الأدب.. المنقذ من التصحُّر الإنساني


*محمد الحرز


سؤال قديم يتجدد، وشرط تجدده، تنحصر أسبابه في المتعة التي يتركها الأدب على قارئه. فمن يتصفح أغلب الموسوعات الأدبية يلاحظ في تعريفاتها اقتران الأدب بالمتعة باعتبار الأخير عنصراً جوهرياً في استمرار الأدب عبر عصور التاريخ. أضاف المؤرخون والنقاد أسباباً أخرى تختلف طبيعتها باختلاف تصوراتهم عن الأدب نفسه، وكذلك باختلاف طبيعة الثقافات المرجعية التي ينتمي إليه كل مؤرخ أو ناقد أو مبدع، فالتصور عن الأدب في السياق الثقافي التاريخي الإسلامي يختلف عنه بالتأكيد في السياق الثقافي التاريخي الغربي، ولن تقصر أيدينا عن الأدلة والشواهد العديدة، في كلا السياقين، إذا ما أردنا أن نفصل أكثر في هذه الفقرة من الموضوع، لكنني أريد الانتقال في الحديث عن مفردة الأدب الواردة في السؤال مقرونة بفعل القراءة.
هناك في الثقافة المعاصرة ما يشبه الإجماع على وحدة التصور للأدب عند أكثر المتابعين والمحللين، تحت مصطلح ما يسمى بالأدب العالمي. كما أن وحدة العيش المشترك بين البشر هي إحدى الروافع الكبرى التي تنهض عليها تصوراتنا الحالية للأدب، وهذا يعني فيما يعنيه، إنتاج قيم مشتركة توحد التجربة الإنسانية، وتتيح للإنسان فرصة المقاومة ضد كل أشكال العزل والتسلط والكراهية والإلغاء والقبح في العالم، فمحاولة فهم الحياة والعالم والطبيعة على أساس سبر أغوار عوالم الحب والموت والوجود والقلق والمرض والعقل والمخيلة هي من الوظائف الكبرى التي تختص بالأدب والأدب فقط.
وإذا كان الأدب في النظرية المعاصرة هو فعل تخييلي بالدرجة الأولى، فإن الشعر والرواية والقصة والمسرح والموسيقى والسينما وكل أشكال الرسم هي مقومات هذا الفعل، حيث لا ينفك يغذي الواحدُ الآخرَ منها رغم التفاوت في الطبيعة والموقع والتوجه. فالتجاور والتواصل بين هذه الفنون الأدبية وفعاليتها، أعطى للثقافة المعاصرة سمت الوحدة من العمق بينما أعطاها التراكم المعرفي والعلمي على السطح سمت التشتت والعمى والعزلة، وهذه إحدى المفارقات الكبرى التي يسعى الأدب في لحظته الراهنة إلى مقاومتها، وبعنف تخييلي في أغلب الأحيان، كرد فعل عكسي لما يجري في العالم.
المفارقة والأدب
ما المقصود هنا بالمفارقة، وما علاقة الأدب بها؟
حين دخلت التقنية والتكنولوجيا حياتنا المعاصرة، وأصبحت جزءا من التفكير الإنساني، وصارت تحكم الطوق على العلاقات الإنسانية شيئا فشيئا منذ ما يقارب القرنين من الزمن، وأثرت بالتالي على مجمل مسار المعرفة ودروبها، كان العلم وخطابه يمثل سلطة مؤثرة على العلوم الإنسانية من فلسفة وعلم اجتماع وعلم نفس وتاريخ، وكانت تقاليده وتصوراته للإنسان والحياة والطبيعة جرت مجرى الدم في عروق مختلف فروع العلوم الإنسانية، فأصبحت الفلسفة تطمح أن تكون علما كما أقدم الكثير من فلاسفة العصر، وكذلك علماء الاجتماع بشتى فروعهم سعوا إلى الاقتراب من مفهوم المختبر وفق مكانته التي يحتلها في الخطاب العلمي، وهكذا تعددت النظريات المتأثرة بهذا المطمح وفق تعدد الحقول المعرفية، وما زاد الطين بله، هو التشعب الكبير الذي أدخلت العلوم الإنسانية نفسها من خلاله تحت ما يسمى بالتخصص الدقيق، فقد يقضي باحث علمي في حقل الذرة ما يناهز الأربعين سنة في مختبره كي يكشف سر حركة الالكترون، كما يقضي باحث آخر في حقل الانثروبولوجيا المتفرع من حقل الدراسات التاريخية أيضا أربعين سنة يدرس لغة أقوام وطبائع متوحشين لم يدخلوا الحضارة المعاصرة من أبوابها كالقبائل المتعددة في البرازيل وهكذا.
وقد خلق هذا الوضع مساوئ عديدة إزاء إيجابيات التطور، من أهمها انقطاع التواصل بين الناس وكأن المعرفة العلمية والإنسانية نسجت حول الإنسان المعاصر أفعى العزلة وأسلمته إلى لسعاتها القاتلة، ودمرت في داخله غريزة الإحساس المباشر بأشياء الطبيعة، والإحساس العفوي بالشعور الإنساني، وعلى الرغم من القدرة الفائقة للتكنولوجيا في تحطيم أسطورة الزمن التي هي المسافة، بيد أن ذلك عمق المأساة أكثر ولم ينج من ذلك لا مجتمعات ولا أفراد.
من هنا، ووفق هذا المنظور، تكمن الأهمية القصوى لقراءة الأدب وممارسة فنونه في وقتنا الحاضر، ليس فقط لفك العزلة عن الإنسان بالحوار مع الآخر من خلال قراءة وكتابة الروايات والشعر أو سماع الموسيقى وارتياد المسرح وزيارة المتاحف والمعارض ودور العرض السينمائي، بل لأننا لا نستطيع أن نعرف ما يكفي من البشر إلا عبر الأدب، ولأننا أيضا مهددون في وجودنا بالتصحر. يقول فرانز كافكا « يجب أن يكون الكتاب فأسا جليديا لكي يكسر هذا البحر الذي تجمد بداخلنا».
طغيان التقنية
قد يتساءل البعض عن ذلك الأثر القوي الذي اخترق الفنون أيضا بفعل قوة طغيان التقنية على الحياة؟ قد يبدو ذلك صحيحا نوعا ما، فقد ضخت الأسواق التجارية العالمية أدبا تجاريا لمتطلبات التسويق، ويحمل بذرة التفاهة في داخله، وينطبق هذا الكلام على جميع فروع الأدب وفنونه، وأصبحت صناعة النجومية إحدى أهم الوظائف التي يقوم بها الأدب من خلال ربطه بمختلف الأسواق التجارية. ولكن صحيح أيضا – من جانب آخر- أن الأدب الجيد والعميق هو ما ظل يقاوم بقوة كل أشكال التسليع. واسمحوا لي هنا أن أنتخب فن الرواية لأدلل على ما أقول لأسباب من أهمها: أن عالم الرواية في ثقافتنا المعاصرة – كما أرى – هو ما يصنع الذاكرة البشرية بناء على فاعلية المخيلة، وهو ما يمدنا باللغة اللازمة في التعبير عن أدق مشاعرنا غورا في الروح مما يساعدنا على التواصل وفك العزلة، وهو الذي يعلمنا كيف نبني هويتنا الفردية بناء على ثقافة الحوار مع شخصيات الرواية.
لقد ساهم بروز الفن الروائي في أوروبا مساهمة فعالة في انتشار الفردانية بالتوازي مع انتشار المطابع وإنتاج الكتب والصحف والمجلات، ومنذ ما يقارب مطلع القرن الثامن عشر الميلادي راحت شخصية «دون كيخوت» لسرفانتس تخترق الوعي الأوروبي الأدبي والفكري والفلسفي، وتطبعها بطابعها من العمق باعتبارها الأيقونة التي تمثل انتقال المجتمع الأوروبي من «صفة الواحدية إلى صفة المتعدد» (فيصل دراج)، من الأزمنة التقليدية (الملحمية) إلى الأزمنة الحديثة (البرجوازية). وكل ما سوف يأتي لاحقا من ثقافة تتشكل في أوروبا، سيكون مدينا لهذه الشخصية، من قريب أو من بعيد.
ولم يقتصر تأثير الفن الروائي على أوروبا فقط، بل انتقل بشكل سريع إلى باقي المجتمعات والشعوب، خصوصاً مع انتشار الاستعمار الأوروبي وانتشار ثقافته ذات البعد المركزي. وعلى هذا الأساس انتبهت الشعوب المستعمرة (بفتح العين) إلى الإمكانيات الكبيرة الذي يحتويها هذا الفن، وشكل لهم بالفعل خطاب مقاومة وإرادة، وأتاح لهم الفرصة أيضا في استعادة هويتهم التاريخية التي استلبت منهم بفعل هذا الاستعمار.
ماذا عنا؟
إن التفكير بهذا الأمر وخلاصته بالنسبة لوضعنا الثقافي الأدبي (محليا وعربيا)، يفضي إلى مجموعة من التأملات التاريخية من بينها: أن العالم العربي استقبل الرواية القادمة من أوروبا، منذ بدأت النصوص التنويرية للتنويريين العرب في القرن التاسع عشر بالتركيز على أمرين: الأول ربط فكرة التقدم بإزاحة ظاهرة الاستبداد عن الأفق الثقافي الإسلامي، وقد تباين الاهتمام بين هؤلاء التنويريين، البعض كالكواكبي يرى الاستبداد السياسي هو الوجه الآخر للاستبداد الديني، ولن تتاح معارف جديدة في الفكر والأدب إلا بإزاحتهما عن هذه الثقافة والمجتمع.
ثاني الأمرين أن البعض الآخر كأحمد فارس الشدياق في كتابه «الساق على الساق» الذي جاء بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات في أوائل القرن التاسع عشر، كان يتغنى بالحرية، وكان الشكل الروائي الذي توسل به الغناء هو الشكل الأدبي الذي أنتجته المجتمعات الحديثة الغربية. وهو المعبر عن روح العصر للمدينة الحديثة أيضا.
وبين استنبات شكل أدبي مستورد وبين حاضنة ثقافية عربية إسلامية لا تعترف في أفقها إلا بالنصوص المقدسة، وبالقراءة الواحدة التي لا تؤوَّل، نمت الرواية في ظل حداثة مشوهة. لكنها سرعان ما وسعت من هذا الظل، وأوجدت لنفسها منطلقات وأسسا تعيد إنتاج نفسها بمعزل عن سلطة الثقافة السائدة، وأصبح الكاتب يحقق حريته الذاتية -على الأقل – داخل نصه بالاتكاء على قوة المخيلة وفاعليتها.
ويمكن القول إن التنازع بين النص الروائي وأفقه الثقافي والاجتماعي في حياتنا العربية المعاصرة فهو تنازع بين أسلوب كتابي يبتكر لغته من حياة الناس المعاصرين إزاء لغة أسلوبية منحوتة من الماضي، بين نص يستعير من ثقافة الآخر، وبين أفق يلغي هذا الآخر، بين نص ينزل إلى قاع الحياة وأفق لا يكرس سوى حياة الرئيس أو القائد . وبين هذا وذاك يبقى الرهان في أفق التغيير على كون الرواية هي الجنس الأدبي الذي لا ينفك يملك الإمكانيات الكبيرة للتغير نحو حيازة الحرية كاملة، وكما قالت ذات مرة الناقدة مارت روبير: «لا ديمقراطية دون رواية، ولا رواية دون ديمقراطية».
انتقام روائي
رأينا لاحقاً كيف استطاعت شعوب أميركا اللاتينية، بعد انحسار المد الاستعماري، وبعد تراكم خبرات واحتكاك بالآخر الغربي أن تستعيد عاداتها وتقاليدها ولغاتها الشعبية المعبرة عن أصالتها، من خلال السرد الروائي والقصصي، وبفضل كبار روائييها أصبحت رواية أميركا اللاتينية تتفوق على نظيرتها الأوروبية وتؤثر عليها من العمق، وكأنها أرادت أن تنتقم من الاستعمار بالكتابة فقط، فأسماء كبورخيس، وماركيز، وخوزيه ساراماغو، وإدواردو غوليانو، وآخرين كثر، هم الأكثر انتشاراً وتأثيراً عالمياً في اللحظة الراهنة.
___
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *