ربيع فلسطين الثقافي


*غسان زقطان


ربيع فلسطين لهذا العام كان ربيعاً ثقافياً بامتياز، فإضافة الى الأنشطة الثقافية التي أصبحت ضمن جدول أعمال المدينة، شهدت فلسطين ثلاثة أحداث ثقافية مهمة، حفل تسليم مبنى المتحف الفلسطيني في محيط مدينة بير زيت وافتتاح حديقة النباتات التي شكلت انطولوجيا حقيقية لتاريخ النبات في فلسطين.
أسبوع الأدب العربي الذي نظمته مؤسسة محمود درويش في المتحف بمشاركة أسماء عربية كبيرة، قاسم حداد وحمور زيادة وابراهيم نصر الله وبثينة العيسى والذي تنقل من “رام الله ” الى بقية مدن الضفة الغربية.
معرض الكتاب الذي نظمته وزارة الثقافة الفلسطينية والذي جاء مغايراً في دورته لهذا العام سواءً على مستوى التنظيم أو على مستوى الدعوات والضيوف والبرنامج الموازي.
” الزوبعة الموسمية ” التي تترافق عادة مع وصول الضيوف العرب للمشاركة في الفعاليات الثقافية، والتلويح بشبهة ” التطبيع “، أيضاً كانت ضمن حمولات ربيع رام الله الثقافي. الحملة تلك لم تؤد مهمتها هذا العام، بل انعكست، عبر جدل واسع ساهمت فيه مواقع التواصل الاجتماعي وأخرجته من دائرة المثقفين الضيقة ومجالسهم ليتحول الى قضية رأي عام، لتطرح بقوة وجهة نظر مغايرة تماماً متكئة على مرجعيات وطنية، من ضمنها موقف لجنة مقاومة التطبيع نفسها التي وضعت بالمشاركة مع مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، معاييرواضحة لمثل هذه الفعاليات، معايير أصبحت أقرب إلى دليل عمل متبع وفي متناول الجميع، تحديداً المؤسسات الثقافية الناشطة في الحقل.
في فلسطين انتهى الجدل حول هذه الاشكالية، أو هو في طريقه الى ذلك. ثمة شروط محددة لدعوة المثقفين العرب الى فلسطين ينبغي التقيد بها، والتي تشمل اجراءات الدخول وآليات التحرك وبرنامج النشاط، وهو ما التزمت به مؤسسة محمود درويش وضيوفها كذلك وزارة الثقافة التي استقبلت عشرات الكتاب والفنانين ودور النشر، على سبيل المثال لا الحصر.
لم يعد ممكناً إلقاء التهمة واستثمار المصطلح والتخندق خلف مفردات مثل “المقاومة” و ” الممانعة ” وأشياء من هذا القبيل، الاحتكام يعود الى المعايير التي وضعتها ” لجنة مقاومة التطبيع ” بالشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، وفي قياس مدى التزام الجهات المنظمة بهذه المعايير.
خارج هذه المنطقة سيتحول الاعتراض إلى موضوع كيدي وميدان لإلقاء التهم لا أكثر.
الملفت للنظر في كل هذا هو حالة الانفصام التي تعبر عنها بعض هذه المواقف المعترضة على زيارة المثقفين العرب للأراضي الفلسطينية، لا أعمم هنا فثمة وجهات نظر تمتلك الحق في توضيح مواقفها التي تنبع من رؤية ” وطنية ” و ” شخصية “، وهذا يشمل مواقف بعض المثقفين العرب. المفارقة تنبع من تلك الاعتراضات التي تصدر عن أشخاص تمكنوا من “العودة” الى بلادهم عبر “اتفاقيات اوسلو” وفي سياق ملاحق الاتفاق سيئ الذكر، أو من أولئك الأشخاص الذين حصلوا على “أرقام وطنية” وبطاقات هوية ومخصصات مالية ثم غادروا بلادهم إلى بلدان أخرى ليواصلوا ” وطنيتهم ” وإرشاداتهم ووصاياهم من مناطق أكثر أمناً وبرفاهية معيشية لا توفرها ظروف الحصار القاسية في فلسطين. أو من اشخاص يتمتعون بامتيازات اتفاقيات أوسلو ونعمها وأموالها ويتحركون تحت مظلتها وبأموالها بما فيها بطاقات ” الشخصيات المهمة ” التي توزعها إدارة الاحتلال.
