*تحقيق– علي سعيد
الكتابة عن الكتابة مغرية للقرَاء.. أن تقرأ مقالا لـ”ماريو برغاس يوسا” وهو يكشف تفاصيل أسرار تقنيات الكتابة الروائية لديه، أو يمر عليك اقتباس لـ”جوزيه سرماغو” وهو يتحدث عن الكتابة كوظيفة، بالنسبة لهذا الروائي البرتغالي الذي يعامل فعل الكتابة بانضباط تام، مثل هذه المقالات والمقتطفات التي انتشرت بشكل كبير في السنوات الأخيرة تثير فضول القراء، إما لقراءتها للتلذذ بتلك العوالم التي يخلقها كتاب الأدب وهو يتحدثون عن تجاربهم مع الكتابة.
لكن في المقابل ثمة من يرى في هذا النوع من المقالات والاقتباسات، مبالغة وترفا لا يخدم سوى المواقع التي تروج هذه المقالات والمقتطفات الجذابة، والتي قد تغوي الكثيرين للكتابة حتى لو لم تتوفر الموهبة، صحيح أن الكتابة عن الكتابة مجال مستقل ومفيد كونه ينقل خبرة الكتّاب إلى القرَاء، إلا أنه مع هذا الاهتمام المتزايد تحول -كما يرى البعض- إلى ما يشبه الموضة الاستهلاكية في القراءة، خاصة بعد صدور العديد من ترجمات مختارات مثل هذه الكتابات عن فن الكتابة.
ليست للمبتدئين
ميادة خليل- الروائية العراقية التي ساهمت مبكرا في ترجمة هذا النوع من المقالات- تنبه إلى أن هذا النوع من الكتابة ازداد الإقبال عليه مع بزوغ نجم الرواية العربية في نهاية التسعينات تقريباً، نافية: “هي ليست ظاهرة ولا موضة، هي موضوعات مطلوبة، تختلف أهميتها واستخدامها، وبالتالي نشرها وترجمتها مطلوب أيضاً”، وترى أنّ “الكتابة عن الكتابة لا تخدم الكاتب المبتدئ إذا لم تتوفر لديه الموهبة أولاً، كثيرون توجهوا لكتابة الرواية والشعر لأنها تحقق شهرة سريعة وكبيرة، لكن النجاح يعني الاستمرار، ومن لا يمتلك الموهبة لن تساعده كل كتب وورش الكتابة على الاستمرار، حتى لو تحقق له الشهرة التي توفرها في الوقت الحالي مواقع التواصل الاجتماعي بكل سهولة”.
وعن الكتابة قالت: “هناك قاعدة صحيحة وعامة لكل مبتدئ: وهي أن أردت أن تصبح كاتباً، يجب أن تكتب، بكل بساطة. الكل يمتلك الحرية في الكتابة، وطريقته في الدخول إلى هذا العالم وأهدافه الخاصة، لكن تصنيف العمل الإبداعي إلى سيئ أو جيد تدخل فيه عوامل كثيرة جداً، ولا أظن أن قراءة كتب عن الكتابة ومعرفة طقوس الكتابة من ضمن هذه العوامل”.
إرضاء الفضول
وتعتقد ميادة خليل أن الكتابة عن الكتابة أصبحت مطلوبة وموجودة في الأساس لأننا نحن القرّاء من بحثنا عنها، فضولنا دفعنا إلى ذلك، نحن من سألنا الكاتب: كيف تكتب؟ ما هي طقوسك في الكتابة؟ عشقنا للكتابة أو لكتابنا المفضلين، شغفنا حول كل ما يدور حول الكتاب، هذا العالم الساحر، دفع القارئ أو محب الكتابة إلى الفضول حول حياة الكاتب وكيف يكتب ويفكر ويخطط لعمله.
ودفع الكتّاب أيضاً إلى ابتكار صور رومانسية وأحياناً معقدة وخيالية حول طقوسهم في الكتابة، ليشبعوا فضولنا وخيالنا عنهم وعن حياتهم، مشيرة إلى أن قراءة هذه الموضوعات ممتع لإرضاء فضول القارئ، والمبتدئ بالكتابة.
لا تنفع في الأدب
وتحدثت ميادة خليل عن تجربتها قائلة: “تجربتي الشخصية المتواضعة لأني ترجمت الكثير من المقالات عن الكتابة، وقرأت الكثير عن الكتابة الإبداعية، لم استخدم هذه المعرفة في كتاباتي أبداً، لكنها منحتني حرية أكبر، وشجاعة أكبر للبدء في الكتابة، وفهم أكثر لتحديد أسلوبي الخاص في الكتابة، وأجد أن هذه القراءات غير مفيدة لمن لا يمتلك الموهبة، ممتعة لمن يحب الكتابة ودخول عالمها، مشبعة لفضولنا عن حياة الكاتب وعلاقته بالكتابة والكتب، حتى مع علمنا أن هذه الطقوس اليومية المترفة الرومانسية ابتكرها الكاتب بعد شهرته ولم تكن محفزاً له للكتابة”.
وأضافت: “الكتابة عن الكتابة تكون مطلوبة وضرورية جداً –برأيي-، في حالة كتابة السيناريو والكتابة الصحفية أو الأكاديمية، لأنها تُعلم تقنيات مُجربة وناجحة، وتوظف إمكانيات الكاتب، وتختصر عليه طرق جلب انتباه القارئ للمادة بسهولة أكبر، لكن في حالة الأدب، هذه التقنيات في الكتابة لن تنفع، لا يمكن للكتابة الإبداعية -شعر أو نثر- أن تتقيد بتجربة معينة أو قواعد محددة.. الكتابة الأدبية حرة وفي هذا تكمن قوتها وسحرها”.
خلق الموهبة
الكاتبة ليلى البلوشي، ترى أن أقرب طريق إلى الكتابة وإجادة الكتابة هي القراءة. وتضيف: “القراءة هي السر، وهي الباب الذي يفضي بالإنسان إلى ما يبتغيه، ليس لتطوير موهبته في الكتابة فحسب، بل أيضا بخلق هذه الموهبة.. من قال إن الكتابة هي موهبة فحسب بل هي أيضا تخضع لظروف أخرى يتحصّل عليها الكاتب عبر التعليم، تعليم الكتابة ودراسة الكتابة أيضا، ولا أعني بذلك دخول دورات لتعليم الكتابة أو تلقيه عبر الكتب والمقالات بل عبر القراءة، قراءة الفنون الأدبية المختلفة، الكلاسيكية منها والحديثة أيضا”.
وحول ما شاع في السنوات الأخيرة من ترجمة المقالات والكتب التي تعنى بتعليم الكتابة، تشير الكاتبة العمانية المقيمة في الإمارات، قائلة: “أهميتها ليست في المقالات نفسها بقدر أهمية الكاتب نفسه، فحبي لكتابات الروائي التركي العالمي (أورهان باموق) هي التي دفعتني وتدفعني باستمرار لقراءة أسلوبه في الكتابة، وكيف أن كتاباته براقة ومؤثرة فيّ كقارئة، لذلك كتابه الأخير (الروائي الساذج والحساس)، (ترجمة ميادة خليل)، الذي جمع فيه محاضراته عن كتابة الرواية وجدته ممتعا ومفيدا في آن؛ لأنك لا تقرأ بعض أسرار كتابة الرواية فحسب بل تغوص إلى عوالم باموق الروائية وهذا أمر في غاية الجمال”.
مشيرة إلى أن “باموق” نقل تجربة ثلاثين عاما من الكتابة، بكامل ازدهارها وعثراتها أيضا، وهنا تكمن أهمية هذا النوع من الكتب، عبارة عن سيرة ذاتية كتابية مصغرة، جاءت كلمحات، بل كومضات يهتدي منها الكاتب الناشئ أو الكاتب الذي يتوق لمرحلة معينة من الكتابة، مضيفة: “أستطيع أن أقول بأنني من المنغمسات بعبارة عن الكتابة قالها الروائي (راي برادبيري)، حين قال من ضمن طقوسه في الكتابة أنه يحب أن يفاجئ نفسه، حيث صارت هذه العبارة هي حكمتي في الكتابة، أن أفاجئ نفسي حين أكتب، فيالها من متعة خلابة، هذه العبارة تحرضني على مطاردة الإبداع، على نبش ما هو مجهول في قاعي حتى أصل لمرحلة أتفاجأ منها من نفسي حين أكتب، حين انتهي مما أكتبه!”.
وترى صاحبة كتاب “كائناتي السردية”، أن على الكاتب أن يسلك كل الطرق، أن يشرع كل الأبواب كي يغتذي داخليا وخارجيا لغاية الإجادة، أن يكون كاتبا جيدا عليه أن يتطلع كثيرا، أن يقرأ أكثر وأكثر، أن يغذّي فضوله أيضا عن الآخرين وكتابات الآخرين وأساليبهم.
ضد الرومانسية
أما الكاتب فهد الفهد، فيتوقف عند الصورة الرومانسية التي تصورها مقالات عديدة حول الكتابة قائلا: “الكتابة أبداً ليست رومانسية، هي نوع من العبودية للنص؛ حيث يتم منحه وقتا وجهدا حتى يخرج بالشكل الذي تريده، هناك تنازلات كثيرة، هناك طرق مسدودة، وبالضرورة خيبات، ولكن المتعة وراء هذا كله تنسي الكاتب وتجعله يخوض التجربة مراراً”، معتبراً أنّ حديث أي مؤلف عن عملية الكتابة والمراحل التي يمر بها العمل بين يديه هو أمر مثير للقراء، فالقارئ المبهور بالشكل النهائي للكتاب يهمه أن يعرف كيف صنع الكتاب؟ من أين التقط المؤلف فكرته؟ وكيف عالجها؟ ما الذي عايشه؟ وكم هي الأفكار والكلمات المشطوبة التي تخلص منها الكاتب لحظة الكتابة؟.
ويضيف الفهد: “هذه الكتابات توفر هذا الجو الداخلي والحميم لعملية الكتابة، ولكن يجب برأيي ألا تعامل وخاصة من قبل الكتاب المبتدئين على أنها خطة طريق للكتابة، فلكل كاتب تجربته الخاصة والتي تختلف تماماً عن تجربة الآخرين، حتى أحب الكتاب إليه، ربما نستقي من هذه الكتابات قيما عامة، مثل الإصرار والصعوبة التي تقف في طريق إنجاز عمل مكتمل وناضج، لا أكثر”.
ويرفض الفهد أن ينظر لهذه الكتابات كموضة، بل هي ظاهرة صحية لو تم التعامل معها على أنها شيء مصاحب للإبداع الأدبي، لون من ألوان البوح الأدبي، حيث يفتح الأديب معمله للقارئ، ويقوده من خلال تجاربه، يطلعه على خربشاته الأولى، وأفكاره الصغيرة والتي نمت لتتحول إلى هذه الأعمال، كما قلت يجب أن نتلقى مثل هذه الكتابات كشغف مصاحب للعمل الأصل، وليس كخارطة طريق أو كتعاليم كتابية مقدسة، مضيفا: “ربما تنشر بنية مساعدة الكتاب، ولكني أرى أن الكتّاب الجيدين لا ينتظرون مثل هذه الكتابات ولا يهتمون بها كثيراً، ربما يطلع أحدهم على الطقوس الداخلية لكاتبه المفضل، ولكنه لا يفكر باقتباسها أو تقليدها، لأن لديه أسلوبه الذي يميل إليه ويشعر بأنه يعبر عنه”.
___
*الرياض