الديكتاتور الثقافي


*فاضل السلطاني

منذ سنوات طويلة، وربما بالتزامن مع بروز الديكتاتور السياسي، نمت عندنا، وعندنا فقط بالطبع، ظاهرة الديكتاتور الثقافي، المحصن ضد النقد.

وكما للديكتاتور السياسي أنصاره ومؤيدوه المصفقون دائما، للديكتاتور الثقافي مريدوه المستعدون دائمًا للقتال دفاعًا عنه مهما فعل. وقد يكون الأمر أهون مع الديكتاتور السياسي، الذي يمارس ديكتاتوريته في بلد واحد. أما المثقف العربي الديكتاتور فتأثيره ممتد على الساحة الثقافية العربية من الماء للماء. الأول باقٍ بالقوة البوليسية، والثاني بقوة الهالة الثقافية والإعلامية. ومن المعروف أن بعضًا من الصحف العربية الكبيرة، لا تسمح بالمساس بمبدعين معينين، لأسباب منها الخوف أو التهيب من سلطتهم المعنوية الكبيرة التي اكتسبوها مع الزمن. أيضا هالة القدسية التي حصلوا عليها.
أين نحن من زمن طه حسين والعقاد، ومعاركهما التي ملأت صحف ذاك الزمان؟
قبل أيام قليلة، منعت صحيفة كبيرة مسؤول قسمها الثقافي، وهو شاعر وكاتب معروف، من الرد على شاعر ومفكر اكتسب مع الزمن هالة لا يمكن المساس بها، نشرت حوارا معه. وقبل سنوات، حصلت الحادثة نفسها في جريدة عربية أخرى، حين منع رئيس التحرير مجرد نقد، وكان نقدًا موضوعيًا بعيدًا عن التجريح – اطلعنا عليه حينها – حول عمل للشاعر نفسه.
ومن الأمثلة الصارخة الأخرى، التي لا تزال ماثلة في الأذهان، نشر مجلة معروفة كتب أحد أعضاء تحريرها كلمة قصيرة هادئة انتقد فيها زيارة شاعر كبير آخر لعراق صدام حسين أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وتسميته لأغبى وزير ثقافة في التاريخ، التاريخ العراقي في الأقل، بـ«وزير الشعراء». قامت الدنيا ولم تقعد آنذاك، وتدخل مسؤولون سياسيون كبار حتى نشرت المجلة اعتذارا في صفحتها الأولى عن نشر الكلمة بحق الشاعر.
تفصل نحو ثلاثين سنة بين الحادثتين. سقط أكثر من ديكتاتور، وتغير أكثر من نظام قمعي، لكن البنية الثقافية تبقى أكثر صلادة، فهي تنتقل من مرحلة لأخرى حاملة قيم المرحلة السابقة نفسها، هذه القيم التي شوهتها الأنظمة الديكتاتورية، وقلبت معادلاتها رأسا على عقب، لا تزال جوهريا كما هي. تركيبتنا الثقافية لا تزال تركيبة عمودية انتصب فوقها أشباه أصنام يطلون من فوق علينا بتنظيرات أشبه بالهذر انتهت صلاحيتها منذ زمن، ونتاج لا أحد يقرأه، ولكن لا أحد يستطيع أن يقول ذلك عاليًا.
وهنا، تكتسب الأسماء، وهي أسماء لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، سطوة فوق التناول في ثقافة هشة عمودية شبه شفاهية، تحب الهالات، وليس النتاج والرأي. إنها سطوة ثقافية لا تقل عن سطوة أي ديكتاتور. وآخر فضائحنا الثقافية أن يبرر واحد من هذه الأسماء، وهو رمز شعري كبير، قتل السائحين في تونس باعتبارهم «محتلين لشواطئ هذا البلد». مثل هذا الموقف ليس جديدا. فهو يقول ما يشاء لأنه فوق النقد. وهو محق في تصوره هذا، إذ لم يجد أمامه سوى التطبيل والتمجيد بغض النظر عن «الترهات» التي ينشرها. تمر مثل هذه المواقف ويجري السكوت عنها، لأننا كما يبدو بحاجة إلى «طواطم». المجتمعات المتخلفة بحاجة دائما إلى هذه الطواطم، سواء أكانت سياسية أم ثقافية.
_____
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *