الثورات وكيف تتحول إلى قطط متوحشة تلتهم أبناءها وأصدقاءها دون تردد، فيقفل راجعاً إلى تونس مروراً بليبيا التي تحولت إلى أطلال تنتمي إلى العصر الحجري، ويلتقي منى ويقع في حبها، لكنه لا يستطيع أن يتخلّص من شعوره العارم بالذنب تجاه ذكرى صديقه سعيد، رغم أن منى سعدت بلقائه وألحّت عليه للمكوث في تونس وبدت مستعدة لمبادلته الحب، فيعمد للهروب من هذا الصراع المحتدم بأن يلقي بنفسه في أحضان بنات الليل، على وقع تغيّر اتجاه رياح الثورة في تونس أيضاً.
ثمّ يعود عبد الناصر أدراجه إلى الأردن، مروراً بسوريا، ويشهد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ويصل عمّان محبَطاً مهزوماً كما خرج منها، وتبوء كل محاولات منى للتواصل معه لانتشاله من بئر إحباطه بالفشل، وخاصة بعد أن أعلمته بأن صورته وهو يودّع صديقه سعيد قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في ميدان التحرير، قد فازت بجائزة عالمية.
(3)
إذا انتقلنا من مهمة «التلخيص» وهي المهمة الأشد وطأة على الناقد، إلى مهمة «التشخيص» وهي المهمة الأكثر إمتاعاً، فسوف يطالعنا العنوان: «عالميدان رايح جاي» بوصفه العتبة الرئيسة للرواية، بل العتبة بالغة الوضوح شكلاً ومضموناً ودلالة؛ فالعنوان مستمَد من اللغة الشفوية اليومية المحكية، بكل ما يفرزه من دلالات شعبوية تلخص بساطة العواطف والأفكار التي أوصلت ملايين الناس إلى الميادين ثم تركتهم هناك دون قيادات أو برامج، وبكل ما ينطوي عليه من دلالات عبثية تتمثل في المراوحة بين فعل الذهاب والإياب دون طائل!
ومن الملاحَظ أن سعيد قد عاش في كنف والدته وأن عبد الناصر لم يأتِ على ذكر والديه، وهذا يؤكد ما سبقت الإشارة إليه: ضمور السلطة الأبوية والتوق إلى التمرّد عليها، مع ضرورة التذكير بأن ثورات «الربيع العربي» في تونس ومصر وليبيا قد اشتعلت أساساً احتجاجاً على الدور الأبوي الخانق الذي راح يضطلع به كل من: زين العابدين وحسني مبارك والقذافي، إلى الحد الذي تصرفوا معه على اعتبار أن المواطنين هم أبناؤهم الذين يملكون أن يتحكموا بمصائرهم دون قيد أو شرط!
لكن الملمح الأكثر إثارة للدهشة في هذه الرواية يتمثل في أنها «مصوَّرة»! وهو ملمح يندرج في سياق استيعاء الكاتبة لأشكال ومضامين ودلالات مشاهد «الربيع العربي»، بوصفها نتاج ثقافة الصورة، صورة الكاميرا وصورة الهاتف المحمول وصورة المحطات الفضائية، كما أنه لا يخلو من تهكم لاذع مردّه إلى روايات المغامرات الطفولية المصورة: سوبرمان.. طرزان.. توم وجيري! فهل كانت هذه الثورات محض رسوم كرتونية مصوَّرة لا أكثر!
والحقّ أن أحداث الرواية وشخصياتها قد تضافرت لإبراز حقيقة انتفاء العقلانية وتقويض إمكانية تحقيق الجدوى أو بلوغ الغاية؛ فسعيد الشاب السمين الشّره المولع بكتابة الشعر الرومانسي الركيك يغدو شهيداً وعاشقاً عذرياً! وعبد الناصر المثقف المرهف والمصوّر الموهوب يفشل في التقاط الصورة التي حلم بها، وبدلاً من ذلك يفوز مصور مغمور بجائزة عالمية لأنه التقط صورة له وهو يبكي صديقه الطيب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة! والأنكى أنه يتحول إلى هامش سياسي وعاطفي على متن قصة النضال والحب التي خطّها صديقه سعيد بدمائه، صديقه الذي لم يقدس شيئاً أكثر مما قدّس وجبة طعام جاهزة.
وثمة درس مهني مفيد أيضاً لم تنسَ سامية العطعوط الاضطلاع به على أكمل وجه، هو نجاحها المذهل على صعيد إجلاس قارئها في بؤرة أحداث تونس ومصر وليبيا، وباللهجات المحكية في هذه الأقطار، فضلاً عن الاستطراد في ترسيم الأماكن والملامح والعادات، إلى درجة إقناع هذا القارئ بحقيقة أنها تعرف هذه الأماكن وتتقن لهجاتها. مع أن الخيار الأسهل الذي كان يمكنها أن تنتحل الأعذار له، يتمثل في الكتابة باللغة العربية الفصيحة، لأن هذه الفصيحة تمثل الجامع القومي المشترك بين كلّ الأقطار العربية، لكن هذا الخيار كان سيجعل من الرواية مجرد إضافة عدديّة في سجل رتل الروايات التي صدرت والتي ستصدر عن «الربيع العربي» المغدور.
وكدأبها في كل ما كتبت، فقد تابعت سامية العطعوط في هذه الرواية، تنصيب نفسها بوصفها سارداً إنساناً، وليس بوصفها أنثى أو ذكراً، مع أنها تجيد السرد الأنثوي أيما إجادة كلّما تطلب الموقف ذلك وتجيد السرد الذكوري أيّما إجادة كلما تطلب الموقف ذلك أيضاً، إلى درجة الإدهاش التام، ودون أن يقلّل ذلك من جرأتها المعهودة في رسم المشهد الجنسي بحِرَفيّة بالغة وفي الوقت المناسب، بغية توظيفه فنيّاً وفكرياً ودلالياً في السياق العام الذي تطمح لتدشينه.
وإن كانت الروايات الباهرة تضطلع دائماً بتقديم بعض الإجابات ونثر بعض التساؤلات، فإن السؤال الأبرز الذي يصعب التغاضي عنه بعد الانتهاء من قراءة الرواية يتمثل في ما يلي: لماذا كتبت سامية العطعوط عن ثورات تونس ومصر وليبيا وسوريا وأغفلت الكتابة عن الثورة اليمنية، مع أنها أقرب إلى السارد الأردني، وربما أكثر إغراء بتتبع مسارات الغموض والمفارقات والتناقضات، مقارنة بالثورة التونسية على سبيل المثال؟!
_______
*الرأي