*يوسف أبو شعيب
( ثقافات )
استنفذت نوبات سُعال المذياع عدداً كبيراً من بطاريات القلم أثناء الحَرب ، بطاريات القلم هكذا كان جَدي يُسميها ونحن ورثنا هذه التسمية أباً عن جَد .
لقد قال لي : أنها تكتب الصوت على الهواء لهذا كنت أرى أن المذياع يعمل ذاتياً دون أن أفكر أن هناك مبنى للإذاعة أو أن هناك مُذيعين ومحطات إرسال وتقوية وبث وأن خلف هذا الصوت جيش جرار وحشد غَفير، نعم لقد كنت أحسب المذياع كائناً حياً يأكل ويشرب وينام ويمرض فأنا أذكر تماماً أن أبي قد أمرني يوماً بوضع المذياع في الشَمس لأنه كان يعاني – وبسبب الرطوبة – من آلام الروماتيزم في مفاصل دوائره الكهربائية حيث عاد بعدها للعمل وبصورة أفضل من ذي قَبل.
كم كنت أتمنى أن أعيش في ذلك الصندوق لكنّ الأمر لم يكن مقتصراً على الأناشيد و الغناء وعزف مقطوعات الموسيقى فحسب لأن المذياع لم يكن ليكُف عن تلاوة نشرات الأخبار وسرد مُجريات الحَرب ، عدا أنه كان يَتعمد الكذب في كثير من المواقف والذي يَكذب وحسب ما أخبرني به الجميع (ربنا بحُطه في النار) لذلك قررت أن أقاوم رَغبتي تلك وأن أعمد إلى الإنشاد والعناء والعَزف بشكل مُنفرد.
نعم لقد كان هذا الحلم من أول الأحلام التي اضطررت للتنازل عنها مقابل مصالحة صغيرة مع ذاتي والتي غالباً ما كنت أنا وهي في شقاق ونزاع على كل صغيرة وكبيرة كانت تواجهني وإياها ، لكنّ ومع أنني تنازلت عن رغبة العيش في المذياع إلا أنني ما زلت فريسة سَهلة لمحتال يُدعى الأثير.