بالنسبة إلي وكما أشرت في مرات سابقة، الأمر يبدو مألوفاً ولا يبعث على الدهشة، فقد جرت العادة في بلادنا على إطلاق الاتهامات التي تحمل في ثناياها طاقة التحريض والتشهير ضد العديد من المؤسسات الفاعلة والرموز الثقافية بخفة لا نحسد عليها، إذ يكفي إطلاق “إشاعة” ما حتى تتحول في فترة قياسية إلى نظرية تمتلك مريدين وأنصار اًو حفظة.
وللحقيقة توفر هشاشة مصطلح “التطبيع” ومشاعيته حقلاً خصباً لمثل هذه الحملات المبنية ،أساساً، على نقص المعلومة وضعف الذاكرة الجماعية وحاجة البعض إلى ترميم حضورهم ومواقفهم.
غموض المصطلح ومشاعيته المطلقة واتكاؤه على “مرجعيات وطنية” غامضة يشكل منطقة اشباح غيرمحروسة تسمح بالإقامة والتخييم والاستعراض والتظاهر للجميع، بلااستثناء، وبعدالة عبثية، فهو يبدو مثل أرض غير مملوكة ومكان غير معرّف هناك تغييب للمعايير حيث يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون”.
المشاعية والخفة التي جرى فيها استخدام مصطلح ” التطبيع “، المستندة على فتاوى قادها يوسف القرضاوي ” شيخ الاخوان المسلمين “، الذي حضر بدوره إلى قطاع غزة، بموافقة ضمنية أمنية اسرائيلية، كما يعلم وكما نعلم، ليبارك انقلاب حماس، هذا الخليط الانتهازي من الخطاب القومي الخشبي والفتوى الدينية، الذي التقى فيه ما تبقى من بلاغة الممانعة وفتاوى جماعة الإخوان، استطاع أن يربك ولفترة طويلة أي حوار مثمر يتناول هذا الشأن الحيوي، والذي حسمته مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني ثم منظمة التحرير حين رفضت على لسان رئيسها محمود عباس فتوى القرضاوي وطالبت المحيط العربي والإسلامي بدعم الشعب الفلسطيني وكسر الحصار المزدوج المفروض عليه.
هذه المشاعية هي التي دفعت كاتباً اساسياً في المشهد الروائي العربي مثل المصري ابراهيم عبد المجيد ليطرح ما يشبه حواراً على موقعه في صفحات التواصل الاجتماعي، حول فكرة أن يلبي دعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية أو من مؤسسة محمود درويش لزيارة فلسطين والالتقاء مع قرائه ومحبي أدبه وأصدقاءه الكثر، أو الاعتذار خشية من شبهة ” التطبيع ” التي يلوح بها البعض من نوافذهم محذرين المارة والسكان والطيور من الوقوع في “الخيانة”.
سؤال ابراهيم عبد المجيد العلني الشجاع أثار بدوره جدلاً مسؤولاً في المشهد المصري الأكثر حساسية، حيث تشكلت هناك في مواجهة ملاحق اتفاقية “كامب ديفيد ” نواة مجابهة التطبيع ” الأولى، وشكلت حائط صد في وجه محاولات بث الدفء في العلاقات مع إسرائيل، تلك الفكرة التي تم نسخها بسذاجة ونقلها بحمولاتها وخطابها وزمنها لإسقاطها على الواقع الفلسطيني الذي يواجه الاحتلال والحصار والعزلة. 
وحتى لا نسمح بتسلل المآخذ عبر شقوق الفكرة فهذه ليست دعوة مفتوحة للمثقفين العرب بالتدفق نحو فلسطين، الأمر مرهون بالمعايير والأهداف التي اتفق بشأنها فلسطينياً، وهي واضحة ومعلنة إذ إن من محاذير عدم الالتزام بهذه المعايير تبديد الهدف من التواصل، وهو دعم وإسناد الشعب الفلسطيني المحاصر وكسر حصار الاحتلال، ومد الجسور بين فلسطين ومحيطها العربي لردم الثغرة الثقافية التي يحاول العدو توسيعها عبر عزلها عن هويتها وجذورها وامتداداتها.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *