*نزار عثمان
من المتعارف عليه أن لمس القطع الفنية في المعارض والمتاحف على مستوى العالم، أمر غير محمود بل ومحظور، بل أكثر من ذلك فإن من يحمل او ينقل الأعمال الفنية في دور المزادات العالمية مثل كريستيز وسوثبيز وغيرهما يرتدي القفازات في يديه. ولعل لهذا الامر أسباباً مباشرة، منها على سبيل المثال حماية العمل الفني من آثار البصمات والاتساخ والتمزيق بل وحتى السرقة. لكن هل الامر يتوقف عند هذا الحد بهذا المستوى من البساطة؟ أم لعل هناك أسباباً أخرى ضاربة في اللاوعي ومسكوتاً عنها؟ لا ندعي أن هذه السطور ستنحت اجابة شافية واضحة المعالم، بل الحال هو المقاربة الجزئية، وتسليط الضوء على بعض النقاط، وطرح سؤال واحد، على اعتبار المقولة التي تنقل “ما لا يدرك كله لا يترك جله”.
لا بدّ من الاشارة بداية الى كيفية التغيير التي تصيب الوعي الانساني حول معنى الفن ومدلوله، ففي المراحل القديمة لم يمكن فصل الفن عن الطبيعة، لكن الان وقد أضحى العمل الفني في مضمار عملية الوعي الزاخم بتجربة انسانية عمرها قرون، بات الفن يشكل نقطة وسطى بين الظواهر الطبيعية وعالم الموجودات الروحية، وهو مع ذلك وسيلة للاتصال.
من الحين الذي انقسمت فيه الموجودات الى واقعية وذهنية، أضحت اي محاولة لجعل المخفي في الذهن ظاهراً، ولو بأدلة منطقية او شعورية، عملية محمودة تقتضيها الجماعة، وواقعاً يتطلب تفكيراً عميقاً يوجب عند ممارسته الاحتفاظ بتماسك هذه الجماعة. وما دام لهذا التماسك بُعد روحي فلا بد من الاتجاه صوب إخضاع الفن – كما غيره من الظواهر- لهيمنة النظام الحاكم – الذي كان ذا طابع ديني في الغالب – وتأكيد مصالحه. ويبدو من خلال نظرة سريعة، وعلى ما تم الاجماع عليه، أن الانسان فُطر على الابتكار الفني، وكان هذا الابتكار، تاريخياً، مرتبطاً بالدين على المستوى الطقسي بشكل او بآخر.
لعل الاعمال الفنية، في ما قبل التاريخ، والضاربة في القِدم، تنقل الينا ان الانسان كان يرسم الحيوانات على جدران كهفه بعلة اعتبرها الباحثون انها تمكنه من السيطرة على ارواحها وبالتالي يسهل اصطيادها. ثم اتخذت طابع السحر في تصوير مخاوفه وحمايته منها. ثم في زمن الاغريق والعصر الذهبي من القرون الوسطى تعلق الفن بالدين أكثر، حيث بتنا نراه يسجل وقائع دينية، ويحط رحاله في اماكن العبادة، وصولاً الى الثورة الفرنسية والحربين العالميتين عندما اتخذ الفن شكله الحالي، فاستقل عن الدين بطريقة ملموسة… لكن هل ما زالت هناك رواسب مخفية تحكم علاقتنا باللوحة والعمل الفني؟
يبدو من خلال ما تقدم ان الفن تاريخيا كان له ارتباط وثيق بالدين، فالتماثيل كانت تُعبد، واللوحات تمثل وقائع وشخصيات دينية او اجتماعية تمثل الاجلال والاحترام، وهلم جرا.. من هنا وعلى اعتبار ان الداخل الى مكان العبادة، يستحضر بذاته كل المضامين القبلية التي يحتمها الدين، من قبيل الخشوع والورع والتمسك بالروحانيات وغيرها… فضلا عن اعتباره المادة تأتي في المرتبة الدنيا وبالتالي الروح سامية، بينما البدن هو مسكن الخطيئة، كان الوافد الى مركز العبادة على ما أسلفنا يُعرِض عن لمس الاعمال التي تحتوي بذاتها بُعداً ما ورائياً، تطهيراً لها من الاشتباك بالمادة التي يمثل، ورفعاً لها عن الاختلاط بالامور التي يسعى للتخلص من سطوتها. واليوم عند الدخول الى المتاحف او المعارض يشعر المرء بنفس السطوة والرهبة التي لأماكن العبادة بشكل او بآخر، ولو انها بفعل التطور والاحداث التي جرت على مر التاريخ الحديث والمعاصر قد استقلت عن الدين بطريقة أو بأخرى. إلا أن الاحساس المستحضر ما زال إجمالاً هو نفسه… من هنا يكتسب السؤال مشروعيته، هل لعدم لمس الاعمال الفنية في المعارض والمتاحف أثر لا شعوري ديني مسكوت عنه في ذاكرتنا الاجتماعية؟
___
*المدن