العلاج.. بالروايات


*ندى حطيط


في إطار تعاون واسع بين جهات طبية، ثقافية وخيرية، أطلق في المملكة المتحدة مؤخرا برنامج جديد، يمكن من خلاله للأطباء أن يصفوا بعض الروايات والسير الشخصية وكتب التطوير الذاتي للمراهقين؛ بصفتها علاجات أو جزءا منها في بعض الحالات، كالأمراض النفسية أو المستعصية أو الغريبة. ويتوجه هذا البرنامج، الذي يقوم على تعاون بين جمعيات ومؤسسات ثقافية عدة مع الهيئة الطبية القومية في المملكة المتحدة، إلى المراهقين بين 13 – 18 عاما، موفرا للأطباء قائمة من 35 كتابا مختارة، نصفها تقريبا روايات تساعد المراهقين المرضى على فهم أفضل للأمراض التي قد يعانونها ولتأثيراتها المحتملة في حياتهم اليومية كما النفسية.
هذا، وقد تم اختيار الكتب الخمسة والثلاثين بالتعاون بين مجموعة من الأطباء والمستشارين الاجتماعيين، وعدد من المراهقين الذين قرأوا بعض الأعمال في تجربة علاجية سابقة.
ينضم هذا البرنامج إلى سلسلة مبادرات بريطانية ناجحة سابقة لاستخدام الكتب علاجات، ومنها برنامج موجه للكبار الذين يعانون الاكتئاب والمشاكل النفسية أطلق عام 2013، وبرنامج آخر لمساعدة الذين يعانون خرف الشيخوخة وعائلاتهم أطلق العام الماضي. وتقول هيئة القراءة في بريطانيا إن «هذين البرنامجين أوصلا كتبا إلى أكثر من نصف مليون مريض في المملكة إلى الآن، وأن استعارة الكتب الموجودة على قوائمهما (العلاجية) من المكتبات العامة ارتفعت بنسب غير مسبوقة (أكثر من 345 في المائة)».
ميزة البرنامج الجديد الموجه للمراهقين، أنه يضم إلى جانب الكتب المتخصصة أعمالا أدبية من سير شخصية وروايات تعالج إطارا واسعا من المشاكل التي يواجهها الجيل الجديد، كالقلق المفرط، الاكتئاب، الميول الانتحارية، اختلالات الشخصية، الاعتداءات الجنسية والتشوهات الجسدية نتيجة الحوادث، إضافة إلى بعض الأمراض غير المألوفة، كالسرطان ومتلازمة إسبيرغر مثلا.
«أعتقد أن الأعمال الأدبية تظل أفضل في إيصال المعلومة للمراهقين مقارنة بالنصيحة المباشرة»، يقول أحد المراهقين الذين شاركوا في اختيار قائمة الأعمال المدرجة على لائحة العلاجات «فالمراهقون عموما، لا يحبون تلقي المواعظ من الكبار». ويعتقد أحد الروائيين الذين أدرجت كتبهم ضمن قوائم العلاج، بناء على ما يتلقاه من رسائل القراء، أن «الروايات تخلق فضاءات آمنة للمراهقين، حيث يسهل دائما الحديث عن شخصيات الرواية وما تتعرض له من أحداث وتقلبات في المشاعر، بدلا من دفع المراهقين للتحدث عن مشاكلهم الذاتية مباشرة».
وفي تقارير السلطات البريطانية، أن واحدا على الأقل من كل عشرة مراهقين في المملكة المتحدة يعاني بالتأكيد واحدة من المشاكل النفسية العميقة، وهذه الأمراض النفسية تكلف اقتصاد البلاد مبالغ طائلة، سواء في تقديم العلاج أو في فقدان الإنتاجية الذي تتسبب فيه، كما تتسبب الضغوط المعاصرة في ازدياد مطرد في أعداد المرضى الذين يعانون حالات نفسية حادة؛ فانتشار الطلاق والتفسخ الأسري وضغوط الامتحانات المدرسية، كما امتحانات التأهيل للجامعات والتواصل الاجتماعي المتواصل 24 ساعة يوميا في الفضاء الافتراضي وانتشار التنمر في المدارس العامة، كل ذلك يجعل الهيئات الطبية غير قادرة على تقديم مستوى كافٍ من الدعم النفسي لجميع المحتاجين، وتجعل أوقات الانتظار لمقابلة المرشدين الاجتماعيين والأطباء المختصين تتجاوز أشهرا عدة في أغلب الحالات. ولذلك؛ فإن برامج تخصيص الكتب والروايات بصفتها جزءا من العلاج يمكّن الأطباء العامين من تقديم شكل فاعل من المساعدة للمرضى في وقت قريب يساعدهم في فهم حالاتهم، ويفتح أمامهم آفاقا أوسع للحوار مع الأطباء النفسيين المختصين إذا احتاج الأمر.
لكن اللطيف، أن الأعمال الروائية لم تصل إلى هذه النقطة المبهرة في التجربة البشرية من ناحية انتزاع الاعتراف بقدرتها على التأثير الإيجابي في البشر لدرجة إدراجها ضمن العقاقير التي يمكن أن يصفها الأطباء علاجا، إلا بعد مراحل طويلة من التعامل السلبي معها، واعتبارها «مضيعة للوقت» و«مظلمة» و«سما زعافا». فرغم الانتشار الهائل للروايات والمسرحيات في العالم الأنجلو – ساكسوني في القرن التاسع عشر، حين كانت أعمال أوسكار وايلد مثلا تثير اهتماما أكبر بكثير من الحروب النابليونية، فإن رجال المؤسسة الدينية شنوا حروبا هوجاء ضد قراءة الروايات، ونصحوا أتباعهم بالامتناع عنها بوصفها «تجعل القراء يتقمصون شخصيات وهمية يمكنها تحقيق المستحيلات، وينتهون إلى فقدان إحساسهم بالواقع»، وأن الروائيين في محاولتهم تقديم «معنى لحياة مليئة بالفوضى والمصادفات العشوائية فإنهم يجعلون قراءهم يشعرون بقوة وهمية وسيطرة غير واقعية على حيواتهم». سقراط الحكيم نفسه حذّر من جعل القراءة أمرا في متناول العقول غير المتدربة، وشبهها بالعقاقير التي إن لم يصرفها لك طبيب ماهر فإنها قد تقضي عليك.
وقد حصلت بعض الروايات على سمعة سيئة، غير مثبتة علميا، عن دورها في إفساد عقول أجيال من الناشئة والنساء خصوصا، وأنها تدفع ضعاف العقول إلى الانتحار، أو تثير فيهم معاناة هائلة وتدفعهم لسلوكيات قد لا تقرها مجتمعاتهم. فرواية (مدام بوفاري) لجوستاف فولبير اعتبرت أنها قد تسببت في خراب بيوتات كثيرة، وأنها جعلت آلاف النساء تعاني مشاعر أشبه بالمرض النفسي، ودفعت الكثيرات منهن إلى انتهاج طريق الخيانة. أيضا رواية (أحزان الشاب فيرتر) ليوهان غوته اتهمت بالتسبب في حالات انتحار، من دون إثبات ذلك بالطبع، وأنها عمل «مسموم». ويذهب تقرير لجمعية نيويورك لمكافحة الرذيلة الصادر عام 1857 إلى القول: إن «بعض الأعمال الروائية تثير مشاعر جارفة، وإدخالها البيوت أشبه بإدخال الفيروسات إلى الجسم». وليس الأمر مقتصرا في ذلك بالطبع على أزمنة بدايات ظهور الرواية بصفتها عملا أدبيا، بل إن تيارا قويا معاصرا بين طلاب الجامعات في العالم الغربي اليوم يطالب بحماية الناشئة وذوي الحساسية العالية من التعرض للأعمال الأدبية التي قد تثير فيهم مشاعر قوية، وذلك من خلال وضع تحذيرات عن المحتوى، كما هو الحال في الأفلام السينمائية أو السجائر مثلا. وهكذا، فإن عملا كلاسيكيا مثل قصائد أوفيد، ينبغي له أن يكون مسبوقا بتحذير عن المحتوى المفرط بجرعات العواطف.
بالطبع، فإن الروايات ليست بريئة تماما من قدرتها على التأثير في عقول البشر، فلا شك أن مجرد انخراطنا في القراءة يعني بالضرورة أننا سلمنا مقود القيادة والتوجيه للروائي ليأخذنا حيثما شاء. فهي قد تجعلنا نتقبل جرعة أعلى من أعمال العنف وتجمّلها في إطار نثر مبهر (رواية «حديقة العذاب لميرابو» مثلا) أو تجعل النساء يتقبلن الأدوار الكلاسيكية التي تفرضها عليهن الأفكار الذكورية المحضة بوصفهن أدوات للمتعة («خمسون درجة من الرمادي» لـإل إي جيمس)، وأيضا باستطاعتها أن تصوغ تصورنا الكلي عن العالم أو صورتنا عن ذواتنا، وتجعلنا حينئذ مطواعين للتشكل لمن يمتلك أدوات الهيمنة الفكرية، الإبداعية والإعلامية خصوصا إذا لم تتوفر لدينا، اختياريا أو إجباريا مصادر أخرى للمعلومات.
تجربة الكاتبة النيجيرية تشيماماندا أديتشي، كما وصفتها في حديثها ضمن سلسلة تيد 2009، مثال ساطع عن ذلك. تقول إنها في بداية حياتها اقتصرت قراءاتها على روايات كتبت في العالم الأنجلو ساكسوني. وهذا ما مميز أعمالها الأدبية الأولى باستحواذ أبطال ذوي بشرة بيضاء وعيون زرقاء على جل الشخصيات المتخيلة، الذين كانوا يلعبون دائما في الثلج ويأكلون التفاح الأخضر، ويتحدثون كثيرا عن الطقس ويسعدون بشروق الشمس. «لم أكن حينها قد خرجت من نيجيريا» تقول أديتشي: «فهنا بشرتنا سوداء، لا نعرف ما هو الثلج، نأكل المانجو، ولا نتحدث في حياتنا اليومية عن الطقس أبدا، ولهذا تحولت الشخصية الأفريقية في أعمالي، أنا ابنة أفريقيا، إلى صورة سلبية نقيض عن كل ما هو بريطاني أبيض».
إذن، هل نقرأ الروايات ونتركها على رفوف مكتباتنا مباحة لأبنائنا؟
ينصح الخبراء القراء باستحضار الوعي الكامل المسبق سلاحا يساعد على عدم انزلاق العواطف وإثارة انفعالات غير المرغوبة، أو تقليلها إلى أدنى حد ممكن، عند قراءة الأعمال الروائية التي يعتبرونها نشاطا عظيما لبناء العقل وتقوية القدرة على التفكير وتحسين أداء الدماغ عموما.
ولكن هل يمكن فعلا استحضار الوعي الكامل أمام عوالم بروست (في البحث عن زمن ضائع) أو تولستوي في (آنا كرنينا) وهي التي تأخذ بلباب العقول والقلوب ويصير الاستسلام أمامها جزءا لا يتجزأ من تجربة القراءة في بحث الإنسان الأبدي عن المعنى؟ 
___
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *