*صقر أبو فخر
شاع على لسان كليمنصو قوله إن الترجمة كالمرأة، إما أن تكون جميلة وغير شريفة، أو أن تكون شريفة وغير جميلة. غير أن بعض المترجمين العرب لا يتورع عن جعل ترجماته غير شريفة وغير جميلة في آن. فأبو هريرة، على سبيل المثال، صار على يدي أحد المترجمين “أبو القطة الصغيرة”، وصفية بنت حُيي زوجة النبي محمد تحولت إلى “صوفيا بنت هويا” (انظر: فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي: النبي والنساء، دمشق: دار الحصاد، 1990، ترجمة: عبد الهادي عباس). والترجمة في العالم العربي أضحت مصيبة وبلاءً حقيقياً، وما عاد ينفع في تقويمها النقد والتصويب والنقر على أيدي المترجمين لأنها صارت تياراً جارفاً من الضحالة والجهل معاً. وهذا التيار ما برح يكيد للثقافة الجادة، ويعيد إنتاج ثقافة فاسدة، ويحوِّل النصوص مسوخاً لا صلة لها بالأصل.
ثمة كتب جديرة بأن تترجم، لكن، ثمة كتب مترجمة جديرة بأن تُرجم، وأن “يُجرّس” مَن عبثت حوافره بها. ورصيد المترجمين العرب من المساخر لم ينضب بعدُ، بل راح يغرقها بالسقم والتزوير. فالنقب Negev في جنوب فلسطين المحتلة تصبح النجف الموجودة في العراق، وأريحا Jericho في الضفة الغربية المحتلة تتحول إلى جرش الموجودة الآن في الأردن، وكيليكيا Cilicia السورية، تُترجم إلى سيليزيا الواقعة في أوروبا. أما ابن سينا Avicenne فيغيِّرون اسمه إلى “أفيسين”، وابن رشد Averroes يصبح “أفرويز” وصلاح الدين يصير “سلادينوس”. وفي الآونة الأخيرة تُرجمت إلى العربية مجموعة من الكتب المهمة، غير أنها جاءت مثالاً للسقم والجهل و”الاستلشاق” بالقارئ العربي. وسأعرّج على بعض هذه الكتب كاشفاً جانباً من هزالها.
1- فلسطين: تاريخ شخصي
ألّف هذا الكتاب كارل عيسى صباغ وهو بريطاني من أصل فلسطيني، وترجمه محمد زيدان، وراجعه حسين ياغي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013). وقد عثرنا في صفحاته على كوارث لا تحصى؛ فنور مصالحة صار نور ما شاء الله، وقرية بقعين تُرجمت بيكين، وناحوم سوكولوف صار نايهم سوكولو، وقرية الصفصاف باتت صفصف، وحميد فرنجية أصبح جميل فرنجية. أما منظمة التحرير فأصبحت سلطة التحرير الفلسطينية، وضاقت مساحة فلسطين على أيدي المترجم (وربما المؤلف) لتصبح عشرة آلاف ميل مربع فقط. وفشت في الكتاب عشرات الأغلاط من هذا العيار المروِّع، فالقناطر تُرجمت إلى “أقواس”، وكرجية صباغ صارت “خرجية”، وموشي مونتفيوري أصبح مونتيفوا، فتخيلوا.
2- مولد مشكلة اللاجئين
كتاب للأكاديمي الإسرائيلي بيني موريس، ترجمه “الأستاذ الدكتور” عماد عواد ونشره المجلس الوطني للآداب والعلوم في الكويت في سلسلة عالم المعرفة (جزآن، رقم 406 و 407، تشرين الأول وتشرين الثاني 2013). وقد حفل هذا الكتاب بمئات الأغلاط من العيار التالي: هنري قطان (الصحيح: هنري كتن)، عزام طنوس (الصحيح: عزة طنوس)، وادي بيت شيان (غور بيسان)، الصوفية (عسفيا). ويبدو أن إحدى المحررات راجعت الكتاب بعد المترجم، وهذا أمر حسن. غير أن نباهتها هربت منها عندما أوردت في هامش الصفحة 202 أن المثلث في فلسطين هو المنطقة الواقعة في الضفة الغربية بين جنين ونابلس وطولكرم. والصحيح أن هذا هو المثلث الكبير. أما المثلث المقصود في النص فهو المنطقة الواقعة شمال جنين التي احتلتها إسرائيل في سنة 1948، وأشهر بلداتها أم الفحم وكفر قاسم والطيرة والطيبة وقلنسوة وكفر قرع وباقة الغربية وجت والمقيبلة، وكلها لا تقع بين مثلث جنين ونابلس وطولكرم بل إلى الشمال منه.
3- إسرائيل وفلسطين
هذا كتاب مهم للباحث الإسرائيلي آفي شلايم، ترجمه اثنان بدلاً من مترجم واحد هما: حسين محمد ياغي وابنته بسمة محمد ياغي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013)، وقد خرّقت الكتاب أغلاط لا تحصى، منها على سبيل المثال: رالف بانشي (الصحيح: رالف بانش)، ألين دولس (آلان دالاس)، أدولف آيتشمان (آيخمان)، موشى شاتر (شاريت)، ممدوح عاقر (ممدوح العكر)، تشيم بارليف (حاييم بارليف)، يكوف هيرزوق (يعقوب هيرتزوغ)، عصابة ستيرن (شترين). ومن غثاثة هذه الترجمة أن المترجمَين ترجما القول المأثور التالي: ويل للزجاج إذا وقع على الصخر، وويل له إذا وقع الصخر عليه، فصار: “يتحطم الإبريق إن سقط على الحجر، ويتحطم الإبريق لو سقط الحجر عليه”. ولمزيد من السقم تحول ميشال أبكاريوس إلى مايكل، وحزب هتحيا الإسرائيلي إلى “التيها”. ولم يكتفِ المترجمان بهذه المصائب، وهي كثيرة جداً، بل عمدا إلى ترجمة مقطع من قصيدة “الأم الحزينة” لخليل حاوي (ديوان “الرعد الجريح”، بيروت: دار العودة، 1979) بدلاً من العودة إلى الأصل. ففي الكتاب ورد ما يلي:
ما أثقل العار
أَأحمله وحدي؟
أَأُلطخ أنا دون غيري الوجه بالرماد؟
صدى الجنائز في الصباح
رجع عند المساء
لا شيء يلوح في الأفق
غير دخان من جمر أسود
هل أحمله وحدي؟
غريب أمر هذا المترجم وابنته. أما كان في إمكانهما العودة إلى ديوان خليل حاوي “الرعد الجريح”؟ ولو عادا كما تقتضي الأصول العلمية لوجدا نصاً مختلفاً تماماً عن هذا النص البارد، فالأصل هو:
ما لثقل العار
هل حُمِّلتُهُ وحدي؟
وهل وحدي تُرى كفّنت وجهي بالرماد؟
الجنازات التي يحملها الصبحُ
تدوي في جنازات السهاد
ليس في الأفقِ
سوى دخنة فحم
من محيط لخليجْ.
4- جيش الظلال
يتحدث هذا الكتاب الذي كتبه هيلل كوهين عن المتعاونين الفلسطينيين مع المؤسسات الصهيونية الأمنية بين 1917 و 1948. وقد نقلتْ هذا الكتاب الخطير إلى العربية هالة العوري، ونشرته دار بيسان في بيروت سنة 2015. وللأسف الشديد فإن هذا الكتاب يعوم بالأغلاط من جميع الأعيرة، الأمر الذي يكشف جهل المترجمة وعدم معرفتها الموضوعات التي يتناولها الكتاب. وعلى سبيل المثال قرية الولجة (صارت ألاجة)، والييشوف اليهودي صار اليوشف، وبيسان تحولت بيت شيعان تارة، وبيت شآن تارة أخرى. ومستعمرة بيتح تكفا وردت في الكتاب بتاكفيا، وتل حي بات تل هيا، وقرية قطنة أضحت قاتنا. أما الصحافي اللامع نجيب نصار فقد غيّر اسمه الى نجيب ناصر، وعيسى البطاط صار عيسى بطاطا، وقرية عسفيا انقلبت إلى عصافية، وإجزم صارت أزيم، وسعسع صارت ساسا، حتى حليم بسطة الذي قتله الثوار الفلسطينيون في ثورة 1936 رُسم هكذا: حاليم، فلعل المترجمة اعتقدت أنه يهودي، وهو مصري.
5- الثورة السورية الوطنية وتنامي القومية العربية
ترجم هذا الكتاب وسام دودار وراجعه زياد منى وصدر عن دار قدمس في بيروت في سنة 2013. وهذا كتاب عجيب غريب اختلطت الضحالة فيه بالجهالة أيما اختلاط. ويلوح لي أن أكثر من شخص “بلَّ” يديه في هذه الترجمة “المقلعطة”، لأن ثمة تفاوتاً كبيراً بين الفصول، فبعضها جيد وبعضها الآخر كارثة. وربما كانت ترجمة غوغل هي التي جعلت الكتاب على هذه الصورة من الاهتراء. فالدكتورة صفية سعادة تصبح “صوفيا”، ومصطلح الأعيان صار “العائلات الرائدة”، ومدارس التجهيز باتت “المدارس التحضيرية”، والمؤرخ حسن أمين البعيني ترجمه المترجم إلى البياني، وكتاب “حوران الدامية” صار “حوران الذمية”، وحلوى قمر الدين صار “معجون المشمش”، والمجاهد السوري المسيحي عقلة القطامي تغيرت عائلته إلى “القتامي” حيناً، وإلى “القيطمي” أحياناً، والأب نيكولاوس القاضي صار “نيكولا كادي”، وفوزي الغزي تحول إلى “فواز الغزي”، وقرية مضايا السورية صارت “قرية الميدان”، وقرية عيحا اللبنانية رُسمت “أيها”، وقرية “عرمان” صارت “أرمان” وعبارة “الروم الكاثوليك” تترجم دائماً إلى “الكاثوليك اليونان”.
هذا غيضٌ قليل من فيضٍ عميم من الأغلاط التي شاعت وفشت في تلك الكتب. وجل ما نطلبه ليس احترام القارئ فحسب، بل احترام العلم أولاً وأخيراً، ونصيبنا من العلم، هنا، أن نشير إلى ذلك العبث المهين الذي ما برح المترجمون يرتكبونه بلا حياء أو رادع.
________
*العربي الجديد