خاص ( ثقافات )
عمّان- نظم مركز رؤى32 للفنون في الأسبوع الماضي حلقة حوارية حول المعرض الأخير لهاني حوراني، والذي حمل عنوان “صدأ”، وافتتح في الثالث من أيار (مايو)الماضي.
أدار الحوار، الذي شارك فيه عدد من الفنانيين التشكيليين والمصورين الفوتوغرافيين والنقاد، د.خالد الحمزة أُستاذ الفنون الجميلة في جامعة اليرموك حيث رحب بالحضور وقدّم للفنان التشكيلي عبد الرؤوف شمعون الذي استهل الورشة الحوارية بقراءة ذاتية لأعمال المعرض. ومما جاء في مداخلة الفنان شمعون التي حملت عنوان “تحول الصورة”:
الصورة الفوتوغرافية، كما تعلمون، هي التمثيل الأدق للشكل المرئي (الواقعي)، وأي تغيير أو تعديل عليها غالباً ما يكون بفعل الضوء ودرجته وزاويته، ثم خبرة المصوّر ومهارته التقنية في التعامل مع الكاميرا، وما يتبع ذلك من عمليات الطباعة.
فيما مضى، قدم لنا هاني حوراني اختيارات متنوعة وانتقائية تتجاوز مفهوم حرفة المصور الفوتوغرافي وتقاليدها، حيث يدخل، وبلغة (الكاميرا) عالم اللغة الجمالية البصرية.
نذكر مثلاً من موضوعات معارضه الفوتوغرافية السابقة الأبنية القديمة، الأزقة، الأسواق الشعبية، الصحاري، القاهرة، حلب، القدس، السلط وشوارعها القديمة. كانت طبيعة الأمكنة الضيقة والمفتوحة مجالاً رحباً لمواجهة الكتلة والفراغ، أو ما يمكن أن اسميه هنا.. “بالفراغ الممتلئ”، كموضوع تعبيري بكل ما يحمل من ايحاءات.. ثم باعتباره مدخلاً اساسياً ثانياً نحو منظومة الوحدة والتنوع تشكيلياً، والتي هي بالطبع نقيض التشابه والتكرار النمطي..
في هذا المعرض تحديداً لاحظت هذا الجمع البسيط والمبهر في آن بين البعدين السابقين, أي “الوحدة و التنوع”. لقد ظلت رؤية هاني حوراني الفنية، وما تحتوي من هموم وانشغالات وتأملات، ظلّت في رأيي ولمدة طويلة (نسبياً) محصورة داخل اطار الكادر الفوتوغرافي، ويصعب علىّ القول أنه تخلّى عن الكاميرا، أو يمكن أن يفكر بهذا الأن. لأن هذه الكاميرا كانت سبباً مباشراً، بل عاملا محفزاً لأن تعود به إلى فن الرسم وتقنياته، فيحدث هذا التزاوج، أو هذا التفاعل، بين صورة تغيب ولوحة تتكشف.
لقد وظف هاني حوراني احساسه المميز في عالم بصري متعدد الأدوات، وأدرك فنياً أنه بإمكانه أن يوجه هذا الإحساس للتعبير عن تجربة إنسانية تماهى اللون في الصورة/ اللوحة إلى درجة التأقلم حيناً والإندماج حيناً آخر.
لأختصر المعني أكثر، أقول إن إجادة هذا التحوّل من طبيعة وشكل إلى طبيعة وشكل آخر هو ما فعله هاني بجرأة لافته تثير الدهشة. أعتقد أن هذا البعد كان هاجسه منذ زمن، وإن بدت ملامحه غير واضحة تماماً في معارضه الأولى.
أنا شخصياً تفاعلت مع أعمال هذا المعرض الواقعة في الوسط ما بين نهايات الصورة وبدايات الرسم، ومثل هذه البدايات ليست جديده أو طارئة، بل أكاد أتبين أن نزعة الرسم تضغط على التجربة أكثر من أي وقت مضى.
لعل ما شدّ انتباهي أو اهتمامي… ما تشابه عنده مع ما أتذكره من تجربتي في بداية تسعينيات القرن الماضي من ايقاظ الصدأ على السطح، ومن جملة العمليات التجريبية التي مررتُ بها لدراسة آثار الزمن، وما يحدث من تآكل وتفتت وتغيّر على ملامس السطوح المعدنية، حدث هذا معي خلال بضعة سنوات حين درستُ لونياً مجموعة من قطع الصفيح المهترئ، جمعتها من بيئاتها الرثة، فكانت مقدمة لتحولات في التجربة، اختصرتها تحت عنوان فلسفي هو “هندسة الخراب”، ولأن الذاكرة هي جزء من تكوين التجربة الفنية، فقد استيقظت أشياء كانت حميمية الإتصال بحياتنا العميقة أو بحياتنا الهامشية.
إن أشياء هاني حوراني لها لغتها الصامتة، ، فهي موحية، وتحيي تحت أبصارنا بعض نبض من ماض جميل.
ها نحن نقف هنا أمام أقفاص فارقها الطير، وسطوح جدران عبرت زمنها، وصفائح (تنك) انهت مهمة الحفظ، إلى مخلفات أمكنة تحمل معان وجدانية ومرتبطة هذه المعاني، باستخداماتها السابقة، تلك هي مدلولات أي نزعة ذاتية عند الفنان، والتي لن تقف عند حدود رغبة العرض، بل هي تخاطب الاستجابة الجمالية لدى المشاهد، وكأن الفنان يقول لنا: أن جمالية العمل الفني تبدأ حين يتخلص الفنان من التشوهات المرئية للمشهد، وهاني حوراني كأي فنان لا تعوزه الحساسية المطلوبة لذلك، ثم حين يتقن التدرج، وبنسق اسلوبي محدد وملائم لتحولات المشهد.
.. وها هو هاني حوراني، كفنان فعل ذلك.
الناقد غسان مفاضلة: إشكالات تخليق العمل الفني من الصورة الفوتوغرافية
وكان المتحدث الثاني الفنان والناقد التشكيلي غسان مفاضلة الذي استهل كلامه بقوله أن “صدأ” هي مجرد علامة أو اشارة لتحولات الأشياء مع الزمن، وهي لاتتعاطى فقط مع تحولات الأشياء وانما تسحب تداعياتها لتطال الإنسان ايضاً.
ولفت مفاضلة الإنتباه إلى العلاقة بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة المرسومة في اعمال هاني حوراني، حيث تثير تساؤلات حول أين تلتقى وأين تفترق.؟! واضاف: ان وظيفة اللوحة المرسومة هو ان تبتكر تكوينات مسبقة، وخارجة عن إرادة المصور. وقال ان حل هذا التناقض الظاهر قد تمت معالجته عن طريق الانتقاء الذكي للتكوينات المستوفية لجمالياتها الخاصة من خلال عدسة الكاميرا، واختيار الكادر الملائم، ومن ثم القيام “بتذويب” المسافة ما بين الصورة واللوحة من خلال إعادة الإنشاء والتلوين.
واضاف غسان مفاضلة ان أعمال هاني حوراني التي تمزج مابين الصورة الفوتوغرافية والرسم تثير اشكاليات وتحديات جديدة فكيف تخلق لوحته قيمة جمالية جديدة وكيف تكتسب جاذبيتها الخاصة، بالرغم من اعتمادها على تكوينات مسبقة، سجلتها عدسة الكاميرا من قبل؟!. وانتهى المفاضلة إلى القول بأن هاني حوراني حل هذه الإشكالية، فهو يدرك المسافة القائمة ما بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة المرسومة، وقد نجح في تذويب هذه المسافة من خلال إعادة بناء تكويناته المسبقة عن طريق التلوين واضافة الملامس واضفاء حساسية جديدة على أعماله،فهي نتاج حوار بصري طويل مع المرئيات.
عدنان مدانات: اعمال هاني حوراني أقرب إلى المدرسة “ما فوق الواقعية”
وعقب عدنان مدانات المخرج والباحث السينمائي على ما اثير حول علاقة الصورة الفوتوغرافية باللوحة، فقال ان هذه العلاقة قديمة، مشيراً إلى ان العديد من الفنانيين التشكيلين باتوا يرسمون ليس من الطبيعة مباشرة، كما كان الحال من قبل، وانما من الصور الفوتوغرافية. وذلك من منطلق فلسفي يفصل القدرة على الرسم عن الانطباعات المباشرة المتولدة من الطبيعة، وكان هؤلاء يحاولون التأكيد على موضوعية لوحاتهم، وإنها غير منساقة إلى عواطف الفنان أو تأثيرات الطبيعة المباشرة على الفنان. كما نوه إلى تيار هام ظهر في ستينات وسبعينات القرن الماضي شديد الصلة بالواقعية، وهو تيار “مافوق الواقعية”.
وفي ختام كلمته تساءل عدنان مدانات عما هي الصورة؟!! ليقول انها لحظة القبض على الزمن، فهى، بحسب تعابير شائعة في فن السينما نوع من “تحنيط الزمن” او “تخليد” للحظة زمنية. وهذا ما فعله هاني حوراني من خلال تخليد لحظات مرت بها الأشياء التي صورها، ومن ثم أضفى عليها لمسة فنية عن طريق الفرشاة وطبقات اللون والمعاجين ليزيد من درامية تلك اللحظة.
د.مازن عصفور: لوحات الحوراني حققت “الاشتباك مع المشاهد”
اما د. مازن عصفور استاذ علم الجمال ونظريات الفن في الجامعة الأردنية، فقد تساءل عما يقنعه أو يشده في العمل الفني، واجاب انه “صنع الاشتباك” ما بين اللوحة والمشاهد. وقال ان لوحة هاني حوراني نجحت في تحقيق هذا الاشتباك إذ انها تأسر المشاهد وتدخل المسرة عليه من خلال لجوءه إلى فكرة “المضاعفة” أو التكرار التي تنطوي عليه لوحته. وشرح ذلك بقوله أن اعماله تعتمد على كودات/ اشارات، تتناسل وتتوالد لتحدث تأثيراً درامياً على المشاهد، وهو ما يحتاج إلى خبرة كبيرة في تحقيق ذلك.
وانتقل د.مازن عصفور إلى مدخل آخر لقراءة أعمال هاني حوراني من خلال تركيزه على النفايات والمواد المهملة. وقال أن هذه التجربة تذكره بأعمال الفنان دوشام عن النفايات، والتي مثلت في حينها نوعاً من الإحتجاج على الحضارة الغربية. وانتهى إلى تسجيل إعجابه بفكرة استنباط الجمال من المهمل والهامشي.
ولفت د.مازن عصفور إلى بعد غير ملحوظ في لوحات معرض “صدأ”، ولاسيما التي تتعامل مع المستوعبات الفارغة من التنك، والزمن الخارجي. وقال لقد احسن الفنان حين إمتنع عن تأطيرها، إذ لو فعل لخسرت الأعمال سمتها المفتوحة.
جهاد العامري: اعمال الحوراني توثق للعلاقة بين الجمالي والإجتماعي
الفنان جهاد العامري خالف زملائه الذين تحدثوا عن تجميد او قتل اللحظة في اعمال هاني حوراني ليقول انه رأى فيها ولادة، حيث المشهد موجود ويجسد حيوات عديدة. وضرب مثلاً على ذلك في اللوحات التي تتضمن مستوعبات التنك الفارغة، حيث وجد أن هناك سيرة خاصة لكل مستوعب، تعود بها إلى أزمان وأماكن مختلفة.
كما لفت العامري الإنتباه إلى أن أعمال هاني حوراني تلامس العاطفة الشعبية المرتبطة بعلامات تجارية مألوفة تعود إلى زمن قديم، وقال ان هذه الأعمال تتعامل مع الذاكرة الإجتماعية، وهي توثق الإرتباط ما بين هو فني وما هو اجتماعي وشعبي.
زليخة ابو ريشة: موسيقى في اعمال الحوراني
اما الشاعرة زليخة أبو ريشة فقد لاحظت ان اعمال هاني حوراني التقطت مشاهدها الفوتوغرافية بعين التشكيلي، وانه استنفذ آخر ما وصلت اليه الكاميرا، حيث ينتهي إلى انجاز اعمال فنية وليس لتوثيق واقعة أو مشهد. و اضافت: من خلال الجمع مابين الوحدة والتكرار سمعت ورأيت موسيقى في الأعمال. ان المعرض لايتحدث فقط عن “صدأ الأشياء” وانما عن “صدأ الأرواح والأجساد والبشرية”.
واستشهد الفنان الحروفي ابراهيم ابو طوق بقول المتصوف ابن العربي “الزمان مكان سائل والمكان زمان سائل”، لينوه إلى تداخل المكان والزمان في أعمال الحوراني، وإلى السيولة التي تتجسد في وحدة الموضوع وتكراره، والتي تضفي على الأعمال ايقاعات موسيقية.
وعاد د.خالد الحمزة ليعقب على الحضور، فقال مخاطباً صاحب المعرض بقوله: شكراً على هذا “التكثيف ما بين الصورة والعمل الفني”. واضاف انه يود أن يعلق على المعرض من مدخل الزمن، حيث كان قد اقترح في مقال سابق له اعادة تصنيف الزمن من وجهة نظر العمل الفني. واضاف: ان للعمل الفني علاقة بالزمن من زوايا عدة، ابرزها سنة الإنتاج، السياق، مولد العمل، عمر العمل. وتساءل كيف يستحضرالعمل الفني زمنه الخاص؟!، واجاب ان هناك لحظة ما يختارها الفنان، لانتاج عمله الفني، وعادة ينصح بأن تكون “اللحظة التي تسبق انتهاء الحدث”.
وانتقل إلى الحديث عن العلاقة ما بين الفوتوغراف والفن التشكيلي، فقال ان الفنانيين الكبار في أزمان سابقة استخدموا الكاميرات البدائية قبل اختراع الكاميرات الآلية واشار إلى ضخامة أرشيف “رودان”، ابو النحت الحديث، من الفوتوغراف والذي استخدم في اعماله النحتية. وقال ان هناك تاريخ طويل من الإعتماد على التصويرالفوتوغراف في الأعمال الفنية، هذا مع العلم بأن الفوتوغراف هو فن قائم بذاته. وانتهى إلى القول ان التساؤل حول العلاقة بين الفوتوغراف والفن التشكيلي لم يعد مقبولاً، إنه مثل التساؤلات المبتذلة عن “الأصالة والمعاصرة”. فالمسألة ليست في الأداة أو نوع الأداة وانما هي في ذات الشيئ وعملياً، فانه لا يضير الفنان أن يستخدم ما يشاء من مواد اخرى، بما فيها الفوتوغراف، وانما المهم هو المنتج النهائي، الذي يحاسب عليه.
هاني حوراني: لوحتي جنس ثالث يجمع ما بين الفوتوغراف والرسم
وفي نهاية اللقاء طلب إلى هاني حوراني الحديث عن رؤيته لنفسه كمصور فوتوغرافي ورسام، وعن طريقه انتاجه لاعماله الأخيرة. فقال:
“قد يكون حديثي غريباً أو جارحاً حين أقول بأنني أعيش حالة من الإزدواجية في علاقتي بالصورة الفوتوغرافية. انها علاقة عشق من ناحية، وهي الحالة التي انظر فيها إلى الصورة الفوتوغرافية كغاية بذاتها، أو كمنتج نهائي أو كعمل فني ناجز.
انها تلك الحالة التي أقف فيها وراء الكاميرا، واحدد فيها الكادر واقرر خلالها موضوع صورتي وشكلها النهائي، وهي حالة تستمر مع عملية معالجة الصورة وطباعتها ووضعها في اطار، إلى ان تصل إلى المشاهد.
اما الحالة الثانية فهي التي أتعامل بها مع الصورة الفوتوغرافية كتخطيط لانتاج لوحة مرسومة، حيث لا أرى في الصورة الا كونها خامة أولية لعمل فني مقبل. وهذا هو حالي في معارضي الأخيرة، حيث اعمالي هي نتاج تزاوج الرسم مع الصورة الفوتوغرافية، فهي تتشكل كما لو انها “جنس فني ثالث”.
ان حالة الاعتمادية المتبادلة داخلي ما بين المصور الفوتوغرافي والرسام ليست جديدة، فحين احترفت (أو ادمنت التصوير الفوتوغرافي) منذ أواسط التسعينات، كنت أصور كرسام. ليس فقط من خلال اتباع التقاليد الجمالية لفن الرسم أو الفنون التشكيلية، وانما ايضاً من خلال الإهتمام بالتفاصيل الصغيرة وملمس الأجسام والسطوح. كانت ريشتي هي العدسة، وموضوعاتي الأثيرة في التصوير هي ذاتها في الرسم، أو هي مستمدة من فنون التشكيل.
اليوم، حين عدت للرسم، فإني أعيد حالة الاعتمادية المتبادلة بين التصوير الفوتوغرافي والرسم، لكن بصورة معكوسة، ها انا استعير من امكانات الفوتوغراف ما ينقص اللوحة المرسومة، اي ذلك الكم اللانهائي من التفاصيل التي لا تراها العين المجردة، لكنها مرئية للعدسة ولاسيما للكاميرات الرقمية.
من هذه الخاصية، وبالإعتماد عليها، أؤسس لجمالية، ما فوق واقعية. أو “للواقعية المتطرفة” بغناها التفصيلي واللانهائي، لكن مع اضفاء حساسية الفنان ورؤيته وذائقته وارثه وطبعه وثقافته، واذا جاز ايضاً تاريخة الخاص في الرؤية والنظر.