*دانييل خارمس /ترجمة: خليل الرز
الشيء
الماما، والبابا والخادمة، التي تُدعى ناتاشا، كانوا جالسين إلى الطاولة يتناولون المشروب.
البابا كان سكّيراً دون شك. حتى الماما كانت تنظر إليه نظرة متعالية. لكن ذلك لم يمنع البابا من أن يكون إنساناً طيباً جداً. كان يضحك بقلب صافٍ جداً، ويتأرجح على الكرسي.
وكانت الخادمة ناتاشا، بدانتيل تسريحتها ومريولها، تضحك طيلة الوقت بصورة لا تُحتمل. كان البابا يُسلّي الجميع بلحيته، لكن الخادمة كانت تُسبل عينيها في حياء، معبّرةً بذلك عن خجلها.
الماما، وهي امرأة طويلة القامة وذات تسريحة ضخمة، كانت تتحدث بصوت كصوت الفرس. كان صوت الماما يدوّي في غرفة الطعام كالبوق، ويتردد صداه في الفناء وفي بقية الغرف.
بعد أن شرب كل منهم القدح الأول صمت الجميع لثانية واحدة وأكلوا المرتديلاّ. وبعد مضي وقت قصير عادوا يتكلمون من جديد.
بغتةً قرع أحدهم الباب بصورة مفاجئة تماماً. لم يكن لا البابا ولا الماما ولا الخادمة ناتاشا قادرين على تخمين من يكون طارق الباب.
– يا له من أمر غريب- قال البابا- من يمكن أن يكون طارق الباب هناك؟
رسمت الماما على وجهها ملامح الإشفاق، وصبّت لنفسها القدح الثاني بشكل انفرادي، شربته، ثم قالت:
– شيء غريب.
لم يقل البابا شيئاً سيئاً، لكنه صبّ قدحاً، هو الآخر، وشربه، ثم نهض من وراء الطاولة.
لم يكن البابا طويل القامة. على خلاف الماما. كانت الماما امرأة طويلة القامة وبدينة وصوتها كصوت الفرس، وكان البابا زوجها لا أكثر. وفوق ذلك كله كان البابا مغطىً بالنمش.
بخطوة واحدة اقترب من الباب، ثم سأل:
– من هناك؟
– أنا- قال صوت من وراء الباب. وفي الحال انفتح الباب ودخلت الخادمة ناتاشا مضطربةً، كلّها، وورديّة اللون. كالوردة.
جلس البابا.
شربت الماما من جديد.
كانت الخادمة ناتاشا، وكذلك الأخرى، كالوردة، تتورّدان من شدة الخجل. نظر إليهما البابا، ولم يقل شيئاً سيئاً، إنما شرب كالماما.
ولكي يطفئ اللهيبَ غيرَ المفهوم في فمه فتح البابا علبة من معجون القواقع المحفوظة. وكان الجميع في غاية الحبور، وظلوا يأكلون حتى الصباح.
لكن الماما كانت جالسة على الكرسي، وصامتة. وكان هذا مزعجاً جداً.
وعندما تهيّأ البابا لغناء شيءٍ ما نُقِرت النافذة. قفزت الماما من مكانها مذعورةً، وصرخت قائلةً إنها رأت بوضوح كيف نظر في النافذة شخص من الشارع. الآخرون أكّدوا للماما أن ذلك مستحيل لأن الشقة في الطابق الثالث، وليس بمقدور أحد في الشارع أن ينظر في النافذة، ولكي يتمكّن من ذلك يجب أن يكون عملاقاً أو جالوت (عملاق ورد ذكره في العهد القديم/ م م). غير أن الفكرة التي خطرت للماما كانت راسخة، وما كان شيء على وجه الأرض ليستطيع إقناعها بأن أحداً لم ينظر في النافذة.
ولتهدئة الماما صبّوا لها قدحاً آخر. شربت الماما القدح. والبابا صب لنفسه، وشرب هو أيضاً.
كانت ناتاشا والخادمة كالوردة جالستين بعيون مُسبَلة من الخجل.
– لا أستطيع أن أكون بمزاج طيب عندما ينظرون إلينا من الشارع من خلال النافذة- صاحت الماما.
كان البابا يائساً إذ لم يعرف كيف يهدئ الماما، فهرع إلى الفناء محاولاً النظر من هناك في نافذة الطابق الثاني على الأقل. طبعاً لم يكن قادراً على أن يطالها بعينيه لينظر فيها. لكن ذلك لم يغيّر ذرة واحدة من قناعة الماما. بل إنها لم ترَ كيف لم يستطع البابا أن يطال حتى نافذة الطابق الثاني.
وبسبب ذلك كله انزعج البابا انزعاجاً شديداً، فطار عائداً بسرعة إعصار إلى غرفة الطعام، وشرب قدحين، كلٌّ منهما بجرعة واحدة، كما صبّ قدحاً للماما أيضاً. شربت الماما القدح، لكنها قالت إنها تشرب فقط تأكيداً على قناعتها بأن أحدهم قد نظر في النافذة.
باعد البابا بين كفّيه متحيّراً.
– انظري- قال للماما، وهو يقترب من النافذة. ثم فتح إطاريها إلى الآخر.
كان في النافذة رجل بياقة قذرة يحمل خنجراً بيده ويحاول التسلل إلى الداخل. وما إن رآه البابا حتى أغلق الإطارين، وقال:
– لا يوجد أحد هناك.
مع ذلك ظلّ الرجل ذو الياقة القذرة واقفاً وراء النافذة ينظر إلى الغرفة، حتى فتح النافذة ودخل.
كانت الماما مذعورة جداً. أُصيبت بالهيستيريا. لكنها، بعد أن شربت جرعة قليلة قدمها لها البابا ومزّتْ بشيء من الفطر، أصبحت هادئة.
وسرعان ما تمالك البابا نفسه أيضاً. جلسوا جميعاً من جديد إلى الطاولة، وتابعوا شربهم.
تناول البابا صحيفة وقلّبها طويلاً بين يديه، باحثاً عن أعلاها وعن أسفلها. غير أنه، برغم بحثه الطويل، لم يتوصّل إلى نتيجة، ولذلك نحّى الصحيفة جانباً، وشرب قدحاً.
– جيد- قال البابا- لكنْ ينقصنا الخِيار.
صهلت الماما بصورة غير لبقة، ما جعل الخادمتين تشعران بالخجل الشديد، فَشَرَعَتَا بالنظر إلى زخارف غطاء الطاولة.
شرب البابا من جديد، ثم أمسك بالماما فجأة، وأجلسها فوق خزانة الأواني.
تشعّثت تسريحة الماما الكثّة الشيباء، وطفحت على وجهها بقع حمراء، وبالعموم كانت سحنتها مُستَثارةً.
سحب البابا بنطلونه إلى الأعلى، وشرع يرفع نخباً.
وهنا انفتحت في أرض الغرفة ثغرة خرج منها راهب.
وكانت الخادمتان قد بلغ بهما الشعور بالخجل حَدّاً جعل إحداهما تنخرط بالبكاء. صارت ناتاشا تمسك صديقتها من جبينها في محاولةٍ منها لستر الفضيحة.
أمسك الراهب، الذي خرج من تحت الأرض، بقبضته بأذن البابا، وفركها بقوة.
هوى البابا فوق الكرسي، دون أن يكمل رفع نخبه. وعندئذٍ اقترب الراهب من الماما، وصار يضربها، بصورةٍ ما، من الأسفل، فلا تميّز أبيده كان يفعل ذلك أم بقدمه.
صارت الماما تصرخ وتستغيث.
ثم أمسك الراهب بتلابيب الخادمتين، كلتيهما، لوّح بهما في الهواء، ثم رمى بهما. بعد ذلك اختفى الراهب تحت الأرض، دون أن يلاحظه أحد، مغلقاً الثغرة وراءه.
لم يستطع لا البابا ولا الماما ولا الخادمة ناتاشا أن يعودوا إلى رشدهم قبل مضيّ فترة طويلة جداً. لكنهم، بعد أن عادوا يتنفسون بشكل منتظم، رتّبوا أنفسهم، وشرب كل منهم قدحاً، وجلسوا إلى الطاولة يمزّون بالملفوف المفروم.
وإذ شرب كل منهم قدحاً آخر جعلوا يتبادلون أطراف الحديث في وئام.
فجأة أصبح لون البابا أرجوانياً، وبدأ يصرخ:
– ما بكم؟ ما بكم؟- صرخ البابا- إنكم تحسبونني إنساناً تافهاً! إنكم تنظرون إلي كما تنظرون إلى شخص فاشل! لست عالةً عليكم! فأنتم السفلة!
هربت الماما والخادمة ناتاشا من غرفة الطعام، وقفلتا الباب عليهما بالمفتاح.
– إنقلع أيها السكّير! إنقلع أيها الحافر الشيطاني!- همست الماما مذعورة لناتاشا الخجولة الآن بصورة نهائية.
أما البابا فقد ظل جالساً في غرفة الطعام حتى الصباح، ومستمراً بالصراخ إلى أن تناول إضبارة الدعاوى، وارتدى عمرته البيضاء، وذهب إلى وظيفته بوداعة.
حفلة شرب غير منتظرة
ذات يوم ضربت أنتونينا أليكسييفنا زوجها بختم الخدمة، ولوثت جبينه بحبر الختم.
وإذ شعر بيوتر ليونيدوفيتش، زوج أنتونينا أليكسييفنا، بإهانة شديدة قفل على نفسه الحمّام، ولم يسمح لأحد بالدخول إلى هناك.
