*إميل أمين
وسط الأحاديث الدائرة عن الأصوليات المتصاعدة، العنف المشتد، ودائرة الكراهية المتنامية في العقود الأخيرة بدعاوى دينية، يأتي هذا العمل الفكري الشائق للمفكر الفرنسي إريك يونس جوفروا «المستقبل الروحاني للإسلام»، عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، ليقدم صورة حقيقية عن الإسلام. أما المؤلف فهو مفكر وباحث فرنسي شهير في الإسلاميات. اعتنق الإسلام، وله من العمر 27 عاماً، بعد رحلة بحث في الديانات، حيث سلك طريق التصوف، وأصبح مختصاً فيه من الناحية الفكرية، ومحاضراً عالمياً، يقوم بالتدريس في جامعة ستراسبورج الفرنسية، بمعهد الدراسات الإسلامية والعربية، وله سبعة كتب، ترجم بعضها إلى العربية. وأما المترجم فهو الباحث التنويري السوري هاشم صالح، وقد قام بمراجعة الكتاب الدكتور أسامة نبيل، أستاذ الأدب الفرانكفوني والمقارن بجامعة الأزهر، وأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أوبرتا بإسبانيا.
يثير جوفروا بادئ ذي بدء علامات استفهام مهمة، خلال هذه الأوقات الحرجة التي يمر بها العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، وهي أسئلة من عينة: هل تغيرت الأمور؟.. وهل خرجنا من عصر الانحطاط؟
وفي مواجهة الانطلاقة الصاعقة والبراقة للعولمة، والتحديات الحاسمة لما بعد الحداثة، يبدو أن فكرة الإصلاح الإسلامي، كما مورست بنجاحات وإخفاقات متفاوتة، منذ أكثر من قرن، قد أصبحت عاجزة عن تقديم حلول لأزمة الثقافة الإسلامية في الوقت الحاضر. فما الذي ينبغي فعله؟
يذهب «جوفروا» إلى أن ما ينبغي فعله لإيجاد هذا الحل، وما نحتاج إليه فعلاً هو ثورة في المعنى.. هذه الثورة تتطلب التحول عن الماضي «واعتناق» فكر جديد… وإعادة الاعتبار إلى بحثنا عن العلاقات العامة والإرشاد «أو الآيات، كما يقول القرآن الكريم».
هذه العلامات تتجه نحو المعنى الأساسي للوحي والمشروع الإلهي، الذي يكمن داخله ضمنياً. فالهدف بالنسبة إلى الإنسان، هو أن يعود إلى أصله عن طريقه، حيث دفعه إلى أن يدرك دائماً بشكل أفضل معنى خلق الكون، وخلقه هو أيضاً.
أين الحلّ؟
والآن نطرح السؤال: هل نستطيع أن نتحدث عن أصولية روحانية، أو بالأحرى نزعة تأسيسية روحانية مضادة للأصولية الحرفية الشكلانية المسيطرة حالياً؟
يبدو أن الأزمات الراديكالية والشمولية التي تواجهها البشرية في الآونة الأخيرة كانت السبب في خروج مؤلف «جوفروا» إلى النور، حيث يرى أنه منذ الآن فصاعداً لم يعد هناك من حل «أفقي» لمشاكل كوكبنا، فالإنسان الحديث المشدود إلى أفق «التقدم» المادي البراق، قد أصبح مخرباً للأرض، وسارقاً لثرواتها وطبيعتها.
أنظر إلى ما فعله الإنسان الحديث بالطبيعة والبيئة، وهو بذلك يهدد وجوده على هذه الأرض، وكذلك وجود أنواع الحيوانات والنباتات الأخرى!.
نقول ذلك على الرغم من أن المفكر الفرنسي الشهير «توكفيل» كان قد نبهنا إلى مخاطر التقدم قبل حدوثها، وأخبرنا أن الأنظمة الديمقراطية بحاجة إلى الطاقة الروحانية، كي تقاوم الميل الطبيعي للإنسان نحو المبالغة في الأنانية الفردية والنزعة المادية والعقلانية الضيقة، ويقترب «جوفروا» من عمق ما يهمنا كعرب ومسلمين، حين يطرح السؤال: ما موقع الإسلام على خريطة الفكر؟
يؤكد صاحب الكتاب أن الإسلام نتاج الوحي النهائي والأخير لهذه الحلقة من حلقات البشرية، أو حتى للبشرية في كل حلقاتها، ولكن عندما ننظر إلى وضعه الراهن نشعر بأنه وضع تناقضي، فهو من جهة أسهم في ديناميكية انطلاقته الأولى التي تمثل معجزة حقيقية، ومساهمة فاعلة ورائعة في انبثاق حداثتنا، وهذه الحقيقة التي يرفض الغرب الحالي الاعتراف بها في الغالب، ولو أن بعض المستشرقين أصبحوا أخيراً يتنازلون بعض الشيء، ليقولوا إن حداثة الإسلام ظهرت بشكل مبكر جداً في العالم.
لكن… من جهة أخرى نلاحظ أن المجتمعات الإسلامية راحت بمرور الزمن تدخل في صيرورة بطيئة، من التكلس والتحجر والجمود، ونتجت عن ذلك ظواهر مختلفة ومتفرقة نرى كلنا تجلياتها اليوم، وهنا نصل إلى سر التناقض، مندهشين، فالدين الذي كان ينبغي أن يكون الأكثر تجاوباً واتساقاً مع الحداثة، بفضل الأدوات الثمينة التي يمتلكها كالاجتهاد مثلاً، قد انغلق على نفسه وعلى أمجاده الغابرة، فهل نحن إزاء إسلام منغلق في الآونة الأخيرة؟
يبدو أن هذا ما يقرره «جوفروا» الذي يقرر أن الإسلام قد انغلق على ذاته، وتقلص وجوده وتجربته التاريخية إلى مجرد رد فعل دفاعي خائف ضد الخارج، يحدث ذلك كما لو أن «عبقرية الإسلام» كانت قد نسيت من قبل مسلمي هذه العصور الأخيرة، فأصبحوا عاجزين عن حمل هذه «الوديعة» الإلهية، ويضيف «يحدث ذلك كما لو أنه كان ينبغي أن تقع فضيحة الإرهاب الأصولي الجهادي كي يستشعر المسلمون المعاصرون الخطر، ويشمروا عن سواعدهم من أجل ممارسة الإصلاح الديني الهائل الذي أصبح يفرض نفسه عليهم الآن، خاصة أنهم أصبحوا يعيشون عصر العولمة الكونية، ولم يعودوا معزولين داخل جدران بيوتهم».
ذبابة سقراط
مثل ذبابة سقراط يتساءل «جوفروا» بإلحاح عن السبب القائم وراء الانقلاب في العديد من المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وإلى ما آلت إليه الأمور… فماذا عن هذا؟
القارئ لسطور هذا الكتاب يوقن بأن مشكلة المسلمين المعاصرين لم تعد تخصهم بمفردهم، بل تهم الآخرين أيضاً، ولا ريب أن التجليات الدينية لهذا التكلس والتحجر الفكري الإسلامي التي تظهر هنا أو هناك، هي قبل كل شيء نتاج ظروف أو متغيرات جيوبوليتيكية وثقافية واجتماعية سلبية، أدت إلى توليد نوع من القلب أو الانعكاس على القيم الإسلامية الأولية.
هل يعني ذلك أن الخارج هو السبب دائماً في إشكالياتنا ومصائرنا وأقدارنا؟ بالقطع لا يمكن أن نلقي بمسؤولية الجمود والتحجر الفكري على العوامل الخارجية فقط، فالآليات الداخلية السائدة في الساحة الإسلامية، أي العوامل ذات الطبيعة الدينية، مسؤولة أيضاً عن التدهور الحاصل في الوضع الراهن.
يكاد «جوفروا» يصدمنا بوقوفه على بعض من هذه العوامل الداخلية، وفي مقدمتها ما يسميه «تحجيم العقل اللاهوني أو تقليصه إلى مجرد تكرار تبجيلي بشكل محض»، تكمن مهمته فقط في الدفاع عن الأرثوزكسية أو ما يدعى «بالعقيدة القويمة المستقيمة»، ونذكر من بين العوامل الداخلية التي ساهمت في تكلس الفكر الإسلامي وتحجره، انقباض العقل الفقهي وتشنجه، بعد أن كان طليعياً وجريئاً في بداياته الأولى، لكنه سرعان ما انغلق في نوع من الفتاوى المعيارية القسرية التي غطت كل الساحة الإسلامية، وشلت الحياة والطاقات الإبداعية شللاً.
تعددية إيجابية وأخرى سلبية
يأخذنا الدخول في لجة أفكار الكاتب إلى مفارقة مثيرة، ذلك أنه إنْ كان جوهر ولب الأصولية هو الأحادية والعزل والإقصاء والإبعاد، أي رفض الآخر، وتعظيم الأحادية، فإن مبدأ التعددية أو الشعور بالآخر كان قد فرض نفسه من جملة المبادئ العظمى المؤسسة للإسلام في بداياته الزاهرة.
لقد فرضت التعددية نفسها أحياناً من الخارج «أي تجاه الأديان والثقافات الأخرى»، وأحياناً تجاه الداخل «أي بين الفرق الإسلامية المختلفة تجاه بعضها البعض»… هذا من جهة.
أما من جهة أخرى، فيمكننا أن نميز داخل التراث الإسلامي، الأولى بين تعددية إيجابية وتعددية سلبية، الأولى تلك التي تبلورت من قبل المصادر أو النصوص المقدسة، وبالتالي شجع عليها أولئك الذين وجهوا الأمة وترأسوها.
أما التعددية السلبية، فهي تلك التي أصيب بها التراث الإسلامي أكثر مما اضطلع بها، أو رحب بها وتحمل مسؤوليتها، فقد حدثت بحكم الأمر الواقع داخل التراث الإسلامي، كما في داخل الأديان الأخرى، وقد أدت إلى انقسام المسلمين وتمزقهم إلى فرق وطوائف عدة.
يغوص «جوفروا» في عمق الوحدانية التي هي صلب العقيدة الإسلامية، ليخرج لنا برؤية مجافية ومنافية للأصولية السلبية.
وعنده أيضاً أن العقيدة الإسلامية الخاصة بالتعددية تنطلق من مبدأ منطقي يقول: بما أن الله في الإسلام واحد أحد وفريد في نوعه ولا شبيه له، فإن كل ما عداه، أي خلقه، مقذوف به في عالم التعددية والكثرة، لكن بما أن «الرحمة الإلهية وسعت كل شيء»، كما يقول القرآن الكريم، فهي تمنع حدوث القطيعة بين هذين المستويين: أي مستوى الوحدانية الإلهية، ومستوى الكثرة والتعددية في الخلق البشري أو سواه، ولا ريب أنه توجد جدلية خلاقه مهيمنة بينهما، وإنْ كانت ضمنية غالباً وغير صريحة.
ويقصد «جوفروا» أنه توجد جدلية خلاقة بين الوحدانية الإلهية من جهة، والكثرة التعددية للخلق من جهة أخرى، ولهذا السبب يميل المريد في الصوفية إلى رؤية الوحدانية في التعددية، والتعددية في الوحدانية بشكل متزامن.
يتوقف بنا صاحب الكتاب عند مسألة أدب الاختلاف في الإسلام، وهو في واقع الأمر باب كفيل بسد الذرائع أمام الأصولية أو الأصوليات المنغلقة، تلك التي تتمحور حول ضيق الأيديولوجيا والتباعد بينها وبين رحابة الإسلام الابستمولوجي المعرفي، بنسخته الأولية الزاهية والبراقة.
