*معتز محسن عزت
خاص ( ثقافات )
لكل لغة بآدابها أناس يساهمون في عالميتها وانتشارها وتضمينها بجانب اللغات العالمية الأكثر شيوعًا في العالم حتى يعرف الجميع أن هناك لغة تحاول النفض عن نفسها عبر الأشكال الأدبية المختلفة ما بين الشعر والمسرح والرواية.
اللغة اليديشيية أو (اليديية) هي لغة تأسست عبر يهود شرق أوروبا و هي خرجت من رحم اللغة العبرية و يتحدث بها يهود ألمانيا و روسيا و بلغاريا و أخواتها من أوروبا الشرقية و أتى من رحم تلك اللغة و آدابها الكاتب البولندي الأمريكي اليهودي (اسحق باشيفيس سنجر) الذي ولد بإحدى القرى البولندية بالقرب من وارسو سنة 1902 تحديدًا في شهر ديسمبر.
كان سنجر ينتمي لأسرة حسيدية و هي طائفة يهودية قريبة من الصوفية و تربى سنجر في جو ديني أصولي كان رافدًا هامًا في رواياته للتعبير عن الطقوس و العادات و التقاليد اليهودية و كان متكئًا بشكل أساسي على التلمود و مزامير داود كمفاتيح سحرية من البداية حتى النهاية في رواياته الشهيرة.
اكتشف سنجر قريحته الأدبية وهو في الرابعة عشر من عمره مما أصاب البيت باكتئاب شديد وحداد عام حسب تقاليد الحسيديين بأن الأدب مخالفًا للدين و معارضًا للتقوى حتى أن أمه حزنت حزنًا شديدًا لدخول ابنها في عالم من وجهتها يتسم بالضلال وعدم الالتزام.
كانت الطوائف اليهودية المختلفة تروج لمشروع أرض الميعاد بفلسطين حسب حججهم التاريخية والدينية المشوبة بالمغالطات والمزايدات حتى يصلوا إلى المستقر بعد ألفي عام من التشرذم بين قارات العالم الست منذ الخروج الكبير من مصر والعراق و الشام مما أعطى لليهود فرصةً لتدعيم هذا المشروع مع الثأر من كل من تعرض لهم ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل أيضًا في أوروبا و خاصةً في جهتها الشرقية.
هذا ما وضحه سنجر في الكثير من رواياته و التي انصبت على بولندا وهي أكثر البلاد التي شهدت تشرذم اليهود و معاناتهم من أنظمة عدة في بولندا ما بين الملكية و الجمهورية و القيصرية الروسية و هذا ما وضح بشكل جلي في رواية (العبد) لسنجر التي كتبها في العام 1962 و التي تناولت معاناة اليهود من القيصرية الروسية حينما كانت بولندا جزءا منها و ذلك أثناء الحروب القوقازية في القرن السابع عشر من خلال شخصية (يعقوب) الفلاح اليهودي الذي يعاني من اضطهاد سكان القرية ليهوديته و في نفس الوقت يتعرف على الفلاحة المسيحية (واندا) التي أحبته و أحبها و يتزوجان رغم الخلافات الدينية مما يزيد من اضطهاد الناس له و تعلن القرية عن غضبها على واندا لما اقترفته من مخالفة دينية و يبرحونها ضربًا حتى الموت.
ينتقل (يعقوب) من العيش من قريته الأصلية إلى قرية أخرى متزوجًا فتاة تدعى (سارة) و تتوالى الأحداث في لحظات التأرجح ما بين النقيضين وعند توالي الأحداث يبحر بنا سنجر عبر التلمود و التوراة والمزامير من خلال يعقوب الذي ينهل من تلك المصادر وقت الصعوبات و الشدائد حتى لا يئن أو يهن عند الشدائد و معه (سارة) التي لا تتكلم و تعاني من الخرس، وأثناء المطاردة تموت (سارة) وتفتقد جثتها و يظل يعقوب يبحث عنها و معه ابنه الذي ولد منها إلى أن يطارد من قبل المضطهدين لليهود إلى أن يُقتل و عند حفر قبره يكتشف أن (سارة) هي واندا و يتم اللقاء بينهما عبر العالم الآخر كما اختتم الحاخام الرواية بتلك الترانيم من التلمود.
ينتقل بنا (سنجر) إلى العالم الحديث و المعاصر من خلال رواية (شوشا) تلك الشابة المعاقة التي تعد راوية و بطلة الرواية كشاهدة على عصر هام مر باليهود أثناء الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب مرورًا بمذبحة الهولكوست التي مورست عبر هتلر و تركت شرخًا كبيرًا في النفس اليهودية وهي الكلمة المفتاحية لروايات سنجر بعد ذلك.
انتقل سنجر في العام 1972 على الرغم من تأسيس دولة إسرائيل التي أعلن عنها في يوم 15 مايو من العام 1948 عبر (ديفيد بن جوريون ) في المتحف اليهودي بالقدس ولكن ظلت مذبحة الهولوكوست أنينًا مدويًا في عقل يهود العالم بما فيهم الذين أستوطنوا في فلسطين وكانت هي فحوى رواية (أعداء ، قصة حب) التي كتبها في العام 1972 عن الشاب (بنيامين) اليهودي البولندي الذي نجا من مذبحة الهولوكست التي وقعت ما بين عامي 1940 و 1941 و اختبأ بمزرعة مواشي ، حيث ساهمت في نجاته فلاحة تدعى (يادفيجا)، فيما قتلت زوجته و أبناؤه، فيقوم (بنيامين) بالزواج من (يادفيجا) الفتاة المسيحية القروية التي تزوجها و أخذت تفكر في اعتناق اليهودية من أجله و هي على علم بحبه من (ماشا) تلك الفتاة المتحررة التي حملت من زيجة سابقة وكانت والدتها تعامله كابنها و هنا أصبح في صراع بين الحب الحلال و العشق الحرام إلى أن تظهر زوجته (سارة) تلك الفتاة الشيوعية التي أخذت من الكيبوتس نموذج للشيوعية الحالمة و تتوالى الصراعات ما بين ثلاثة نماذج من الحب المختلفة (حب محرم – حب مبني على العشرة – حب مبني على النجاة و الإنقاذ).
تتوالى المشاكل لبنيامين إلى أن يختار حل تساؤل الوجودية هو و ماشا بالانتحار الجماعي و تقوم سارة برعاية يادفيجا و جنينها الذي تحمله حيث يعيشا ما بقي لهما من الحياة في سلام ووئام.
توالت أعمال سنجر الروائية و القصصية القصيرة التي تؤرخ أدبيًا لمعاناة اليهود حتى وهم في دولتهم من الخوف و الهلع من ذوبان الدولة في أي لحظة لبنائها على أنقاض الآخرين وهذا ما كان واضحًا في روايته (الضيعة).
توالت أعمال أب الأدب اليدييشي،وفاز بجائزة كبرى أمريكية مرتين 1970 و 1974 إلى أن توجت مسيرته الأدبية بالفوز بجائزة نوبل للآداب كأول كاتب باليديية و ثاني كاتب يهودي إسرائيلي حاملاً للجنسيتين البولندية و الأمريكية بعد الأديب الإسرائيلي (شموئيل يوسف أجانون) الفائز بها في العام 1966 مناصفةً مع الشاعرة الألمانية السويدية اليهودية (نيللي زاكس) و جاءت في حيثيات الجائزة لفوز سنجر الآتي:
(لما يحمله أدبه المكتوب باليديية لغة شاعرة تساهم في إبراز سمات العادات والتقاليد اليهودية البولندية ومدى تأثره البياني بما ورد في العهد القديم والتلمود والمزامير كنوع من التجسيد الأدبي في خضم الواقع الملموس).