*نادية أحمد محمود
مثل كل المرات السابقة جاء, محني الرأس كان, خطواته تتحدث بما في رأسه, تهدل كتفيه يشي بما في صدره, يتقدم بساقيه الطويلتين، وعوده النحيل يميل أعلاه إلى الأمام؛ كأنه يبحث عن نهاية سريعة لمهمة شاقة على نفسه, يفعلها رغماً عنه, ربما للهرب من توبيخ ضميره أو هي محاولة الإفلات من إحساسه بأنه أغضب الله بما فعل.
الغريب أنه في كل مرة يعتقد أنني غاضبة, ربما لأنني أرتدى أمامه قناعاً من استياءٍ, أنأى بنظراتي عنه, أتحصن وراء صمتٍ يطول بطول المدة التي أراها مناسبة لعقابه, ورغم أنه يكرر أخطاءه عادة بذات الأسلوب وأعاقبه أنا أيضاً عادة بذات العقاب؛ إلا أنني في كل الأحوال أبدي مالا أبطن أبداً, بل العكس هو الذي يحدث, فحين أنأى بنظراتي عنه أكون أحرص على متابعته من أي وقت, أرقب نظراته, لفتاته, وكل حركة تصدر منه, وتشتعل نيران معركة حامية في أرجاء صدري بين الصمت والكلمات, فأراني أريد أن أندفع إليه, آخذه بين جناحيّ، أهمس له أنه أعز وأغلى من كل شيء في وجودي, أنه لولاه لما كان للحياة معنى ولا مذاق ولا هدف, وفى ذات الوقت أراني أريد أن أنبهه إلى أن تصرفاته محسوبة عليه, إنه بقدر معاملته للآخرين يكون تعاملهم معه, وأكتوي بنيران تلك المعركة كثيراً, أراني حائرة لا يهدأ لي قرار, إلى أن أراه عائداً متهدل الكتفين محني الرأس هرباً من عيني, مطوحاً ساقيه الطويلتين أمامه إلى أن يقترب مني, يرفع رأسه ويبدأ طقوس اعتذاره المعتاد.. هذه المرة لم يعد, مرت أيام ثقيلة الوطء, رأيتها تتمدد, تستطيل وتستعرض, وأنا سادرة في إعراضي عنه رغماً عني, وبين لحظة وأخرى أنتظر أن يتحرك, يعود إليّ, يبدأ طقوسه المعتادة, دون جدوى.. راودتني فكرة أن أحادثه أنا وأتناسى ما كان, أبت نفسي هذا, اليوم رأيتني محصورة وسط جدران مكسوة بثلج يتغلغل في عظامي, الصور المعلقة من حولي.. التي كانت دافئة بفعل البسمات التي تملؤها، لم يعد بإمكانها أن تتغلب على التراب الذي يعلوها والثلج الذي يحيط بها, بينما الهواء يدور محملاً برذاذ حيرة تنداح حدودها من حولي موجات وراء موجات, بينما اللحظات تصر على التوقف لتلهب مشاعري أكثر, أردت أن أصرخ, أواجه الصور والجدران واللحظات, أشكو لهم ولدي, ولدي, ولدي.. ازدادت دموعي انهماراً وأحرف كلمة ولدي تتوالى وتتكاثر وتدق جدران رأسي وباحات قلبي, تتفجر مشاعري, تفيض أحزاني, وأراني وسط صحراء حياتي أنعى زمناً فرحت فيه بإنجاب ولد, وسعدت بعدم إنجاب أنثى, لاعتقادي أن الإناث تأتي بمشاكلها معها, أقول لهم صادقة لو عاد الزمن بي ثانية لتمنيت أن أنجب فتاة طيبة حنوناً تمنحني الدفء في عمري هذا, ولما فكرت أبداً أن أفرح بإنجاب الذكور البخلاء بمشاعرهم على والديهم.. تفجرت مشاعري أكثر, رأيتني في صحراء حياتي أكافح ضياعاً لا نجاة منه, والظلمة تأكل عظامي، وعيناي وسط متاهة الكون تبحثان عن مرسى.. ووسط هذا الغمام الذي يغطي عيني يتقدم جسد نحيل متهدل الكتفين, مطوحاً بساقيه أمامه حاملاً الشمس بيمينه والقمر في يساره, يقف أمامي, يحدق في عيني على غير العادة, يمد كفيه إلى كتفي، يحتويني بين ذراعيه هامساً بكلمات كثيرة لا أنتبه لها, وإن كنت واثقة أن دفء يديه قد استطاع بأقل مجهود أن ينفذ إلى سويداء قلبي لينتزع البرودة والدموع, ناشراً بين أرجائه ربيعاً وزهوراً متفتحة وسعادة بلا حدود.
_______
*قاصة من مصر(المجلة العربية)