*عبد القادر رابحي
خاص ( ثقافات )
لا تأخذ المسارات الشعرية عند الشاعر الجزائري الأخضر بركة طريق الترددات المسموعة. كما أنّها لا تعيد فتح الخزائن التخييلية التي تمّ فتحها سابقا من طرف المارين على الكلمات العابرة، فدخلت في ما أصبح مكرورا ومعهودا ومنظورا إليه. إنّ الشاعر الأخضر بركة، في تجربته الشعرية المتجددة، إنّما يحاول أن يتجاوز الراهن الشعري المخيم ككثير من القيم الأخرى، على المخيلة الشعرية الجزائرية، ليضع الذات الشعرية على حواف المغامرة التخييلية التي تستمد طاقتها الإبداعية من الحاضر والآني والمعيش اليومي، لا في ما يحمله من أغلفة ظاهرة عادة ما أرقت الكتابات الشعرية العادية، ولكن في ما يختزنه من عوالم باطنية تخترق عينُ الشاعر الثاقبة طبقاتها المتعددة الموغلة في عموم المعنى والمتكلسة في مكبوتات الأنفس ومكتوبات الأفهام، من أجل الوصول إلى لبّ المساءلة الشعرية، ذلك لأننا إزاء المساءلة الشعرية في جوهر اكتنازها لفيوضات المعنى وهي تتعرض لأول مرة في الشعرية الجزائرية والعربية، لما لم تتعرض له من مضايقة جمالية من طرف أي شاعر آخر من قبل.
في (إحداثيات الصمت)، كما في (محاريث الكناية)، كما في غيرهما من أعماله الشعرية التي صدرت مؤخرا عن منشورات دار ميم، يحاول الشاعر الأخضر بركة أن يتجاوز المعهود الشعري في رؤيته المستهلكة من أجل البحث عن مداخل للمعنى ومخارج للذات وهي تتلقف ما يعتمل في كنهها -أي في فرن الشاعر الذي تنصهر في ثناياه أعتى المواد الإنسانية صلابة- من حالات قد لا ينتبه إليها -أي إلى الشاعرية المكبوتة فيها- أيّ شاعر آخر.
هذه المادة الأكثر عتوّا والأكثر رفضا للانصهار ليست غير (المعنى) النائم على أذنيه الاثنتين -أو يكاد- في حرير التعوّدات لفرط ما لم يلاقه من مضايقة، ولكثره ما دثّره به المارون على الكلمات العابرة من سلامة مَرْبَعِيَّةٍ لا تزيد المعنى إلا افتخارا بانغلاقاته المحكمة على الشعراء المتثائبين في باحاته الفسيحة.
ربما كان في وسع الشاعر أن يتساءل من دون الرجوع إلى هذا الحفر المتأني في منجم المتراكمات الدلالية، عن جدوى الوقوف ندّا شرسا في وجه المعنى الذي يغط في نومه. وربّما كان السؤال ضروريا في تلقف مُدْركات الانشراح الفاضح للمعنى وهو يكشف عن عورته السُّرية والسِّرية معا، واللتين طالما تغاضى عنهما كل الشعراء الذين هم نحن، خوفا أو حياءً أو عجزا، ولم يأبهوا بهما وهم يكرّسون البلاغات الكلاسيكية في كتابة حداثية شكلا وتوليفا دلاليا، لم تعد تطيق محمولات ما تلاقيه من تناقض بين المُنجز اللغوي والادّعاء التخييلي غير المُحقّق واقعيا.
وربما كان السؤال كذلك في يد صاحبه، رؤيةً نافذة في تسخير (جان) الوصول إلى البؤر اللؤلؤية الكامنة في طين الاندراج، وتراب الغفلة، وماء الحرف الدافق، وإلا، فما معنى أن يتحول الحديث عن (الشيء) -وهو عنوان قصيدة للشاعر في ديوان (محاريث الكناية)، غير أننا نعتبر أن كل موضوعة بركوية هي (شيء) قابل للصهر-، إلى عمل حفريّ تتناسق فيه شعرية الذات مع منطقية الرؤيا الباحثة عن موضوعةٍ جديدة غير ملموسة، وتتناسب فيه حمولات المعنى المُكتشف مع موازين اللغة الأخّاذة في توصيف(الشيء) -وما أكثره عند الشاعر- توصيفا يستنطق المسكوت عنه، ويساءل اللامفكر فيه، ويجاهر بما لم ينله خيال شاعر آخر من مفاتيح وما لم يظفر به من فتوحات.
لا يتواني الشاعر في إيجاد المعادل اللغوي الذي لا تتحقق الفتوحات النصية إلا به. كما لا يدّخر جهدا في إيفاد مراسيل الفطنة لِثنْيِ اللغة عن الحرن الأبدي في المناطق المحرّمة والبقاء في ما هي عليه من كسل لفظي ورتابة ألسنيّة وتعوّد دلاليّ، وإجبارها، من ثمة، على الخروج ثائرة على واقعها النصيّ من كهوفها المظلمة، وأغوارها الباردة، ومعاقلها الضيقة إلى سعة الممارسة الحيّة المتلاحمة مع الممارسة الحياتية للإنسان وهو يعادل رؤيته للكون وللعالم وللأشياء بما اكتشفه أخيرا في جوف اللغة من لآلئ، وفي بحارها المتجمدة من أصداف.
وهو بهذه الحالة يوفّر لنصّه ضرورة الإقناع أولا، وهي الضرورة الأولى الضامنة للضرورة الثانية التي هي ضرورة البقاء في خضم البحر المتلاطم من النصوص الشبيهة والجنيسة والمقتفية الأثر. ذلك لأن الأمر إنما يتعلق بالأثر الذي تقودنا إليه مباشرة، ومن دون واسطة، قصائد الشاعر الأخضر بركة وهي تفتح للشعرية الجزائرية المعاصرة بابا جميلا على عالم أصيل ربما لم تعهده منذ زمن طويل جدا بالنظر إلى ما يكتنف مثيلاتها في العالم العربي من تسارع محموم في تجريب اللامجرب، وكتابة غير المكتوب، وترسيخ الهارب من لحظة التفكير كأنه الفراشات المستحيية من البقاء طويلا في عالم النصوص الشعرية الأرضية.
يتخذ (الشيء) أشكالا متعددة، وحالات مُثنّاة، وتحولات كثيرة في مكتوب الشاعر كما في مكبوت النص. قد يصبح (الشيء) ظاهرة طبيعية كما هو الحال في قصائده الأخيرة، ريحا أو ماء أو مكانا تائقا للتحرر من أسر التصورات المسبقة كما هو حال قصيدة (الحمّام). وقد تذهب من الإنسان بوصفه إنسانا في كل ما يوحي به معناه الظاهر إلى الإنسان بوصفه آلة تُساق في سوق الأشياء، تباع وتُشترى في مُجمّع (خُردة) المعنى، وقد توجد وحيدة يتيمة في فائض الهامش المتروك خصيصا لأمثال الشاعر الأخضر بركة -وأمثاله قلّة- لاكتشاف تناقضاته وتضخيم إعوجاجاته اللامرئية من أجل أن تصبح قابلة لأن تشاهدها العين العادية في مرآة الذات وهي تعكس ما لم يستقم منها وفق ما تقتضيه سنن الحياة ومدركات الطبيعة ومبادئ الكون، وكأن النص البركوي يبحث أول ما يبحث عن احترام قاعدة الحياة كما بث فيها الخالق قوانينه الفيزيائية المنسربة في (الريح) و(الماء) و(الضوء) وهي كلها قصائد يريد الشاعر بها ومن خلالها أن يعيد ترتيب العالم كما يراه ترتيبا شعريا هو أقرب ما يكون إلى الطبيعة، طبيعة الأشياء في حميمية اندراجها في العادي العميق، وفي بساطة تحققها في مسارته التي لا تتوقف أبد، ويخلصها، من ثمة، مما علق بها من فوضى تنهش أنظمتها البارزة والمتخفية، سبّبها سوءُ الفهم المتوحش الذي يتحمل الإنسان/الشيء مسئوليته الكاملة في ما حدث له أمس واليوم وما سيحدث له غدا، حتّى لكأنّ هذه القصائد تبدو، في جانب متخفٍّ منها، تحذيريةً ترفع البطاقة الحمراء في وجه من تعوّد على استفزاز الحكمة الكامنة في الأشياء والمودعة برفق وشاعرية في عوالمها الظاهرة والباطنة.
إنّها كتابة ضد الحماقة أولا (أحمق من يستفز الرّيح) كما يقول الشاعر الأخضر بركة. أحمقٌ في نهاية الأمر من يقف في وجه المعنى ولا يدرك قيمته الساكنة في الأشياء، وأحمقٌ من لا يوقظها ممّا هي فيه من غفلة وجودية، ولا يدرجها ضمن المكتوب الشعري بعدما ظلت طويلا ضمن المكبوت الشّيئِيِّ.
______
شاعر وناقد جزائري