حين تحدثتْ أميلي دكنسن!


*فليحة حسن


كعادتي في كلّ أسبوع ، رحتُ أتفحص الموقع الالكتروني للمكتبة المحلية في مدينتي والتي تسمى 
( Margaret E. Heggan ) بحثاً عن الفعاليات الثقافية الجديدة التي سَتُقام بها .
فجلب انتباهي إعلان عن ندوة ستقام عن الشاعرة الأمريكية (Emily Dickinson) يوم السبت المقبل . 
اتصلتُ للتسجيل ، وفي اليوم المحدد كنت مع الحضور الذي كان أغلبه من النساء الكبيرات في السن وبعض الرجال . 
دخلتْ المتحدثة -وهي حاصلة على شهادة الدكتوراه في شعر اميلي دكنسن بمعية زوجها الذي كان مسؤولاً عن جهازي العرض والصوت في تلك الندوة -مرتدية فستاناً قديماً طويلاً أبيض يعود بتصميمه إلى القرن التاسع عشر، وقد عقدت شعرها الأسود إلى الوراء ، وأضافت لهذا التماهي الشكلي ربطة عنق داكنة قصيرة ربطتها حول عنقها ، فظهرت وكأنها تشبه صورة الشاعرة المعلقة على باب القاعة إلى حد كبير . 
رحبتْ في بادئ الأمر بالحضور الذي وصفته جميلاً وبدأت بالحديث عن حياة الشاعرة فقالت: اميلي هي شاعرة امريكية كتبت نحو 1800 قصيدة . ولدت عام 1830وقد توفاها الله 1886 عن عمر يناهز 56 عاماً ، ولأنها لم تكن تحب النشر لذلك لم تنشر من قصائدها سوى 12 قصيدة نشرها أحد معارفها وباسم مستعار ، وقد جاءت قصائدها كمرآة عاكسة لحياتها المعيشية وإمعانها النظر والتفكير في عالمها الداخلي ، وقد هيمنتْ موضوعة الموت على غالبية شعرها ولم تكن هذه الشاعرة معروفة للمجتمع الثقافي آنذاك، لكنها الآن تعد شاعرة القرن التاسع عشر بلا منازع !
بعد ذلك قرأت لنا بعضاً من قصائدها بصوت جميل ومن ثم توقفت لتقول : (لم يكن من السهل التحدث الى اميلي دكنسن ! فهي امرأة عنيدة جداً . ) 
فوجئ الحضور من قولها هذا وبدأ بطرح أسئلة مثل : كيف ؟ و لماذا؟ 
ولكي تُوقف دهشة الحضور قالت : كنت بدأت الكتابة عن اميلي ولم أحصل على معلومات نافعة وكافية عنها في الوقت المحدد لإكمال دراستي ، فشعرتُ بالحزن والخيبة وأوشكت أن اتخذ قراراً بتغيير الموضوع برمته . 
جلست أنا وزوجي نتحدث في الأمر فقال لاتتسرعين ، دعينا نذهب الى بيت الشاعرة . 
في الصباح حزمنا حقائبنا وأخذنا طائرة وذهبنا إلى مدينة (أمهيرست) بولاية (ماساشوسيتس ) المدينة الجميلة الهادئة ، بحثت في مخطوطات مكتباتها كثيراً فعلَّ مخطوطاً ما يمكنه مساعدتي في بحثي فلم أجد سوى القليل منها الذي كان يتحدث عن عائلة الشاعرة وطبيعة أهلها المعروفين بتزمتهم الديني آنذاك ، وكلّ المصادر تقول إن الشاعرة لم تكن معروفة لدى أبناء مدينتها على العكس من عائلتها تماماً ، فقدعاشت في عزلة بدأتها في تركها للدراسة الجامعية والعودة إلى المدينة وعدم مغادرتها لها إلا لتلقي العلاج في بوسطن.
ومن ثم اعتزالها في البيت وتوقفها عن استقبال الآخرين ، وبعدها اعتكافها في غرفتها ، 
وتضيف المتحدثة قائلة “لم أجد اكثر من تلك المعلومات عن الشاعرة مما زاد حنقي وطلبت من زوجي أن نقوم بزيارة لبيتها.” 
وفعلا ّ قمنا بزيارة بيت عائلتها الكبير الذي كانت تشاركهم به السكن والذي تحول الى متحف يضم اغلب مقتنيات الشاعرة التي أوصت اختها ان تقوم بحرقها بعد موتها لكن الاخت لم تنفذ وصيتها تلك ونجتْ قصائد( أميلي) من الضياع لتبقى شاهداً على ما مرّت به هذه المرأة من تجارب . 
لم أكتفِ بما حصلتُ عليه من معلومات من هذه الزيارة وزدتُ حنقاً وصرختُ في وجه زوجي بغضب قائلة “أريد ان اتحدث مع أميلي ، فاستغرب زوجي من كلامي وقال كيف ستتحدثين معها يا ترى ؟” 
قلتُ “سأذهب لزيارة قبرها .” 
جلستُ بالقرب من القبر وصرتُ أتحدث مع إميلي قائلة : ” أعرف انكِ كنتِ تكرهين الشهرة ونشر قصائدكِ في حياتك ، ولكن ليس من العدل ان تعامليني هكذا ، انا أحاول الكتابة عنكِ فزوديني بخيط ما يقودني الى معلومات جديدة تنفعني !” 
في طريق العودة احسست بأني أرافق روحاً ما أخذتْ تبثُّ العزيمة في داخلي وتحثني على اكمال كتابتي ، ولم أدخل الى مكتبة مدينتي من جديد إلا وكانت أميلي برفقتي .

بسهولة صرتُ أجد المصادر التي كُتبتْ عنها والقصائد التي كتبتها لحبيب لم تقابله إلا مرتين في حياتها كلها واطلعت على القصائد الآخرى التي جاءت كنتيجة لعزلتها بعد فقدها احبابها (والدها ، اصدقائها ، حبيبها الشاعر (تشارلز وادزورث) وأمها . 
بدت الباحثة مقتنعة تماماً ان كتابتها عن اميلي دكنسن جاء كنتيجة لحديثها معها!
وحين بدأ الحضور بمناقشتها اكتشفتُ أن غالبية الحاضرات كنَّ يعرفن أميلي دكنسن ليست كشاعرة فقط، ، بل هن يتجاوزن ذلك الى معرفتهنَّ بتفاصيل جميلة من حياتها من مثل كيف كانت الشاعرة تصنع المعجنات التي تسمى (cookies‏) وتضعها في سلة على الشباك غرفتها ليأتي أبناء أختها فيأخذونها لتوضع في الفرن، لأنها كانت ترفض الخروج من غرفتها إلا لقضاء حاجتها . 
وكيف أنها لم تلبس في نهاية عمرها غير الثوب الابيض اعتقاداً منها بأن ذلك يؤدي الى صفاء الروح ويشجع العقل على التفكير بوضوح . 
أكدت الباحثة ذلك واطلعتنا على صورة لهذا الثوب التقطتها من متحف (Mt. Holyoke Art Museum) . 

وصورة أخرى لثوب أبيض آخر كانت الشاعرة ترتديه في ايامها الاخيرة أهدته أختها الى متحف (أميلي دكنسن) في عام 2000 ، وهو موجود الآن في غرفة نوم الشاعرة!
أعجبني فعلاً الاهتمام الكبير بتفاصيل حياة الشعراء هنا ودراسة آثارهم حتى الصغيرة منها ، وكيف يتفانى الباحث في عمله الى الحدّ الذي يتكبد فيه وعثاء السفر من اجل الحصول على المعلومة النافعة وحين انتهت المحاضرة احسست بأن اميلي دكنسن تقتربُ مني وتهمس لي قائلة :”اسمعي فليحة باستطاعتي أن أخوض في الحزن ، في برك من الحزن بأكملها ، فقد أعتدتُ على هذا ، غير أن ابسط دفعات الغبطة تكسر قدمي وإذا بي اترنح سكرى! “
________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *