*أحمد الشيخاوي
خاص ( ثقافات )
بدورها الهام الأقدر على مجابهة التّخشّب الآني بسلاح أو بديدن ابتكار المعنى على نحو فلسفي ضاغط باتجاهات دلالية طاعنة بضبابية الطقس المتصل بعوالم العدم إن بشكل أو بآخر، تنزع صوب استلهام ألوان الهرطقة لإشباع القصي في الذات المثقلة بحمولة الموروث المؤرّق حدّ الاختناق بالمعاناة ومكابدة المختزل في مواقف الرّفض الواعي إذ تمرّر عبر أعين جوانية أو مسامات السبق بشأن اقتراح بدائل جمالية لا تستنسخ الذاكرة.
ببساطة ،إنها كتابة الانكسار وفق ما تمليه خريفية المشهد الملتهب ببلاغة القول الشعري المغرق في وحدة الموضوع بغرض مقاربة الخبايا و استنطاق المكنون.
تلكم قوالب التشكيل التي تستفزّ قواميس النهل من التّناسلات الأشدّ التحاما و تبعية لصميم الواقعية التي تدمي الإنسان وتبرز مدى ترامي آفاق التّصحّر الآدمي كتحدّ مباغت وخطير يتلبس بعطشه لحظتنا فتتحجرّ الأحاسيس وتبتلع الآلية فينا كل غض ّ وطفوليّ ونبيل.
ومن ثم تعشّق الممارسة الإبداعية الرصينة و الانسكاب الروحي في ملكوتها الهامس بقزحية المفردة وعمق الرؤيا وزئبقية الضمني المغرّدة به منظومة الانزياح والومضات والاستعارة الكلية الممهدة لمناخ تقاطر متتالية رسائل تهذّب الذائقة وتناوش الراهن وتجترح ضمّادات مطيتها الحكي في ملامسة الجوهر الإنساني وترصّد ملامح المفقود.
هنا ، يتقمص الاستهلال الوظيفة النصية ،متجاوزا مستويات المماثلة إلى غلوّ مقبول يدثرّ التشبيهات الواشية بمنحى السياق الإجمالي للأضمومة مشفوعا بالتدرّج والتراتبية المراوحة بين العدّ التنازلي تارة و تصاعديته أخرى ، ضمن فعل تعرية الثيمات و إماطة الأقنعة الخطابية عمّا يخوّل رسم دورة كاملة والتفاف حلزوني رابط برمزية العنونة/ عين نحّات أعمى.
كذلك هي درامية المشهد المشرع على أسلوبية مخاطبة للبصيرة فينا والشاحذة للطاقة الكامنة من خلال تفجير عناصر الإرباك باحتكاك مخملي عاكس لقوة الصوت الداخلي الذي يمتلكه شاعرنا وهو يعلن تشظّيه بالتماهي ، بل بالانصهار في مستنقع أصداء انهيار العالم عبر بوح شجي صادم .
“العَيْنُ الثُقْبُ فِي الجِدارِ
قَامَتِي أَطْوَلُ
لَكِنَّهَا سِتَارٌ مِنْ ظَلاَمٍ
لاَ شَمْسَ
لاَ نَسْمَةَ رِيحٍ
مُجَرَّدُ أَسْيَاخٍ
يُنْبِتُهَا إِسْمَنْتٌ بَلِيدٌ”
نجد هذه الومضة وبقدر ما صمتت عن جرد تبعات المعايشة الوجدانية والرعاية الرمزية لإقحام ” لا” مزدوجة تقيدا بتقنيات الاسترسال في نفس وإيقاع التشويق حتى آخر صورة شعرية من الديوان.. نجدها اقتضبت الاحتفاء بشتى معاني “عين” في خضمّ نسيج كلامي تكتسحه ظلال النظام نور/ظلام ، والمبثوث آهاً و غصصاً مع تفاوت في النسب ليشغل جسد النصّ برمتّه وليمعن في دوخة ذاتية ينبتها راهن التّصلبّ البليد.
” ثُقْبٌ هُوَ يَوْمِيَّتِي الَّتِي لاَ أَرْقَامَ لَهَا
كُلَّمَا رَفَعْتُ رَأْسِي
تَذَكَّرْتُ أَنَّنِي أُقِيمُ بَيْنَ حَدَّيْنِ:
حَدَّ الظَّلاَمِ
وَحَدُّ شَبِيهِهِ
ثُقْبٌ فِي الجِدارِ
ظِلُّهُ فِي رَأْسِي
وَرَائِحَةُ الشَّارِعِ تَخْرُجُ مِنْ ذَاكِرَةٍ
تُطِلُّ عَلَيَّ
كَأنَّنِي أُقِيمُ فِي بِئْرٍ
لا قرارَ له
الأَصْوَاتُ تَأْتِي مِنْ بَعِيدٍ مُخْتَلِطَةً
بِصَقِيعٍ بَلاَطٍ لاَ لَوْنَ لَهُ
كُلَّمَا رَآنِي الثُّقْبُ بِعَيْنِهِ
أَدْرَكْتُ أَنَّنِي جُزْءٌ مِنْ أَجْسَادٍ مَرَّتْ مْنْ هُنَا
نَامَتْ عَلَى الضَّيْمِ
وَافْتَرَشَتْ جِلْدَهَا
وَعَدَّتْ إِيقَاعَ زَمَنٍ مُتَشَابِهٍ
يَأْبَـى أَنْ يَنْتَهِي..
حِينَ أَتْعَبُ،
وَيُتَاحُ لِلْجِدَارِ أَنْ يَكُونَ صَدِيقًا
أَرْسُمُ بِأَظَافِرِي
أَلْفَ ثُقْبٍ أُطِلُّ مِنْهُ عَلَى
دَاخِلِي،
أَتَـخَيَّلُ أَلْفَ مُعْجِزَةٍ
أَلْفَ مُصَادَفَةٍ
لِأَنْ أَكُونَ
مِثْلَ أَيَّة نَـمْلَةٍ
لَـهَا إِمْكَانُ أَنْ تَـهْزِمَ
ثُقُوبَ كُلّ العَالَـمِ”
وبالتالي نحن إزاء تجربة مقنعة جدا،تتنفّس أوجاعا جمّة وتتقلّب بين حدّين. كأنها سيرة تُرسم بالأظافر حسب تعبير شاعرنا،وتنتشي بثمالة سيزيفية مكرورة محايثة لموسيقى العدم الصارخ بتجليات استرخاص الذات وبخسها حقّها و مشروعية حلمها بالانتصار على العالم وحيازة الأفضل.
بحيث لا انفصال ـــ بالمطلق ــ عن النّرجسية التي تختصر السرّ في الحاجة الماسّة من لدن جيل الشاعر، إلى تنشيط البصيرة و تأجيج فتيلها كعصب وشرط للخلاص الرامية إليه شعرية عين نحّات أعمى، ترعاها الدوال التي تفيد وتزكّي ضرورة تفجير البصيرة الإنسانية في كل نواة من الكامن فينا.
____
*كاتب مغربي