الهندي أخيل شارما يفوز بجائزة دبلن العالمية




*ترجمة: تحسين الخطيب


لم تذهب عذابات الاثنتي عشرة سنة ونصف التي قضاها أخيل شارما في كتابة “حياة عائلية” أدراج الرياح، فالرواية، منذ صدروها في العام 2014، وهي تحقق له مجدًا أدبيًّا لم يخطر بباله البتّة. فازت، بدايةً، بجائزة فوليو البريطانية للقصّ في العام 2015، متفوّقة على روايات كتاب مكرّسين، كالأيرلندي كولم تويبن والبريطانية آلي سميث والكندية راتشل كاسك.
ثم ما لبثت أن حصلت على جائزة الأدب الجنوب آسيوي للعام 2016، وها هي، الآن، تختاره من بين أسماء أدبيّة براقة، كالجامايكي مارلون جيمس (جائزة البوكر، 2015) والروائية الأميركية مارلين روبنسن، إحدى أكثر الشخوص تأثيرًا في العالم وفق قائمة مجلة التايم للعام 2016.
“كنت شخصًا مختلفًا حين شرعت في كتابة الرواية حتى شعرت بأنّني كنت أهدر شبابي عليها”، قال شارما في حديثه عن الآلام التي صاحبته في أثناء الكتابة، وكيف أنه ما زال لغاية الآن لا يصدق بأنّ الكتاب قد انتهى، فثمة خوف متواصل ينتابه بشأن حاجته إلى الذهاب والجلوس إلى الحاسوب.
وعن السبب الذي دفعه إلى تأليف رواية شبه سيرة ذاتية وليس كتابة سيرة شخصية مباشرة، أكد شارما أن هذا الخيار منحه الشجاعة الكافية لقول ما يريده بحريّة، دون أن تكون جميع الشخوص التي ينوي الكتابة عنها متحلقة حوله على طاولة الكتابة.
تلك الحريّة جعلته يتخلص من ضرورات الحوار، التي تفرضها السيرة الشخصية البحتة، وتقويض زمنيّة الأحداث ودمج الشخوص وإخراجها من سياقها التاريخي.
أسلوب بسيط في الكتابة؛ بلا حبكة تقليدية، دفع لجنة التحكيم إلى الحديث عن “قدرة الكلمات على تأويل الأسى” وعن النصوص غير العادية التي لا تخلق الأوهام، تلك التي “تجعلنا نتكلم عن شخوص الحكاية مثلما نتكلم عن أصدقائنا”، وعن نوع الروايات التي تستحوذ على القارئ فتجعله يشعر بعد أن يفرغ من القراءة بأنّ خصوصيات حياته لم تعد موجودة لأنّ المؤلف يمحوها بخصوصيات العالم الذي يبتكره.
وليس هذا التكريم هو النجاح الأول لأخيل شارما، المولود في دلهي سنة 1971، والمهاجر مع عائلته إلى أميركا بعد ثماني سنين. فقد سبق لروايته الأولى “أب مطيع” أن فازت بجائزة هيمنغواي في العام 2001. ولكنه مع كل نجاح يحققه يتواضع أكثر من ذي قبل— “إنه لأمر غريب أن يعترف بي الناس الذين أحترمهم. لا أستطيع القول بأنني قد خدعتهم. أشعر بالخجل إزاء هذا التكريم”.
أب فاضل بمزاج كئيب ووجه عبوس مقاطع من رواية”حياة عائلية”
مزاج أبي كئيب وشيمته العبوس. تقاعد قبل ثلاث سنين، ولا يتكلم كثيرًا. وآن يترك مع نفسه، فإنه يستطيع أن يظل صامتًا لأيام. وحين يحدث هذا، فإنه يدخل في تأمّل عميق، وتأخذه أفكار غريبة. أخبرني في الآونة الأخيرة بأنني كنت أنانيًّا، بأنني كنت دائمًا أنانيًّا، فحين كنت طفلًا كنت أشرع في البكاء ما يلبث أن يشعل التلفاز. إنني في الأربعين وهو في الثانية والسبعين. وحين قال ذلك، رحت أدغدغه. لقد كنت في بيت والديّ بنيو جيرزي، على أريكة في غرفة المعيشة. “من الطفل الحزين؟”، قلت. “من الطفل الذي يبكي طيلة الوقت؟”.
“إليك عنّي، قال صارخًا، حين تراجع، وجاهد كي يتملّص مني. “كُفّ عن التهريج. لست أمزح”. بشرة أبي لامعة على نحو ما. يتهدل الجلد من تحت ذقنه. وله شحمتا أذنين رفيعتين وطويلتين كسائر الكهول.
أمّي أكثر مرحًا من أبي. “كُن مثلي”، تقول له مرارًا. “أترى كم من الأصدقاء لديّ؟ اُنظر كيف أبتسم دائمًا”. ولكنّ أمي تتنكّد أيضًا، وحين تفعل، فإنها تتنهد قائلة “إنني ضجرة. أيّ حياة هذه التي نعيشها؟ أين آجاي؟ ما فائدة تربيتي له؟” وبقدر ما أستطيع أن أتذكّر فإنّ والداي قد أتعبا بعضهما البعض.
عشنا في الهند في غرفتين من الإسمنت على سطح منزل من طبقتين في دلهي. انتصب الحمّام مستقلًّا عن المهاجع. فيه مغسلة متصلة بخارج أحد الجدران. وفي كل ليلة كان والدي يقف أمام المغسلة، والسماء طافحة بالنجوم، ينظف بالفرشاة أسنانه حتى تدمى لثّته. ثم كان يبصق الدم في المغسلة ويستدير نحو أمي قائلًا “الموت، يا شوبا، الموت. مهما فعلنا، فإننا سوف نموت”.
“أجل، أجل، اقرع الطبول”، قالت أمي ذات مرة. “أخبر الجرائد، أيضًا. تأكد من أن يعرف الجميع بهذا الشيء الذي اكتشفته”. وعلى شاكلة الكثيرين من أبناء جيلها،أولئك الذين ولدوا قبل الاستقلال،كانت أمي تنظر إلى السوداوية بوصفها عملًا غير وطنيّ. فالشكوى كانت تعبيرًا عن عدم رغبة المرء في قبول الصعاب؛ وبأنّه غير راغب في إنجاز العمل الشاقّ الذي كان مطلوبًا لبناء البلد.
أبي يكبر أمي بسنتين اثنتين. وعلى النقيض منها، كان يرى الغشّ والأنانيّة في كل مكان. ولكنه لم ير هذي الأشياء فحسب، بل اعتقد بأنّ الجميع قد رأوها، أيضًا، وبأنهم لم يقروا عن قصد ما كانوا يرونه.
فسّر غضب أمي لبصقه الدم نفاقًا. كان أبي محاسبًا. ذهب إلى القنصلية الأميركية ووقف في الصف الذي استدار حول الباحة. سلّم أوراقه من أجل الفيزا.
رغب أبي في الهجرة إلى الغرب مذ كان في أوائل عشرينياته، مذ حررت أميركا سياسات الهجرة إليها في 1965. تولدت الرغبة لديه من مقت الذات. ففي أغلب الأحيان التي كان يمشي فيها في أحد شوارع الهند، كان يشعر بأن البنايات التي يمر بها لا تأبه به، بأنه كان صغيرًا في عيونها كأنه لم يولد البتّة. ولأنه ردّ شعوره هذا إلى ظروفه وليس إلى حقيقة أنه كان شخصًا من النوع الذي يشعر بأن للبنايات آراء بشأنه، فقد ظنّ بأنّه لو كان في مكان آخر، في مكان يكسب فيه بالدولار ويصبح غنيًا، على وجه الخصوص، لكان شخصًا مختلفًا ولا يشعر على تلك الشاكلة البتّة.
وثمة سبب آخر دفعه للرغبة في الهجرة حيث كان يرى الغرب ساحرًا من حيث فورة العلم. ففي الهند إبان الخمسينات والستينات والسبعينات، بدا العلم أقرب إلى السحر. أتذكر حين كنا ندير المذياع، فإن الأصوات كانت تبدو وكأنها تأتي من بعيد ثم تندفع نحونا، مما جلعنا نحسّ بأن الآلة تبذل بعض الجهد الخاص من أجلنا نحن.
ومن بين جميع أفراد العائلة، عشق أبي العلم أكثر من أيّ شيء آخر. وكانت الطريقة التي حاول فيها أن يدخل العلم إلى حياته هي ذهابه إلى العيادات الطبية واجراء فحوص لبوله. وأما الوسواس المرضيّ، بالطبع، فقد كان يتوجب التعامل معه على هذه الشاكلة؛ شعر والدي بأنه على غير ما يرام ولعل هذا الأمر كان شيئا بسيطا يمكن للطبيب أن يعالجه. علاوة على أنه حين كان يجلس في العيادات ويتحدث إلى الأطباء الذين يرتدون معاطف المختبرات، فإنه يشعر بأنه كان قريبًا من أشياء مهمة، وبأنّ ما كان الأطباء يفعلونه يشبه ما يفعله الأطباء في إنكلترا أو ألمانيا أو أميركا،ولذا فإنه كان للتوّ هناك في تلك البلاد الأجنبية.
ولفهم سحر العلم، فإنه من المهم أن نتذكر الستينات والسبعينات حيث حقبة الثورة الخضراء. بدا العلم أكثر الأشياء أهمية في العالم. حتى إنني،وأنا طفل في الخامسة أو السادسة، عرفت ذلك لأنّه وبسبب الثورة الخضراء كان ثمة كلأ في الصيف والناس الذين كانوا على وشك الموت قد تم إنقاذهم. كانت الثورة الخضراء تؤثر في كل شيء. سمعت أمي تناقش وصفات الصويا مع الجيران وتتحدث عن كيف كانت الصويا بمثل جودة الجبن. وفي طول دلهي وعرضها،كانت شركة “مذر دييري” تشيد أكشاكها الإسمنتية بالنقطة الزرقاء على الجانب.
وبما أن الثورة الخضراء جاءت من الغرب، وبأن منظمات كمؤسسة فورد جلبتها إلينا دون توقعات الربح أو التعويض، فإنها قد جعلت الغرب يبدو مكانًا للخير العظيم. وإنني شخصيًا أعتقد بأن الأفلام المناهضة للغرب والتي راجت في السبعينات، مثل “راما العظيم، كريشنا العظيم” و”الشرق والغرب”، لم تنبع من السخط على قيم الهيبّيين الوافدة وإنما من شعورنا بالنقص أمام سماحة الغرب.
لم تجد أمي في نفسها رغبة في الهجرة. كانت تدرّس الاقتصاد في المدارس الثانوية، وتحب عملها. قالت إنّ التدريس كان أفضل عمل ممكن،حيث يحظى المرء بالاحترام ويتعلم الأشياء ويقوم بتدريسها أيضًا. ولكن أمي كانت تدرك بأنّ الغرب سوف يقدم الفرص لي ولأخي. ثم جاءت حالة الطوارئ.
وبعد قيام أنديرا غاندي بتعليق العمل بالدستور وزجّ آلاف الناس في السجون، فقد والداي، مثل الجميع على نحو ما، الثقة بالحكومة. فقبل ذلك، كان والداي— وحتى أبي— فخوران كفاية باستقلال الهند لدرجة أنهما حين يريا غيمة، فإنهما يفكّران: “تلك غيمة هنديّة”. وبعد حالة الطوارئ، راحا يشعران بأنهما حتى وإن كانا مواطنين عاديين ومن غير المحتمل أن يسببا المتاعب للحكومة، فإنه ربما من الأفضل أن يرحلا.
وفي 1978، غادر أبي إلى أميركا.
____
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *