عماد جانبيه
يركز حيدر عبدالله شومان في كتابه “الإسلام والعلمانية في العالم العربي”، على وضع المجتمع العربي باعتباره كان تربة خصبة للكثير من التيارات التي تغزوه من كل حدب وصوب، فيتفاعل معها، ويذوب في تفاصليها. ويعرض كيف تأسست التكتلات والأحزاب والمنظمات، والتي دخلت فيما بينها بصراعات وحروب… “إذ لا تكاد تجد بلداً عربياً واحداً إلا وفيه من يُعجب بالفكر الذي استورده داعياً إلى تطبيقه والسعي إلى السير باتجاه التجدد، والابتعاد عن كل قديم بال ورثه عن الأجداد”. ويعتبر أنه طالما كان الدين في العالم العربي عنوانه الاسلام في الغالبية العظمى من المجتمعات، كانت دعوة التجدد والتغيير تتجه مقابل هذا الدين بمبدئه، أو التصدي لكثير من تفاصيله التي تعيق حركة المستقبل في توجههم.
ويعرج المؤلف إلى أوروبا، فيرى أنه وبعد طغيان الكنيسة في القرون الوسطى وعبث السلطة الدينية واستغلالها، وبعد قيام الثورة الفرنسية سنة 1789 وامتدادها الأوروبي، وبعد القضاء على الدولة العثمانية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط البلدان العربية تحت سيطرة الاستعمار الغربي، بدأت تتضح صورة العلمانية كإحدى النظريات الغربية الوافدة إلى كنف المجتمعات العربية، مع تفاوت وهجها بين بلد وآخر وفئة وأخرى. ويعتبر ان العلمانية هي مصطلح ونحن نعيش فوضى المصطلحات التي يكثر تداولها في الاتجاهات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. وكثيراً ما يستعمل فيما يغاير المعنى الذي يقصد منه المتحدث به. فهذه الضبابية التي يعيشها مفهوم العلمانية لا تقتصر على عامة الناس، بل تتعداها إلى الكثير من المثقفين، يقول ايضاً كم هناك من متباه بالانتماء العلماني وهو في هذا التباهي والانتماء يرمي إلى التنزه عن الصراعات الطائفية أو المذهبية، وآخر يدعو من خلال ذلك الى شعار الانسانية وحقوقها الذي لا يقف عند أي نوع من التمييز الانتمائي وخصوصاً الديني منه، وآخر ينشد المدنية والتجدد في مقابل التخلف والرجوع الى الوراء، ليأتي من الطرف الآخر من ينعت ذلك بالالحاد أو الكفر أو العمالة للغرب.
ويذكر المؤلف أن إحباط الشعوب العربية ومشاعر الهزيمة التي تعيشها، بالإضافة الى بريق ماقدم من الغرب وما أحدثته النهضة الأوروبية من قفزة نوعية في كل مجالاتها مع تزامن ذلك اطاحة الواقع الكنسي ورجالاته، فقد كان للقادم من الغرب وقعه، وجندت الجموع للانضمام تحت ألويته، خصوصاً مع تهيئة الأرضية القائمة، والطاقات الجبارة التي سُخرت لذلك، ولا شك أن العلمانية كانت من أبرز تلك الأفكار التي ذاع صيتها وكبر حجمها.
ويطرح المؤلف بعض التساؤلات، ومنها: هل نرفض العلمانية لأنها منبت غربي غريب عن تربتنا وواقعنا والأصالة التي نفخر بها، فنوصف بالتقوقع والهروب بحسب قوله إلى التاريخ والماضي والتعلق بأمجاد السلف؟ وهل نتهم العلمانية باجتياحها، والاستعمار الغربي، لبلادنا ومجتمعاتنا من أجل القضاء على الاسلام واقعاً في حياة الأمة، نظاماً وحركة ووجداناً؟ وهل صحيح أن العرب الذين يعيشون الدونيّة أمام الغربي المتطور، مغرمون بإطلاق التهم التآمرية جزافاً لكيلا يصطدم تخلفهم بتطوره؟
ويسأل ايضاً: أفلم تقض العلمانية، بتغييبها الدين، على الحروب الطائفية التي أثقلت كاهل الغرب في أكثر من مكان وزمان؟ أفلا يتشابه موقف العلمانية تجاه حروب الغرب، الحروب العربية الدينية الواقعة أو التي من الممكن أن تقع؟
ويعتبر المؤلف ان لكل هذه الأسئلة مبرراتها عندما تنطلق في تشكيكها، وتحمل أجوبة تلائم توجهاتها. فهو أيضاً يبرز نقاطاً عامة تضيء على العلمانية بطريقة لا يكتنفها غموض بالشكل والمضمون.
في هذا الكتاب يعرّف المؤلف العلمانية وأنواعها، والاختلافات في الآراء والتعليقات، ثم كيف دخل هذا المصطلح أوروبا، ونشأة العلمانية في الغرب، ولمحة لعدة مراحل تاريخية عاش الغرب تبعاتها، وأيضاً تناول نشأة العلمانية في العالم العربي وتطورها، حيث مر على محطات تاريخية تزامنت معها. كما وعالج امتداد العلمانية في عصر الاستعمار للعالم العربي ومنهجيته، وواقع العلمانية بعد الاستقلال في الدول العربية، واتساع دائرتها على حساب الدين الاسلامي. وعرض ايضاً الفروق بين الاسلام والمسيحية التي تحدد موقفها من العلمانية وتوجهاتها. واختتم بحثه مستفيداً مما سبق من الفصول لاستنتاج الحكم الاسلامي في عدم قبول العلمانية. رأينا أن للوقائع التاريخية حيّزاً واسعاً في هذا الكتاب، ولقد استعرض شومان الآراء المختلفة التي تتصل بالعلمانية وما يدور في فلكها، معلقاً على ما قد يحتاج الى إشارة أو تنويه، فموضوع العلمانية يحمل في طياته عدة مواضيع، باختلاف مراحله، مكاناً وزماناً، وما يتصل به من جوانب تاريخية واجتماعية وفلسفية وغيرها.
وتضمن الكتاب أيضاً تعاريف عن العلمانية مختلفة أحياناً، سواء بين المناهضين للعلمانية أو المناصرين لها، وإن اتفق الجميع على القدر المتيقن من السلبية في حضور الدين الميداني، وتفاعله العملي، مع تفاوت هذه السلبية في توصيف ذلك الحضور بين السياسة، والدولة، والحياة عموماً. وفي ذلك تتجلى هذه الضبابية في فهم العلمانية كموقف يهدف إلى ابعاد الدين عن ساحة الدولة، والاقتصاد أحياناً، لنواجه حينئذ ما يسمى بالعلمانية الجزئية، أو المؤمنة، أو غير المتطرفة، أو يكون إبعاد الدين عن كل تفاصيل الحياة العامة والخاصة إلا من موقع محدود في الضمير والمكان، لتكون المواجهة أخطر وأعمق مع ما يسمى بالعلمانية الشاملة أو المتطرفة أو غير ذلك. وايضاً كان فيه من الآراء العلمانية العربية ما يتوقف عند مقولة فصل الدين عن السياسة. فيعتبر أن تجارب التاريخ والواقع المعاش أكدت وجود هذه العلاقة التي لا يمكن إلغاؤها أو تجاوزها، كما أكدت خطأ الشعار القائل ان لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة.
على أنه في الممارسة السياسية الدينية لا يخلو الأمر من محاذير. فالمسألة كما يذكر المؤلف فيما يتعلّق بالدين ليست بما يتمثّل بالعقيدة والإيمان والروحانية والوجدانية وما شابه ذلك. حيث إن للدين موقعه الذاتي الروحي الوجداني الذي يشكل أهمية عظمى في إنسانية الانسان، ولكن وقوع الإشكالية يكمن في التجلي الديني، فكرياً أو سياسياً أو اجتماعياً. تجلي يتمظهر في أشكال مختلفة للدين تعبر عن نفسها بأساليب مغايرة وأحياناً متناقضة، تتمثل في صراعها مع الدولة بوسائل العنف، وأخرى تبرر لها سياستها من خلال الاجتهاد في النصوص الدينية، وأخرى ترتمي في أحضان العزلة العبادية، بالإضافة الى تجليات أخرى يفرضها تزاحم الأحداث المتنوعة.
يختم المؤلف بأن العلمانية لن تبلغ مدى بعيداً في الوطن العربي، فبعد اجتياح العلمانية البلاد العربية وما بذلت من جهود ما زالت تصطدم بموانع كبيرة تحول بينها وبين ايجاد ارضية صالحة تبني عليها قواعدها الثابتة وصروحها الشامخة. فالعلمانيون في البلاد العربية في غالبيتهم الساحقة علمانيون جزئيون كما وصفهم شومان، حتى هؤلاء الذين يتأرجحون بين العلمانيتين نجدهم في أغلب الأحيان لا يدركون بعض التضمينات الفلسفية للأفكار التي يتبنوها، وهذا يعني أن العلمانيين العرب في معظمهم يؤمنون بالكليات والثوابت والقيم، مما يعني أن ثمة رقعة مشتركة بينهم وبين الاسلاميين والمسيحيين. وأن الجميع يقفون في خندق واحد ضد العدمية والإباحية الإمبريالية والعولمة، وكل ما يهدد خصوصية العرب وقيمهم وثرواتهم ومستقبلهم، بل ما يهدد الانسان ككل، وأن العداء بين الفريقين ليس له أساس فكري واضح.
– الاتحاد الثقافي