لكنّ القاطنين معه في شقة مشتركة، الذين كانوا في حاجة ماسّة للدخول إلى هناك، حيث كان بيوتر ليونيدوفيتش، قرروا كسر الباب المقفول بالقوة.
وحين فهم بيوتر ليونيدوفيتش أن قضيته خاسرة خرج من الحمام، وما إن وصل إلى غرفته استلقى على السرير.
لكن أنتونينا أليكسييفنا قررت ملاحقة زوجها إلى النهاية. مزّقت أوراقاً صغيرةً، ونثرتها فوق بيوتر ليونيدوفيتش المستلقي على السرير…
قفز بيتر ليونيدوفيتش الغاضب إلى الكوريدور، وصار يقشر ورق الجدران هناك.
وهنا خرج إليه شركاؤه بالشقة مسرعين، وإذ رأوا ماذا يفعل هجموا عليه ومزقوا صداره.
توجّه بيوتر ليونيدوفيتش مسرعاً إلى الجمعية التعاونية السكنية.
في هذه الأثناء تعرّت أنتونينا أليكسييفنا تماماً، واختبأت في صندوق.
بعد عشر دقائق عاد بيوتر ليونيدوفيتش، وقد جلب معه مدير المبنى.
وحين لم يجدا الزوجة في الغرفة قرر مدير المبنى وبيوتر ليونيدوفيتش أن يفيدا من المكان الشاغر، وأن يشربا الفودكا. أخذ بيوتر ليونيدوفيتش على عاتقه أن يجري إلى ناصية الشارع ليجلب هذا المشروب.
عندما ذهب بيوتر ليونيدوفيتش خرجت أنتونينا أليكسييفنا من قلب الصندوق، ووقفت عاريةً أمام مدير المبنى.
هبّ مدير المبنى المذهول واقفاً من على الكرسي، وجرى باتجاه النافذة، لكن رؤيته بُنيةَ قويةً لامرأة شابة في السادس والعشرين من عمرها أشعرتْه فجأة بسرور عظيم.
وهنا عاد بيوتر ليونيدوفيتش مع لتر من الفودكا.
وما إن رأى ما يجري في غرفته عقد بيوتر ليونيدوفيتش حاجبيه.
لكن زوجته أظهرت له ختم الخدمة، فهدأ روع بيوتر ليونيدوفيتش.
أبدت أنتونينا أليكسييفنا رغبتها في المشاركة بحفلة الشرب، على أن تظلّ بهيئتها العارية حتماً، وأن تجلس، بالإضافة إلى ذلك، على الطاولة حيث يفترض أن توضع المازوات مع الفودكا.
جلس الرجلان على كرسيين، وجلست أنتونينا أليكسييفنا على الطاولة، وبدأت حفلة الشرب.
لا يمكن تسمية ذلك أمراً صحّياً حين تجلس امرأة شابة عارية على الطاولة نفسها التي يأكلون منها. ثم إن أنتونينا أليكسييفنا كانت امرأة ممتلئة البنية إلى درجة كافية، ولا تميل إلى النظافة كثيراً، ومن ثم فإن الشيطان أعلم بما كان يجري على وجه العموم.
غير أنهم سرعان ما ارتووا من الشرب، وناموا: الرجلان على أرض الغرفة، أما أنتونينا أليكسييفنا فعلى الطاولة.
* دانييل خارمس: ولد في بيتربورغ سنة 1905. بدأ شاعراً، وكتب للأطفال شعراً ونثراً، ومع نهاية العشرينيات بدأ بكتابة القصص. في عام 1931 اعتقل، ونُفي إلى كورسك، ثم عاد إلى لينينغراد في عام 1932. وفي عام 1937 نشر قصيدة «من بيته خرج رجل واختفى أثره»، فأثار شبهات الخيانة من جديد حول إخلاصه للوطن السوفييتي، ومُنعت أعماله من النشر. لكنه لم يتوقف عن الكتابة، وكتب في هذه الفترة الكثير من القصص. في عام 1939 يقضي شهرين في مشفى الأمراض العقلية للعلاج. وفي آب من عام 1941 يعتقل من جديد بتهمة نشر روح الهزيمة، بالإضافة إلى عدائه القديم لوطنه السوفييتي، لكنهم لا يعدمونه أسوة بغيره من الخونة، بل يرسلونه في كانون الأول من السنة نفسها إلى سجن مشفى الأمراض العقلية، حيث يموت، من تلقاء نفسه بعد شهرين، في الثاني من شباط سنة 1942. ثم يتابع أدبه الغياب عن القارئ السوفييتي حتى عام 1960 عندما تعلن براءته من التهمة التي نُسبت إليه. ومنذ ذلك الحين تعود أعماله إلى الظهور بحذر وصعوبة، لكن التعرف إلى كتاباته، بخاصة أعماله التي لم تر النور بعد منعه من النشر، لا يتم عملياً إلا بعد البيريسترويكا وانهيار الاتحاد السوفييتي.
_________
كلمات
العدد ٢٩١٤