المترجمون والمناولون في المكتبات العربية الإسلامية



*د .يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )
القارئ في تاريخ المكتبات العربية الإسلامية التي انتشرت عبر المعمورة الإسلامية في فترات الحضارة العربية الإسلامية الزاهرة ، يجد أن موظفي المكتبة يختلفون بطبيعة الحال باختلاف المكتبة نفسها ، وما إذا كانت مكتبة صغيرة أو كبيرة ، مكتبة عامة أو خاصة أو بين العامة والخاصة ، وهذا الاختلاف يشمل أنواع الوظائف وعدد الموظفين والعاملين ، ومع ذلك يمكن لنا القول أن هناك وظائف ثابتة معروفة لا يمكن أن تخلو منها مكتبة ذات شأن في البلاد العربية و الإسلامية ، وهي : الخازن أو أمين المكتبة ، و المترجمون ، و النساخ ، و المجلدون ، والمناولون .. 
وسنحاول في هذه السطور أن نتكلم عن المترجمين ، والمناولين ودورهم وأهميتهم في المكتبات العربية الإسلامية .
من المسلم به أنه فيما عدا الدراسات الدينية واللغوية ، كانت النهضة العلمية التي احتضنها المسلمون ورعوها تعتمد جل الاهتمام على الدراسات التي قام بها غير العرب من الشعوب ، ومن أجل هذا كان المترجمون حلقة الاتصال بين العرب وهذه العلوم ، وبفضل هؤلاء المترجمين ، وعن طريقهم ، تم نقل علوم المصريين واليونان و السريان والهنود والفرس إلى اللغة العربية . 1
ويستطيع القارئ أن يتعرف على هؤلاء المترجمين ونتاجهم في كتاب (الفهرست) لابن النديم ، وفي الباب التاسع من كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة ، وبالطبع فإننا إذا حددنا كلامنا بالمترجمين في المكتبات العربية الإسلامية ، فمعنى ذلك أننا نتحدث عن نماذج لطائفة واحدة من المترجمين تشمل هؤلاء الذين كانوا يقومون بعملية الترجمة في المكتبات ، فهم يدخلون في محيط أي بحث عن موظفي المكتبات العربية الإسلامية .
ونسجل هنا أن المترجمين وجدوا مكانهم في أول مكتبة عرفت في العالم الإسلامي ، حيث يؤكد بعض الباحثين على أن خالد بن يزيد الأموي (توفي 85 هـ) ذلك الفتى الأموي الذي أحب العلوم وشغف بالمعارف ، يقال أنه كان أو من عرفت له مكتبة . 2
ويقول ابن النديم أن خالد بن يزيد اعتنى عناية كبيرة بإخراج كتب القدماء ، وكان أول من ترجمة له كتب الطب والنجوم . 3
وفي مكان أخر يقول صاحب (الفهرست) : أن الفتى الأموي أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كان ينزل مصر ، وقد تفصح بالعربية ، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة (علم الكيمياء وفروعه) من اللسان اليوناني والمصري إلى العربي ، وهو أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة . 4
ويعين ابن النديم مترجمًا اسمه (اصطفن القديم) ، ويقول إنه : نقل لخالد بن يزيد بن معاوية الأموي كتب الصنعة . 5
ولكن الترجمة وصلت قمتها في بيت الحكمة العباسي ، ومن مشاهير المترجمين فيها : أبو سهل الفضل بن نوبخت ، ويقول ابن النديم عنه : إنه كان في خزانة الحكمة (مكتبة بيت الحكمة) لهارون الرشيد ، وله نقل من الفارسي إلى العربي . 6
وقد قلد الخليفة العباسي / هارون الرشيد (تولى الخلافة سنة 170 هـ ـ وتوفي: 193 هـ) يوحنا بن ماسويه ترجمة الكتب القديمة مما وجده بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم حين أخذها المسلمون ، ووضعه(عينه) أمينًا على الترجمة ببيت الحكمة . 7
وكان الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد (تولى 198 هـ ـ توفي 218 هـ) ، الذي يعود إليه الفضل في جعل بيت الحكمة مؤسسة ثقافية فكرية ذات شأن ، كان المأمون عالمًا مثقفًا ، فأولى النهضة العلمية عنايته الكاملة ، واتجه إلى أن يحصل على عدد ضخم من كتب القدماء ، فوفق بطرق شتى في الحصول على مجموعات نادرة ، وضمها إلى مكتبة بيت الحكمة ، في نفس الوقت الذي عين فيه خيرة المثقفين ونخبة ممتازة من المترجمين لينقلوها إلى اللسان العربي ، وليضيفوا لها ما يعن لهم من شروح وتعليقات مفيدة للقارئ .
ومن أشهر المترجمين بمكتبة بيت الحكمة في ذلك العهد : سلم ، والحجاج بن مطر ، وابن البطريق ، وحنين بن إسحق ، وعمر بن الفرخان ، وإسحق بن حنين .. 8
واشتهرت بعض المكتبات الخاصة بالحرص على النقل والترجمة ، ومن هذه : مكتبة / بني شاكر ، وهم : محمد وأحمد والحسن ، وقد كان لهم مترجمون مخصوصون لا يفتئون ينقلون لهم ويلازمون العمل في مكتبتهم ، ومنهم حبيش بن الحسن ، وثابت بن قرة . 9
وقد توقف نشاط الترجمة تقريبًا بعد الخليفة العباسي / الواثق بالله هارون أبو جعفر (تولى 227 هـ ـ توفي 232 هـ ) ، ولم يعد من السهل أن يجد القارئ ذكرًا للمترجمين في المكتبات العامة أو الخاصة أو التي جمعت بين العامة والخاصة ، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن النشاط الكبير الذي حظيت به الترجمة من قبل قد نقل إلى اللغة العربية أمهات الكتب في الفنون المختلفة ، أو أن المسلمين بعد أن اطلعوا على ما تم ترجمته في بيت الحكمة ، وما عاصرها من مكتبات استطاعوا أن ينتجوا بلغتهم ثقافة وعلمًا وفلسفة كانت مجالاً لنشاطهم العلمي في العهود التالية :
أما المناولون في المكتبات العربية الإسلامية فيكثر الحديث عنهم في أدبيات التراث العربي كلما تعرض الكتاب والمؤلفون للكلام عن موظفي المكتبات التي انتشرت في أرجاء المعمورة الإسلامية ، وفتحت لكل من يرغب في القراءة والتعلم والإطلاع .
ووظيفة المناول هي إرشاد القراء إلى موضع الكتب في الرفوف إذا لم يعرفوا طريقها ، أو إحضار الكتب لهم من أمكنتها إلى حيث يقرءون ، ومن هنا سمي من يؤدي هذا العمل مناولاً ، وبهذا التحديد لوظيفة المناول يتضح أن عمله لا يسمو إلى عمل الخازن أو أمين المكتبة أو المشرف عليها ، ولكنه لا يهبط إلى مستوى الفراشين وعمال النظافة الذين نجدهم في كل مكتبة إسلامية ، فوظيفة المناول ترتفع لاتصالها بالكتب ومعرفة أمكنتها ، ولكنها تقف عند هذا الحد دون أن تتجاوز ذلك ، أي إلى حيث توصيل الكتب إلى القراء في قاعات الإطلاع أو إلى المكان الذي يقرأ فيه القراء ، ومن هنا سمي من يؤدي هذا العمل (مناولاً) ، فهو يمتلك القدرات التي تؤهله إلى أن يعرف موضوع الكتاب ، وأن يضعه في المكان المناسب له .
ويقول البعض : إن العمل الذي يؤديه المناول في المكتبة يجعله قريبًا من الخدم ، لأنه يسعى بين يدي القراء ، ملبيًا رغباتهم ، مستجيبًا لمطالبهم ، ومن هنا عبر عنه أحيانًا بالخادم ، واقترن هذا التعبير بكلمة الفراش أو الفراشين ، فقيل : الخادم الفراش ، للتمييز بينه ـ كعامل يعمل حلقة اتصال بين الكتب والقراء ـ وبين الفراش الذي يقوم بتنظيف الكتب وأثاث المكتبة . 10
وفي رأينا إن كلمة المناول أدق وأفضل في هذا المقام ، فالمناول ليس بخادم أو فراش ، إنه رجل يملك قدرات وخبرات ف مجال معرفة موضوع الكتب ، وكيفية وضعها في مكانها المناسب ، وقد ورد ذكر وظيفة المناول كثيرًا في المراجع العربية .
فقد ذكر ابن القوطي : أنه عند نقل الكتب إلى خزانة المدرسة المستنصرية ـ التي أسسها الخليفة العباسي / المستنصر بالله المنصور أبو جعفر ، الذي توفي سنة 640 هـ ، وهو الخليفة قبل الأخير في قائمة خلفاء بني العباس في بغداد ـ كلف من حصرها واعتبرها ورتبها أحسن ترتيب مفصلاً لفنونها ليسهل تناولها ولا يتعب مناولها . 11
كما تحدث ابن حجر العسقلاني عن بعض المناولين في المدرسة المستنصرية . 12
على كل حال فوظيفة المناول (أو المرشد) كانت موجودة ومحددة العمل بالشكل الذي هي عليه الآن في المكتبات الراقية في العالم المتمدين ، وإن اختلف التعبير الذي يطلق على من يشغل هذه الوظيفة ، ولكن بالطبع لا يطلق عليه فراش أو خادم ، مع الوضع في الاعتبار أننا نقدر ونجل ونحترم كل المهن ، فكل واحد فينا يساهم في خدمة مجتمعه في المكان الذي يعمل فيه ، وأي عمل شريف هو عمل رائع وجليل .
