قلم العائلة


*د. شهلا العجيلي


ما لفتني في هذا الكتاب أنّه بتقديم إدوارد سعيد وترجمة محمّد برّادة، وهما اسمان كفيلان بثقة القارئ، وكذلك صورة عائليّة لأربعة أجيال من النساء على غلافه. اختارت سيرين الحسيني شهيد (1920-2008) “ذكريات من القدس”، (دار الشروق- عمّان- 2009)، عنواناً لكتابها، وعلى الرغم من نفوري مؤخّراً من فكرة الذكريات، وكذلك من تحويل القدس إلى ثيمة إكزوتيكيّة، غامرت باختيار الكتاب نظراً للمرحلة التاريخيّة التي يقدّمها، ولأنّ المؤلّفة تنتمي إلى عائلة كان لها دورها في صناعة تاريخ تلك المرحلة، وسبب ثالث هو كونها امرأة.
لقد كانت الكاتبة قريبة جدّاً من لحظة صياغة خرائطنا، فشهدت عليها، وبدا أنّها حاولت أن تنأى عن الشخصيّ إلى الشأن العام، لكنّ الشخصيّ في سيرورتنا لا ينفصل عن السياسيّ، وهو يشير إليه في كلّ لحظة، لا سيّما حين يكون محور الشخصيّ قدس نهايات القرن التاسع عشر إلى تسعينيّات القرن العشرين، وحين يكون تاريخاً لعائلة مقدسيّة ضالعة في السياسة مثل عائلة الحسيني.
لابدّ من أن أشرككم في ملاحظتي على أنّ الكتابة في المرحلة الأخيرة عالميّاً تقوم على تاريخ العائلات، تلك التي فكّكها الحزب، أو الجماعة الأديولوجيّة، أو الثقافيّة، فحلّوا محلّها لوقت طويل، وهذا سؤال من أسئلة المرحلة، فلماذا تطلع مثل هذه الأسئلة بعد أن غابت طويلاً إذ انكسرت أقلام العائلات، لتقوم الجماعات الأديولوجيّة بصياغة تاريخ المجتمعات، وسأذكّر بما يتعلّق بالأزمة في سورية منذ 2011، إذ ظهرعلى شاشات التلفزيزنات وفي الصحافة أفراد ينتمون إلى عائلات كان لها ثقل سياسيّ في التاريخ السوريّ فتمّ إقصاؤها، وكوّن أفرادها أنفسهم بعيداً في أوربة أو أميركا أو في بعض الدول العربيّة، وانضمّوا إلى ذلك الحراك بناء على تلك المشروعيّة للمطالبة بالمشاركة في الحكم، في إشارة منهم إلى أنّه أيضاً حكم عائلة، لكن بنداءات الديمقراطيّة والمدنيّة، وهاتان الأخيرتان ليس لهما علاقة لا بالمحاصصة العائليّة ولا بتسوية الأوضاع.
يظهر سؤال آخر من أسئلة المرحلة يتعلّق بالحلّ السياسيّ، ومشروعيّة الجلوس إلى طاولة المفاوضات، إذ توجّه اتهامات تاريخيّة إلى العائلات الإقطاعيّة أو البرجوازيّة الكبيرة في أنّها الأسرع في التقدّم نحو المفاوضات التي تستدعي التنازلات، ذلك ما عرف غالباً بالتواطؤ مع المحتلّ، في حين أنّ أبناء الأرياف هم وقود الثورات ورموز المقاومة والصمود، ولعلّ المسألة تعود في فلسطين إلى مطلع القرن العشرين، وتتعلّق بالوعي والتعليم، وهي إشكاليّة يحاول الكتاب التصدّي لها.
إذن، تعود العائلات مجّدّداً، عبر رؤية فرديّة، لتقدّم شهادتها على مرحلة الصمت، وعلى استبداد تلك الأحزاب والجماعات التي تحوّلت إلى متعاليّات. وقد تتخذ الكتابة شكل رواية كما فعل باتريك موديانو في “سلالة”، و”دفتر العائلة”، كما قد يستعير الروائيّ شيئاً من ثيماته العائليّة ليضعها في سياق خياليّ كما فعل إلياس فركوح في “غريق المرايا”، وقد تتخذ شكل سيرة ذاتيّة كما عند سيرين الحسيني. ثمّة عائلات تشهد على الأحداث بوصفها منفعلة تستجيب للتحوّلات الاجتماعيّة السياسيّة العنيفة، ونستدلّ عليها من خلالها، كالعائلة التي شكّلت فضاء رواية خالد خليفة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، والعائلات التي صنعت فضاء روايتي الأخيرة “سماء قريبة من بيتنا”. وهناك عائلات ساهمت في صياغة التاريخ، وأفرادها حينما اتخذوا مواقفهم، صاغوالحظتنا الراهنة، كما في هذا الكتاب، وسواء أكان الشكل النهائيّ للخريطة قد طابق طموحاتهم أم خالفها، فهم لا يستطيعون التبرّؤ منه، والكتابة لن تأخذ دور كرسيّ الاعتراف أو محاولة للتسويغ والاعتذار.
تكتب سيرين الحسيني تفاصيل حياة أربعة أجيال من العائلة، تنتمي إلى آخرها، وعن علاقتهم كأسرة صغيرة من هذه العائلة الكبيرة بالقدس وأريحا وفي المنافي في بيروت وبغداد والسعوديّة. ما يهمّ في مثل هذا النوع من الكتابة ليس الإدانات أو الأمجاد، بقدر الإشارات الاجتماعيّة والثقافيّة، التي صدر عنها السياسيّ، وبقدر سلسلة التحوّلات التي خضع الناس لها بوصفها أمراً واقعاً لكنّه مؤقّت ثمّ صارت احتلالاً، وكذلك النوايا الطيّبة التي قادت إلى جحيم اللحظة، والتي أنتجت جيلاً قبل بالتنازلات وتعامل ببراغماتيّة من أجل البقاء.
تحمل ذكريات سيرين عذوبة الماضي، والمكان، واللحظة الكوزموبوليتانيّة للقدس في ظلّ روح أكثر عروبة، من غير أن تدخلنا إلى الحياة الجوّانيّة لها بوصفها امرأة، أو لغيرها من النساء، حيث لن نعرف منها كيف كان الناس يتحابّون تحت أسوار القدس، ولعلّها أرادت أن يمنحنصّها انطباعاً بانتمائها إلى عائلة ذات تقاليد صارمة، وإن كانت من أوائل اللواتي درسن في الجامعة الأميركيّة في بيروت. لاشيء سوى إشارة إلى لقاء مبكّر بالرجل الذي تزوّجت به، الدكتور شهيد، والذي يعمل في مستشفى الجامعة حيث تعالجت والدتها. لكن، هناك دائماً لمن أراد، علامات على مجتمع بطريركيّ معقّد لنساء ثريّات صامتات بسبب الكبرياء أمام نزوات الرجال، وربّما زيجاتهم المتكرّرة، نساء حملوا عبء العائلة حينما مضى الرجال إلى الحرب، أو غابوا في المنافي، أو تخفّوا هرباً من مطاردات الاحتلال.
هناك أيضاً موت مفاجئ، وحكايات عن الملوك والأباطرة الذين مرّوا بتلك البلاد المقدّسة، وكلّها وثائق يخرجها قلم العائلة من استبداد تاريخ السلطة أيّة سلطة، ولنيجبرك أحد على أن تقبله أو ترفضه، إنّك تقرأ لكي تشعر وتعرف. تتحدّث عن “بيت الشرق” الذي أسّسه في العام 1897 إسماعيل بك حقّي موسى الحسيني، وارتبط لاحقاً بفيصل الحسيني، وكان من أجمل بيوت القدس، ومكان استضافة ذوي المقامات الرفيعة، وكان أوّل ضيوفه هو إمبراطور ألمانيا غيّوم الثاني الذي جاء إلى القدس بعد زيارة استانبول فدمشق وحيفا ويافا:
“خرجت رويدة من البيت واتجهت نحوهم وهي ترتدي فستاناً طويلاً من الحرير خيط لها في تلك المناسبة. وكانت بشعرها الطويل الأشقر اللامع على ضوء الشموع تبدو كأنّها ملاك. ألقت قصيدة الترحيب مضيفة بذلك نكهة شخصيّة إلى ذلك الحفل الجليل. وعندما توقّف التصفيق، أهداها الإمبراطور عقداً، ثمّ انسحبت إلى البيت فيما كان المدعوّون يتحلّقون للاستمرار في تسلية الإمبراطور. اجتازت رويدة البيت، سالكة بين الشمعدانات الكثيرة المنتصبة في الممرّات. وفي لحظة معيّنة لامس فستانها الطويل وشعرها المسدَل إحدى الشموع، وقبل أن يتمكّن أيّ واحد من التدخّل ، كانت البنت مشتعلة لهباً. وقد ماتت بعد ذلك بثلاثة أيّام. لكنّ أباها لم يخبر أبداً الإمبراطور بهذه المأساة التي كسرت حياته إلى الأبد.”. ص247.
يؤكّد هذا النوع من الكتابة على أنّ السرديّات كلّها تعيش على ذلك الالتباس بين الفرديّ والجماعيّ، وعلى الرغبة في مواجهة تاريخ طويل من واحديّة المرجع، واستبداده. لا أحد في هذه المرحلة سيستطيع إنقاذ الكتابة من ذاكرة الأفراد التي انكفأت طويلاً تحت شعارات التعدّد والدمقرطة، وسيكون التحدّي الأكبر هو الموازنة بين الحسّ الواقعيّ والخيال المطلوب لإنتاج الفنّ.
_________
*عمّان.نت

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *