*د. حسن مدن
قرأ أديب أجنبي في كتاب يُعلم التحدث بالدارجة المغربية للناطقين باللغة الإسبانية طبع منذ أكثر من قرن جملة في الكتاب أثارت انتباهه تقول التالي: “بيوت العرب غامضة”. وتساءل الرجل بعدها: “غامضة؟!.. لكن بالنسبة لمن؟!”. قبل أن يفكر: “على أية حال ليس بالنسبة لمن ولدوا وعاشوا فيها ويعرفون ترتيبها الداخلي”. قبل أن يردف: ألا يكون الغموض المفترض مجرد شبح بالنسبة لمن يتأملون تلك البيوت من خارج، دون أن يعبروا قط مداخل أبوابها”.
وكنت منذ فترة في البيت الذي عاش فيه الشاعر الكبير إبراهيم العريض في أحد أحياء مدينة المنامة عاصمة البحرين، وتذكرت ما كتبه هذا الأديب الإنجليزي عن غموض البيت العربي. بيت العريض غدا الآن بيتاً للشعر ومتحفاً شخصياً للشاعر يحوي بعض أهم مقتنياته، مثلاً: العباءة (البشت) التي كان يخلعها على كتفيه، والنظارات التي كان يقرأ بها والآلة الكاتبة التي كان يستخدمها لطباعة شعره أو دراساته أو رسائله، ثمة عكاز أيضاً كان يتكأ عليه عندما وهن جسده هو الذي رحل في منتصف التسعينات من عمره، حيث عاش قرابة قرن.
وإلى ذلك هناك نسخ من دواوينه الشعرية ومسرحياته ودراساته النقدية وأصول الرسائل التي كان يتلقاها من نظرائه من الأدباء العرب أو يبعثها لهم. لذا ستجد هناك الخطوط الأصلية لميخائيل نعيمة، ونزار قباني، وسهيل إدريس، وحسين مروة وآخرين في هيئة رسائل بعثوها إلى العريض.
لكننا كنا بصدد غموض البيت العربي، وبيت العريض واحد من هذه البيوت، أو فلنقل أن فيه الكثير من معالم هذه البيوت، لأن المعماريين يقولون إن في بيت العريض عناصر من العمارة التي ندعوها بالنموذج الكولونيالي، في إشارة إلى ما خلفه الإنجليز من لمسات على العمارة فترة بقائهم الطويلة في الخليج. أمام الغرف ثمة ساحة مفتوحة على السماء، عليك أن تجتاز هذه الساحة وأنت تخرج من الغرف في الطابق الأول لتصعد سلالم درج يقع في أحد أطراف الساحة تأخذك إلى الطابق الثاني. هذه الساحة لا تشي بالغموض إنما بالوضوح، لأنها مفتوحة على النور الذي يغمر البيت نهاراً صادراً من شمس ساطعة، مبهرة السطوع، فيتسلل ضياءها، خيوطاً عريضة إلى زوايا الغرف.
لوهلة عليك أن تنسى إنك في بيت الشاعر، وتفكر إنه يشبه بيوتنا القديمة كلها، البيوت التي إما إننا ولدنا فيها أو اجتزنا فيها مدارج الطفولة والصبا وسنوات الشباب المبكر، قبل أن تأخذنا الحياة، عنوة في الغالب، إلى مدارات ومصائر أخرى تختارها هي أكثر مما نختارها نحن.
من أين إذاً أتى ذلك الرجل الأجنبي، الذي عاش قبل أكثر من قرن بانطباعه عن غموض البيت العربي؟ من الصعب الجزم بيقين هنا، ولكننا سننظر للأمر من زاوية أخرى، إن الغموض الذي يعنيه هو قريب الفتنة أو الدهشة أو حتى ذاك التماهي بين الإنسان وبين بيتٍ يشبهه، لذلك كانت كل تلك البساطة والحميمية التي نستعيدها ذاكرة كلما خطت أرجلنا في باحة البيت من تلك البيوت التي اجتزنا سنواتنا البريئة التي باتت ماضياً.
من أجمل ما كتب عن البيوت هو ما كتبه عن البيت الدمشقي ذاك الذي أورده بحب وحنان المحامي والكاتب الموسوعي نجاة قصاب حسن الذي قال أن النجار العربي قديماً كان مهندساً، يوم لم يكن في الشام مهندسون إلا في مصالح الجيش العثماني، فالدار الشامية القديمة كلها من خشب إلا بعض الجدران الحجرية في البيوت الكبيرة، وهي تبنى أول ما تبنى هيكلاً من أعمدة الحور كالقفص. وكانت عملية بناء الهيكل وحسن توجيهه وتوازنه وأحكام شد أجزائه بعضها إلى بعض ببراعة ودقة بالغتين، تسمى “صَلب” في تعابير النجارين. ولم يكن الإسمنت المسلح لا مستعملاً ولا ضرورياً، أما الطينة فكانت من الكلس المقوى بقشر القنب أو من الطين مع التبن، وأما الأرض فكانت من مزيج الكلس، وكان هذا قبل أن يوجد البلاط، أما الأغنياء فيستخدمون الرخام أو الحجارة الملونة.
وكان الدمشقيون حريصين على توجيه البيت نحو القبلة لتدخل الشمس إلى الغرف شتاء ولا تدخل إليه صيفاً، ويحسنون دوزنة الأرض حتى يأتي الماء إلى الدار من نظام المياه العجيب في دمشق الذي يجعل بردى يتوزع بالانسياب الحر في كل منازلها على الإطلاق. وكان الواحد من هؤلاء النجارين المهندسين إذا أوشك بيت قديم على التهدم والتداعي بأن انكسرت خشبة السقف المستعرضة، يحسن تعليق السقوف بأعمدة تدعمها، ولذلك فن مرهف يجمع بين القوة ودقة الحس إذ تؤدي حركة بسيطة غير محسوبة إلى الانهيار الكامل.
وبين غرف البيت توجد “مشرقة” وهي عبارة عن فسحة سماوية علوية مكشوفة من ناحية السقف، وتحيط بها الجدران من الأطراف الثلاثة المتصلة بالجوار، ولكنها تطل على الديار، وغالباً ما تكون فيها دالية العنب، وفيها يكون نشر الغسيل، ومنها تكون منادمة الجارات، وأحياناً قصص الحب بين أولاد الجيران من الجنسين التي تدور خفية عن الأهل وبصورة ناعمة. وبذلك فإن البيت الدمشقي يشكل في الوقت نفسه مشتى تدفئه الشمس وتعزله عن البرد الخارجي جدران من الخشب واللبن اللذين يمنعان البرد والحر، ومصيفاً إذ أن ساحة دياره لاسيما حين تشطفها الصبايا من ماء البحر وقاعاته، تكون كلها في برودة الراوند. كان طراز البناء الشامي متفقاً مع الإقليم الشامي القاري الرطب، أي عازلاً للحرارة في الصيف ومانعاً للبرد والرطوبة في الشتاء.
البيت الدمشقي من الداخل غيره من الخارج. من الداخل جنة، تفوح منه رائحة الورد الدمشقي المشهور بالبلدي، وهو عطري ومعروف في العالم كله باسم وردة دمشق (روزا دامسينا)، والورد الجوري، والفل وبذلك يكون البيت كأنه مزرعة ورد مهما كان فقيراً، فإن فيه من (شقف) الزريعة ما يجعله يشبه حديقة صغيرة غناء فعلاً، وكان أهل دمشق يقولون عن عنب الديار أنه يطول الأعمار ويستخدمون ورق الليمون والنارنج مغلياً وهو شراب طيب ومفيد، كما لم يكن يخلو بيت من قطعة غناجة وهي نبات إذا لمسته أغلق أوراقه ثم عاد بعد قليل ففتحها وكان الفتيان والصبايا الصغار يتسلون به كثيراً.
في مدننا الخليجية الكثير من العناصر التي تهيئها لأن تكون مدناً رؤوف أو أليفة، لكنها مع ذلك تتبدل بسرعة جنونية، وتفقد تدريجيا ألفتها السابقة التي كانت عليها بيوتنا، والتحديث الذي نحياه قد يبهرنا لكنه لا يلغي من ذاكرتنا الصورة الرؤوف للمدينة القديمة التي نفقدها، صورة قرص الشمس يتوارى عند الغروب وراء غابات النخيل التي كانت قبل أن تأتينا غابات الإسمنت وأبراج الزجاج، فحين يدور الحديث عن التدويل تنصرف الأنظار غالباً نحو الاقتصاد، لكن هذا التدويل، او العولمة إن شئنا، تطال أيضا البنى الثقافية والرمزية بما فيها عمارة البيوت والمحلات.
ان تنوع المناخات بين قارة وأخرى وبلد وآخر أفرز نماذج مختلفة من العمارة، وثمة خصائص نفسية وروحية تتشكل مع الزمن من شكل ووحي العمارة المحلية وطبيعة المادة المستخدمة فيها وشكل الفسح والشرفات وتصميم المداخل والسقوف وطريقة توزيع الغرف، بالصورة التي تلائم الميراث الثقافي الخاص بكل بلد وشعب.
العمارة الحديثة التي تجتاحنا اليوم هي عمارة الزجاج، ولا يقام اعتبار لكون طبيعة المناخ والبيئة في منطقتنا تجعل هذه الأبراج أفراناً من نار في حال توقف التكييف أو انقطاع الكهرباء لأي سبب من الأسباب. عبقرية المعماري القديم في بلداننا الخليجية تظهر في اجتراحه لمعجزة استخدام المادة الطينية والحجر المناسب، مضافاً اليه ذوقه الرفيع في تصميم مرافق المدينة: المنازل والأسواق والمساجد والقلاع وحمامات السباحة، لكن عمارة الزجاج لا تقوم على معجزة أو عبقرية، انها عمارة الزي الموحد التي لا تنتسب إلى مدينة بعينها أو بلد بعينه. لقد مضى زمن المدن الصديقة، الوديعة، ذات ممرات المشاة الضيقة وظلال البيوت المنسقط على الأرض منشئا ألفة ووداعة، وجاءتنا حضارة الزجاج.
من المفارقات أن طبيعة الحراك المجتمعي في بعض بلداننا الخليجية، كما هو الحال في البحرين مثلاً، خلال العقدين الأخيرين على الأقل، أدت إلى عودة إلى ما كان يعرف ب “البيت العود”، تخت ضغط تراجع مكانة الطبقات الوسطى واتساع القاعدة الاجتماعية الأقرب إلى الفقر منها للحال المتوسط، بحيث أن الفئات الفقيرة تزداد فقرا، فيما تنضم إليها أو تقترب منها شرائح كانت حتى حين قريب تعد في قوام الشرائح الوسطى.
“البيت العود” أو في تعبيرات علم الاجتماع “العائلة الممتدة”، هو ذاك البيت الواحد الذي يضم الأبوين، وأحيانا حتى الجدين، ومجموعة من الأحفاد المتزوجين مع عائلاتهم، بعد أن شهدنا خلال العقود الماضية ميلا واسعا في اتجاه “العائلة النووية”، بفعل تحسن مداخيل شرائح مهمة استطاعت، بفضل مقدرتها على سداد قروض الإسكان والبنوك وأرباحها، أن تبتاع قطعة أرض وتبني عليها سكنا مستقلا.
وقد مثلت هذه الظاهرة تحولاً اجتماعياً مهماً ترتبت عليه أشكال حديثة من الوعي ومن نمط المعيشة وشكل الاستهلاك وطرق تدبر الحياة، فإذا بنا نعود مجددا تحت ضغط السياسات الاقتصادية الخاطئة إلى حال بات فيه الأبناء يكبرون وينهون دراستهم ويدخلون سوق العمل، أو يظلون عاطلين، ويتزوجون وهم غير قادرين عن الاستقلال عن أهاليهم في سكن مستقل، حيث يتدبرون أمورهم ببناء غرف أو شقق صغيرة ملحقة ببيوت الأهالي.
لكن على خلاف “البيت العود” التقليدي الممتد أفقياً على مساحة من الأرض واسعة نسبياً، فان نظيره الجديد يقوم على مساحة صغيرة تحمل أصحابه على التمدد عمودياً ببناء طوابق إضافية كي تستوعب الأجيال الجديدة من العائلات. انه “بيت عود” بالفعل، ولكنه فاقد لكل الخصائص النفسية والمعمارية التي كان عليها سلفه.
______
*جريدة عُمان