صراخ في الغاب


*هدى بركات


دعك من تفاصيل وأرقام التراجيديا السوريّة وما تواجه به من تجاهل أو قلّة حيلة. ودعك أيضا من نقاشات الكنيست الإسرائيلي (مساء الإثنين) حول قانون يقضي بمنع سبعة وعشرين منظّمة إنسانيّة تدافع – أو تحاول – عن حقوق الإنسان لأنّها “يساريّة مموّلة من الخارج”. فلنبتعد قليلا عمّا يخصّنا… لقد بات أمر مساعدة المحتاج/الضحيّة في أيّ مكان منكوب مسألة تحتاج إلى تعريف جديد.
الأرقام التي يطلقها العاملون في المنظّمات الإنسانيّة تبدو الآن صراخا في الغاب. وبما أنّهم يعرفون جيّدا بأن ليس هناك –في الغاب – من يسمع، صارت أرقامهم تقفز دون أن توازي مبرّرات وجودهم.
في ما عدا الحصيلة السنويّة التي تتوقّف عندها وسائل الإعلام لبرهة، كأن في لفتة إنسانيّة سريعة لرفع تبكيت الضمير أو ما تبقّى منه، لا تبدو القفزات العدديّة ذات معنى. أن يكون الرقم قد تجاوز العشرات الأولى لملايين النازحين عن بلدان الحروب والجوع والإضطهاد بوصوله إلى حوالى سبعين مليون بشري في أقل من سنة لا يحمل أيّ “معنى” بذاته.
لا تقول الأرقام شيئا. بل هي قد ترفع سقف اليأس من أيّ حل ممكن. ماذا سيفعل مثلا مليون إضافي؟ أو مليونان؟ طالما أن شعوب العالم لا ترى في هؤلاء سوى تهديد اقتراب بعضهم من حدودها. هؤلاء، المسوّرون المعزولون في المخيّمات ليسوا مرئيين لأحد، وحسنا يفعل الصليب الأحمر – مثلا – بالحفاظ على “إقامتهم” هناك. معلّقون دون الموت لأنّ”نا” لا نحب المآسي يكفينا ما يندثر من حيونات بفعل الاحتباس الحراري. يكفينا أنّ الهواء الملوّث يقتل تسعة في المئة من موتانا في باريس، مثلا، درّة المدن!
ليس الأمر محصورا بارادة الطامح إلى سيادة الكون إذ يقدّم ترامب مطالعته لتصنيف إتني عرقي يعطيه دفعا وناخبين، ولا بهيلاري كلينتون صاحبة أفضال الحروب التي دفعت إلى تهجير الخليقة من أراض “حرّرتها”… الإتحاد الأوروبي، وريث الأنوار ووثائق حقوق الإنسان المنقّحة، يطلب من السماء بعض التفهّم لموقف أممه بشعوبها الكارهة للغرباء والرافضة بعنف لاستقبالهم. ثمّ يدفع ثمنا ما لتركيا لقاء “تدبيرهم” على أراضيها بالتي هي أحسن. فيجد “أطباء بلا حدود” أن التوكيل غير شريف بالمرّة ويقرّر ببيان مسهب رفض التمويل الأوروبي، متحمّلا التبعات لمن يهمّه الأمر، وشاملا في زعله هؤلاء المستفيدين من خدماته، بالضرورة…
وفي بلد الأمانة العليا للاجئين التابع للأمم المتحدة تتمّ “رعاية”سبع عشرة مليون لاجىء في مخيّمات لا يراها أو يعرف بوجودها أحد. هذا حصيلة مجهودات جبّارة! المخيّم الأكبر، الذي يضمّ في الأصل إفريقيين، وهو فتح أبوابه على مصراعيها لشعوب أخرى، موجود في “داداب” في كينيا. ولمن يحب أخذ فكرة عن الموضوع الاستعانة بغوغل. صحراء من الخيم في امتداد لصحراء كينيا، معزولة جغرافيا ومناخيا عن العالم. إنّه كوكب بحاله. يعرف الكوكب الآخر الذي نحن من سكّانه وبالخصوص مكاتب الأمم المتحدة في سويسرا – وهي التي برمجت المعسكرات على أنها مرحلية وانتقالية – أنّ هؤلاء البشر سيبقون في “مكانهم” لاستحالة نقلهم إلى أيّ مكان آخر وإلى أجل غير مسمّى…
هؤلاء، ماذا يغيّر في الأمر إعلامنا بأعدادهم؟ إنهم هناك، حيث لا يريد أحد أن يراهم. في النفي الذي لا خلاص منه.
***
في المشهد الأخير من فيلم “السفر إلى سيتير” يبتعد الزورق بالعجوزين إلى أفق يمّحي في الضباب. ما يتركه المشهد المذكور من مشاعر يفوق ما رمى إليه المخرج. كان أنجلو بولو يصوّر موات الذاكرة عند المنفيين، حتّى ولو عادوا إلى أوطانهم. الزورق المبعد في أفق ضبابي يليق اليوم بشعوب كاملة. بحمولة عظيمة من البشر الذين لا يريد أن يراهم أحد، وهم باتوا لا ينفعون في أيّ شيء، سوى ربّما أسمدة لتلك الأرض القاحلة…
ولو قلنا إن المقاييس تختلف بشدّة في تغطية حدثين، أوّلهما ولد أميركي أكلته التماسيح في ديزني لاند، وثانيهما قارب ينقلب بمئات من الأطفال الذين سيغرقون أمام عيوننا، فإن الكلام سيوصف بالديماغوجيّة وباستدرار رخيص لمشاعر الناس، المشاهدين الحسّاسين. وقد يكون الوصف صحيحا نظرا لعبثيّة المقارنة، بل لاعقلانيّتها…
هناك شعوب تقع في موسم الـ”صولد” باستمرار. وبالإرقام. أميركي واحد مقابل ألف أو مئة ألف عراقي، مثلا. إسرائيلي واحد مقابل ما تشاء من الفلسطينيين. هكذا هو الأمر في نعيم الشعوب التي اختارها الربّ.
أمّا التطريز بالأخلاق والقيم الإنسانيّة وما شابه فهو قد صارمحض ديماغوجيا.
___
*المدن

شاهد أيضاً

رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود

(ثقافات)   رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود د. محمّد محمّد الخطّابي *   أيها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *