*إبراهيم صموئيل
أحسب أن الرغبة في الكتابة شعور يعتمل ويحتدم في دواخل معظم الناس، وهذا ما كانت عبّرت عنه جدتي مرة، ثم أمّي في ما بعد، وأبي حين تقدّم في العمر، مخلّفاً من تجارب الحياة -بمراراتها وأفراحها- الكثير مما يصلح حقاً أن يكون مادة للكتابة.
وعلى النحو ذاته، سمعنا كلّنا وما زلنا نسمع العديد من الأشخاص -خصوصاً ممن خاضوا تجارب الحياة وعانوا من امتحاناتها الكبرى- يرددون القول “ليت لديّ القدرة على الكتابة لكنتُ كتبت عن حياتي وعما عانيت منه الكثير جداً”. وهو قول ليس عابثاً، بل أمنية صادقة تضمر رغبة جامحة -دون إمكانية لدى أصحابها- في الكتابة.
ومن هنا يمكن طرح التساؤل الآتي: “هل الكتابة الأدبية رغبة أم إمكانية؟” ورغم البداهة الصريحة في التساؤل فإنّ فيض الإصدارات التي نشهدها في حقول الشعر والقصة، والرواية خاصة، يملي طرح البديهيات والنوافل، ويجعل التوقّف معها أمراً لازماً لا بدّ منه.
إذا كان على الرغبة، فإنّ معظم الناس -إنْ لم يكن كلهم- لديهم شهوة إلى المطبوع، رغبة في كتابة قصة أو رواية أو مذكّرات أو ما شابه، لديهم ميل قويّ لمشاهدة أسمائهم مخطوطة على أغلفة كتب تضمّ وقائع وتجارب حيواتهم، يزيّنون بها منازلهم.
تجارب الحياة
هذا حقّهم، خاصة أن لدى العديد منهم تجارب وأفكاراً وتخيّلات وأحلاماً وذكريات وأمنيات وإحباطات ترغّبهم في التعبير عنها وإظهارها في عمل أدبي أو كتاب ما، والكثير منهم جرّبوا الكتابة في مطلع شبابهم، ولو كان على شكل خواطر وتهويمات بسيطة، أملاها فشلٌ في علاقات عاطفية، أو ابتئاس من أوضاع أسرية، أو شكوى من حالات فقر وعوز، وما إلى ذلك.
ويمكن أن نضيف إلى ما سبق أن ثمّة رغبات مكتسبة اكتساباً، وأعني: حين أقرأ محمود درويش -مثلاً- وأتابع شهرته ونجوميّته تتحرّك في داخلي رغبة في أن أكون على غراره، وإذا قرأت قصص يوسف إدريس دهمتني شهوة أن أكون قاصًّا علماً مثله، وكذلك الحال إزاء مختلف النجوم، في مختلف الحقول؛ فأمر الرغبات والميول والأمنيات لا حدود له، ولكن ماذا عن الإمكانيات والموهبة لدى الراغب؟
في ما يتعلّق بحقل الكتابة بالذات، يبدو المراد لمعظم الناس سهلَ المنال، وتحقيق الرغبة ممكناً، فما على المرء سوى الإمساك بالقلم والخط به على الورق. هذا في ما مضى، أما اليوم فقد بات أمر الكتابة أسهل وأيسر بما لا يُقاس عبر وسائل الاتصال الحديثة التي أشرعت الأبواب أمام مليارات الأشخاص ليكتبوا وليصدّقوا أنهم كتّاب.
أمّا عن الإمكانات والمواهب، فيندر أن يشكّ أحدٌ في إمكاناته وموهبته، يندر ألاّ يُعجَب أحدٌ بنفسه. وما شجّع ضعاف أو عديمي الإمكانيات، وأجّج رغباتهم -فضلاً عما أتاحته لهم وسائل الاتصال- ملاحظتهم شارع الثقافة العربي الذي امتلأ بما هبّ ودبّ من الأعمال الشبيهة بالأدب، هابطة المستوى، ورغم ذلك فثمة مَنْ راح يروّج لتلك الأعمال ويثني عليها، ويمتدح أصحابها، ويلفّق المقولات والأحكام النقدية لدعمها ومساندتها.
“أمر الكتابة بات اليوم أسهل وأيسر بما لا يُقاس عبر وسائل الاتصال الحديثة التي أشرعت الأبواب أمام مليارات الأشخاص ليكتبوا وليصدّقوا أنهم كتّاب”
موهبة وإبداع
سنقرأ ما يشبه رواية، أو ما يقارب قصّة، أو ما يداني شعراً؛ ولكن دون أن يستحق الإدراج تحت اسم جنسه، ودون أن يَعِدَ بأيّ مستقبلٍ لتفتّحه وعطائه، هذا عدا عن كوارث من مطبوعات لا لون ولا طعم ولا جنس لها، تكتظّ بها المكتبات تحت مسمّيات وعناوين وتراكيب لفظيّة لا تقلّ عن نصوصها ضحالة.
لقد أسست لهذه الأعمال ودفعت لطباعتها ونشرها الرغباتُ المحتدمة ليس إلا، رغبات أصحابها في أن يكتبوا، وفي أن يكونوا من عِداد الكتّاب، وفي أن ينالوا الشهرة، لكن دون أن يقفوا مع ذواتهم، أو يستأنسوا بآراء كتّاب وأدباء ونقّاد، ويجيبوا أنفسهم بصدق كامل: ألدينا الموهبة والإمكانيات لذلك أم لا؟ هل بإمكاننا أن نضيف جديداً؟ هل بمقدورنا أن نحقق إبداعاً؟
حال كهذه فتحت “السوق” ودفعت بالجميع إليه، وصدَّرت على واجهات المكتبات كتبَ عديمي الموهبة، المفتقرين إلى الحد الأدنى من الإمكانيات الأدبية إلى جانب كتب كبار الموهوبين المبدعين. ليس هذا فحسب، بل مع تنظير مرافق يرى أن الزمن كفيل بغربلة النفيس من البخس، أو أن التجديد والتحديث والتطوير بات يقتضي ذلك، لكأن القراء حقول تجارب، ولكأن الأجناس الأدبية ملاعب مفتوحة لكل عابر سبيل.
___
*الجزيرة.نت