إن معنى الغيرية والقبول بالاختلاف، وروح الانفتاح التي ترافق كل ذلك، كانت خصائص تجلت في العالم الإسلامي إبان الفترة العباسية في بغداد بشكل خاص، والدليل على ذلك انعقاد مجالس المناظرات التي تشهد نقاشات ساخنة بين ممثلي مختلف الفرق الإسلامية المتنافسة، وكل ذلك يتم في جو من الحرية الفكرية المدهشة، بل ويشارك فيها ممثلو الأديان الأخرى، كاليهودية والمسيحية الذين يدخلون في صراعات مع المسلمين، بل وأحياناً كان يشارك فيها ممثلون لأديان غير المعترف بها من قبل الإٍسلام كالثنوية مثلاً. والمقصود بالثنوية هنا المانوية نسبة إلى ماني الفارسي صاحب عقيدة الصراع بين النور والظلام، وكان رجال السلطة أنفسهم ينظمون مجالس المناظرات هذه أو يشاركون فيها.
يصدمنا «جوفروا» بأسئلته عن واقع حالنا العربي والإسلامي المعاصر حين يقول: هل يمكن أن يقوم قادة العالم الإسلامي بذلك اليوم؟
هل يمكن أن يسمحوا بمناظرات علنية بين مختلف التيارات الفكرية والدينية؟ وهل يمكنهم أن يثيروا كل هذا الغليان الثقافي؟
ويجيب: «نشك في ذلك»، وهذا أكبر دليل على مدى الجمود الفكري الذي أصاب العالم الإسلامي بالقياس إلى العصر الذهبي المجيد…
حقاً… لقد كانت الشهية إلى النقاش عارمة جداً في ذلك الزمان، إلى درجة أن المناظرة أصبحت نوعاً أدبياً له نواميسه وقواعده.
ويتساءل جوفروا: هل ارتفعت أصوات الأصولية عندما غابت معالم التعددية التي عرفها الإسلام في بواكيره؟
يبدو أن ذلك هو ما حدث، بسبب اعتبار البعض أن التعددية الدينية والثقافية تعد ضعفاً… نقول ذلك رغم أن هذه التعددية كانت دائماً قد ميزت الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها، وهي تشكل جزءاً لا يتجزأ من عبقريتها، وهذه الأيديولوجيا المتزمتة السائدة حالياً تريد أن تتصور المعاش الإسلامي وكأنه كل متكامل، متراص وأحادي الجانب، لا علاقة له بتغير العقليات وتقلبات الظروف ومحن الأيام.
هكذا نلاحظ أنهم يخلطون بين الوحدة والنمطية، وهما شيئان مختلفان، الأولى إيجابية والثانية سلبية، الأولى مرتبطة بالروحاني، والثانية بالمادي.
إن تمجيد الظاهرة الإسلامية أو «تشييئها» على هذا النحو لهو أفضل طريقة لتفريغها من جوهرها الحيوي، ذلك لأن الإسلام يصبح عندئذ «لبوساً جاهزاً» للهوية أو للعصبية الدينية والطائفية.
هكذا يحدث أمام أعيننا نوع من العولمة الإسلامية التي تؤدي إلى تنميط الحياة الدينية والاجتماعية، فهل هذه العولمة أفضل ما نرتدي من العولمة الأميركية؟
يحق لنا أن نطرح هذا السؤال: هل وصلنا إلى ذلك العصر المظلم الذي تنبأ به نيتشه في كتابه: «غسق الأصنام»؟
وهو عصر تحيّد فيه المواقف النفسية نفسها بنفسها، وتصبح متشابهة ونمطية.
هل تطرد النزعة الإنسانية الروحانية للإسلام الأصوليات المنحرفة خارجاً، وتبسط مساحة عريضة للود المتصل وتبطل دعاوى الآخرين الزائفة تجاه الإسلام والمسلمين؟
صافرات «الفكر الأحادي»
يخبرنا «جوفروا» أنه في الوقت الراهن، نسمع صافرات إنذار «الفكر الأحادي» للإسلام المتشدد، والذي يطلق عليه «التكفيري»، وعلى الرغم من كون هذه الظاهرة تمثل أقلية في المجتمعات الإسلامية، فإن وسائل الإعلام الغربية وبعض القيادات السياسية تضخم من شأنها ومن وجودها الفعلي على أرض الواقع، وتقدم لها أكبر خدمة، وتؤدي إلى «تغذية» فكر أحادي الجانب «ذي نسخة غربية عن الإسلام… فالإسلام في رأي الغرب هو الأصولية، ولا شيء غيرها».
ما الذي يتوجب عمله إزاء هذا المشهد الملتبس والخاطئ شكلاً وموضوعاً؟
ينصحنا «جوفروا» بأنه ينبغي أن نناضل بذكاء ضد هذه الأشكال من التطرف، أو بالأحرى هذين الشكلين: أي التطرف الإسلاموي، والتطرف الغربي، والمؤلف هنا ليس الوحيد الذي يعتقد أنها لا تشكل إلا مروراً عابراً في تاريخ المجتمعات الإسلامية…. لماذا يقول ذلك؟
لأن الأصولية المتطرفة، ليست إلا رد فعل على ظروف حضارية معينة، أما (المادة الإسلامية الأساسية أو التراث الإسلامي الكبير) فلا تعني شيئاً للأصوليين. لماذا؟ لأن هذه المادة الإسلامية ذاتها كانت قد شكلت الأرضية التي نشأت عليها النزعة الإنسانية للإسلام.
يستشهد «جوفروا» بما قاله المفكر المصري محمد أحمد خلف الله من أن مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة هي قبل كل شيء مشاكل ثقافية. إنها ناتجة أساساً عن تصور خاطئ للرسالة القرآنية. بمعنى آخر، الخطأ ليس في الإسلام كدين، كما يزعم العالم الغربي، والإعلام منه بنوع خاص، بل في الفهم المبتسر والخاطئ الذي تشيعه الحركات السلفية المتشددة عن الإسلام. لا يمكن اختزال فترات الإسلام الكبير إلى مجرد هذه الحركات البائسة فكرياً وروحانياً وأخلاقياً.
تلك النزعة الروحانية الإسلامية التي يكرس لها «جوفروا» في كتابه هذا، كفيلة بإصلاح العطب في إشكالية الأصولية الإسلامية التي تنتشر في العالم اليوم بدرجات متفاوتة؟
الشاهد أن المؤلف يستخدم عن قصد مصطلح «النزعة الإنسانية الروحية»، لأنه يتيح لنا أن ندرك الفرق التناقضي بينه والنزعة الإنسانية الناتجة عن عصر النهضة الأوروبية، من المعلوم أن هذه النزعة الإنسانية الأوروبية كانت قد تشكلت كرد فعل على هيمنة الدين أو الكنيسة على النفوس والأرواح، وهي هيمنة كانت خائفة أحياناً، وهنا نكتشف شكلاً آخر من رد الفعل المضاد لرد فعل الأصولية الإسلامية، فهذه الأصولية مضادة للحداثة، وتشكل عودة إلى العصور الوسطى.
أما رد فعل إنسانية عصر النهضة فقد كان مضاداً لتدين القرون الوسطى، ومشكلاً للحداثة. لكنها، أي إنسانية عصر النهضة كانت تثبت الإنسان وتنكر السماء، بمعنى أنها من شدة تركيزها على الإنسان واهتمامها به نسيت الله…
على أن النزعة الإنسانية الروحانية في الإسلام، والتي يدعو لها الكاتب في مؤلفه هذا، هي على العكس، وتضع الإنسان في مركز المشروع الإلهي. إنها تهتم بالله والإنسان في آن معاً.
بمعنى آخر، إنها لا تضع الإنسان في مركز المشروع الإنساني المقطوع عن التعالي الروحاني، والذي ينظر إلى نفسه بكل غرور وتبجح، وكأنه مكتف بذاته، ثم يصل في نهاية المطاف إلى العدمية المادية وتدمير الطبيعة.
ضمن المنطلقات التي تثيرها صفحات هذا الكتاب المتميز، نلمس إشكالية تصاعد الأصوليات الإسلامية كحائط صد أمام الحداثة الغربية، فهل كان هناك فشل عربي إسلامي في مواجهة تغيرات العالم، دفع بنا إلى العودة إلى الخلف، ومحاولة الاحتماء بجدران التراث الإسلامي العالية، ولم يقدر لنا أن نستخرج منها سوى بعض المشاهد الراديكالية السلبية، وتوارت صفحات المثاقفة مع الآخر، وبحسب رؤية المؤلف، أنه في مواجهة الحداثة المفروضة من قبل الغرب، والمدعومة من قبل أعوان الاستعمار، تذبذبت المجتمعات الإسلامية، ويكاد المرء أن يقول إنها اهتزت وتأرجحت بين الانبهار بالغرب والتثاقف معه، عن طريق التقليد الببغاوي، وبين الحقد المكبوت عليه الذي انتهى أخيراً بالرفض المطلق له، وهكذا تأرجحت بين النقيضين.
الروحانية لفهم الآيات
ربما تكون الروحانية الإسلامية التي يتناولها «جوفروا» في كتابه هذا مسلكاً مهماً في عالم «ما بعد الحداثة»، ذلك أنها تخلق جواً جديداً، وتضفي على النقاشات القائمة معطى جديداً. إنها تقلب المنظور فجأة رأساً على عقب، وها هي العدمية المرافقة لما بعد الحداثة، ذلك لأنها تخلق جواً جديداً، وتضفي على النقاشات القائمة معطى جديداً. إنها تقلب المنظور فجأة رأساً على عقب، وها هي العدمية المرافقة لما بعد الحداثة تثير على الغرب، ويا للتناقض، ريحاً من الروحانية، بعد أن هجرته كل روحانية.
بالنسبة إلى المسلم الثائر على الأصوليات المتطرفة، والرافض لها، فإن هذه الروحانية تتيح له أن يفهم الآيات التي يبثها الله في العالم، كي يقرأها الإنسان ويتمعن فيها، وهي علامات أو آيات محيرة أكثر فأكثر، وإزدواجية غامضة، ولكى نزيل غموضها أو نشرحها، فإننا بحاجة إلى علم التفسير…
هنا تكمن كل مهمة علم التأويل الذي تحدث عنه الصوفيون، وهو علم يهدف إلى العثور على المعنى الأصلي الأولي لمفهوم الخلق والإسلام، والآيات القرآنية، إلخ… وربما أن البنى التقليدية للفكر والمجتمع والدين هي في طور التفكك، فإن الجرأة التأويلية وحدها التي تمكننا نحن من الاستمرارية في الحياة، انطلاقاً من المستويين البيولوجي والمادي…
في خاتمة هذا العمل الشائق فكرياً، يأخذنا »إريك يونس جوفروا» إلى منطقة عميقة الأثر، ومستقبلية إلى أبعد حد ومدى، تلك التي تتصل بالأصوات المتنوعة والمتناقضة التي تؤكد أن الإسلام سيلعب دوراً كبيراً مهيمناً في القرن الحادي والعشرين (البعض يقول كي يفرح به، والبعض الآخر كي يرتعب ويخاف»، بل ويصل الأمر ببعضهم إلى حد القول بأن «القرن الحادي والعشرين سيكون إسلامياً… والذين يقولون ذلك يستخدمون المحاجة التالية: يمثل الإسلام القوة الأخلاقية الوحيدة الموجودة في العالم، والقادرة على مواجهة العلمنة الزاحفة التي تحمل معها النزعة المادية العدمية، ويقولون إن الإسلام يشكل الجبهة الوحيدة المتمردة على الابتذال، أي على تغريب العالم، أو تعميم النموذج الغربي عليه».
إذا كان ذلك صحيحاً فهل سيتم بشكل إيجابي، أي عن طريق استشعار المسؤولية المطلع بها من قبل المسلمين؟ أم أنه سيتم بشكل سلبي عن طريق عدم قدرتهم على التأقلم مع المعطى العلمي الجديد؟
ويقصد بذلك عدم قدرتهم على مسايرة التطور.. ثم عن أي إسلام يتحدثون؟ هل يقصدون الإسلام المتزمت، أو الأصولية الراديكالية؟ فالكثيرون يرون في هذه الظاهرة الحديثة التي ولدت كرد فعل على الحداثة الغربية، على الرغم من أنها متغذية منها، وتستمد منها معينها، يرون فيها شكلاً تناقضياً من أشكال الدنيوية أو العلمنة، أي «علمانية دينية»، وأن لا مستقبل لها على الصعيد الروحي.
شهقة المحتضر؟
يضعنا «جوفروا» في نهاية كتابه أمام رؤية نستطيع القول إنها استشرافية، وتتعلق بالأصولية الإسلامية المعاصرة، فالواقع هو أن المراقبين والباحثين يرون غالباً الأصولية الإسلامية ظاهرة انتقالية عابرة، إنها عبارة عن شهقة المحتضر، بمعنى أن الأصولية بحد ذاتها موت، لكنه موت يرهص بالحياة الآتية أو النهضة المقبلة، فبعد الموجة الأصولية هناك ما بعدها.
يقول المفكر الإسلامي رضا بنكيران: «الأصولية الإسلاموية لا تعبر عن عودة الدين إلى الساحة، على عكس ما نتوهم، وإنما هي شكل جديد من أشكال استئصال الدين، فبما أنها نتاج التحديث والعولمة، فإن ديناميكيتها تابعة كلياً لزمنها، وأما راديكاليتها فعلى عكس ما توهمناه لفترة طويلة، لا ترهص بالعودة إلى الأصول الإسلامية الأولى، وإنما هي إسقاط على مستقبل ينبغي أن نموضعه أولاً على طول آثار العمران والتمدين والتحضير».
هكذا نجد لا عدمية تضرب الغرب في ماديته، كما تضرب المعاش الإسلامي في توعكه الحضاري الذي يولد الحركات الدينية المتزمتة، وفي كلتا الحالتين، نلاحظ أن الانحطاط له حدود يتوقف عندها، وفيما وراءها هناك موت أو انبعاث.
من القصود بـ «نحن»؟
لا يقصد إريك يوسف جوفروا فقط العالم الإسلامي في واقع الحال، وإنما العالم الغربي أيضاً، وربما البشرية بأسرها، وأفضل ما في هذا العمل أنه يقدم رؤية واقعية وعملانية وفكرية في ذات الوقت، لمواجهة الأصولية الشكلانية الحرفية المسيطرة حالياً، وذلك من خلال حثه جموع المسلمين، لا سيما العلماء والمفكرين إلى ضرورة البدء كمرحلة أولى بإعادة تفحص بعض الموضوعات أو القيم الأساسية في الإسلام.
وهو يقول ذلك انطلاقاً من أن فهمهما من قبل قطاع واسع من المسلمين، غالباً ما كان ناقصاً أو مبتوراً أو منحرفاً أو مقلوباً.
وانطلاقاً من العناصر الأساسية للعمق الإسلامي الصحيح فإن هذا الكتاب يحاول أن يجدد النظرة إلى الإسلام المتجاوز للأصوليات الضيقة المتصارعة، وبناء على ذلك يمكن أن يخرج، ليس بإصلاح الإسلام، وإنما «ترميم المعنى « أو تنقيحه وتجديده. وهذا الترميم يتيح لنا بعث المنهجية الإسلامية الأصلية من رقادها، ونفض الغبار عنها وتجديدها.
___________
*الاتحاد الثقافي