وقد وجد المناولون في المكتبات العربية الإسلامية سواء كانت هذه المكتبات عامة أو خاصة ، وورد في كتب الأدب والتاريخ أن الفيلسوف الشاعر / أبا العلاء المعري كانت له جارية تقوم بهذا العمل (أي أن المرأة كانت تقوم بدور المرشدة أو المناولة في المكتبات ) ، وهو يقول على لسانها : أتدري من أنا يا علي بن منصور ؟ أنا توفيق السوداء التي كانت تخدم في دار العلم في بغداد على زمان أبي منصور محمد ابن الخازن ، وكنت أخرج الكتب إلى النساخ . 13
ووجد في المدرسة المستنصرية ببغداد عدد من المناولين ، نذكر منهم : الجمال بن إبراهيم بن حذيفة ، وهو أول مناول عمل في هذه المكتبة ، وقد خلع الخليفة / المستنصر بالله عليه يوم افتتاح المدرسة . 14
وكذلك وجد عبد الرحيم بن محمد بن سعيد الحدادي … وكان مناولاً بخزانة الكتب في المدرسة المستنصرية كأبيه ، وله بها معرفة تامة . 15
ويذكر لنا المقريزي أنه عين بدار الحكمة في القاهرة ـ التي أسسها وافتتحها الحاكم بأمر الله الفاطمي يوم السبت الموافق العاشر من جمادى الآخرة سنة 395 هـ ، والتي أراد بها أن يمحو من الذهان ما علق بها عن مجد بيت الحكمة العباسي في بغداد ، الذي أنشأه الخليفة / هارون الرشيد ، وسما به إلى الذروة ابنه المأمون ـ قوام (خزنة أو أمناء للمكتبة) ، ومناولون ، وفراشون . 16
وفي كتاب (وفيات الأعيان ) لابن خلكان نقرأ هذه القصة عن المناولين بالمكتبات الخاصة : رأى أبو سعيد العقيلي للصولي (أبو بكر محمد بن يحيى الصولي ، المؤلف والأديب ، صاحب كتاب : أخبار الراضي بالله والمتقي لله أو تاريخ الدولة العباسية ، توفي 335 هـ) ، بيتًا مملوءًا كتبًا (مكتبة ضخمة) ، جلودها مختلفة الألوان ، وكان يقول : هذا كله سماعي ! ، وإذا احتاج لمعاودة شيء منها قال : يا غلام هات الكتاب الفلاني .
وكان الصولي عالمًا فاضلاً ، اعترف بذلك كل من كتب عنه وعن عصره ، ولكن العقيلي أخذ عليه عدم اعتماده على نفسه ، ودوام اعتماده على الكتب ، التي أصبحت كأنها هي ـ لا صاحبها ـ العالمة الفاضلة ، وقد عبر العقيلي عن فكرته هذه بمقطوعة شعرية قصيرة هجا فيها الصولي هجوًا خفيفًا (أو فلنقل تمازح معه ) ، وهي التي تهمنا لأنها تشير إلى موضوع المناولين : 
[ إنما الصولي شيخ 
أعلم الناس خزانة 
كلما جئنا إليه 
نبتغي منه إبانة 
قال : يا غلمان هاتوا 
رزمة العلم فلانة ]
الهوامش والأسانيد 


1 ـ أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1987 م ، ص 165 وما بعدها.
2 ـ محمد كرد علي ، خطط الشام ، الطبعة الأولى ، دمشق ، بدون تاريخ ، 6 / 189
3 ـ ابن النديم ، الفهرست ، القاهرة،1348 ص 497
4 ـ ابن النديم ، الفهرست ،مرجع سابق ، ص 338
5 ـ ابن النديم ، الفهرست ، القاهرة ، مرجع سابق، ص 340
6 ـ ابن النديم ، الفهرست ، مرجع سابق، ص 382
7 ـ ابن أبي أصيبعة ، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، نشرة أوجست موللر ، 1884 م ، 1/ 175
8 ـ ابن النديم ، الفهرست مرجع سابق ص 174 ، وص 339 ، وص 415 ـ وكذلك : القفطي ، إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، ليبسك ، 1320 هـ ، ص 242 ـ وأيضًا : ابن أبي أصيبعة ، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، مرجع سابق، ، 1884، 1/ 187
9 ـ القفطي ، إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، مرجع سابق ، ص ص 30 ـ 31 ، وكذلك : ابن أبي أصيبعة ، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، مرجع سابق ، 1/ 187 ـ وأيضًا : ابن النديم ، الفهرست ، مرجع سابق ، ص 340
10 ـ المقريزي ، الخطط ، القاهرة ، 1170 هـ ، 1 / 458 .
11 ـ ابن القوطي ، الحوادث الجامعة ، بغداد ، 1351 هـ ، ص 54 .
12 ـ ابن حجر العسقلاني ، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ، طبعة حيدر أباد ، الهند ، 1349 هـ ، 2 / 360
13 ـ أبو العلاء المعري ، رسالة الغفران ، طبعة القاهرة ، 1903 م ، ص 33
14 ـ ابن القوطي ، الحوادث الجامعة ، بغداد ، 1351 هـ ، ص 56 .
15 ـ ابن حجر العسقلاني ، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ، مرجع سابق ، 2 / 360
16 ـ المقريزي ، الخطط ، مرجع سابق ، 1 / 458

___________
*باحث وخبير في التراث الثقافي 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *