*زليخة أبوريشة
شاع مصطلح “الفساد” في الأدبيات السياسيّة وفي الإعلام لدينا، ربما في العقود الأربعة الأخيرة، مع أن ليس للكلمة في تاريخ العربيّة حضور عنيف؛ فهناك فساد الطعام وفساد الرأي وفساد الدخيلة، و”يسعون في الأرض فساداً”؛ وجميعها بمعنى عكس الإصلاح والصلاح، والمفسدةُ عكسُ المصلحة.. أي أنه في تاريخ اللغة -كما أراه- مفهوم ليّن بسيط ذو بعدٍ واحد أو اثنين، بينما هو في المصطلح السياسيّ مفهوم مركّب له حيثيات وظروف من بينها استغلال الموقع أو الوظيفة لربح شخصيّ، والتجرؤ على المال العام، والخضوع للمحسوبية والواسطة والمنفعة الخاصة أو العائلية أو العشائريّة… وغير ذلك من تعقيدات. وبالرغم من أن لهذه الكلمة دلالاتها السياسيّة القوية، إلا أنها في الاستخدام اليوميّ ليس لها هذا الأثر الذي نجده لكلماتٍ أخرى، قد لا تعني الشيء نفسه، مثل “سرَق” و”سارق”، ومثل “لصّ” و”لصوص” و”لصوصيّة”. قال ابن منظور في معجم لسان العرب: قال “في قوله تعالى والسارِقُ والسارِقةُ… السارق عند العرب من جاء مُسْتَتِراً إلى حِرْزٍ (موضع مصون) فأخذ منه ما ليس له” (اللسان: سرق). وللكلمتين عند العرب تاريخُ مهانة ووصم، فاللص أقل الناس قيمةً في مجتمع العرب، فهو الذي يمدُّ يده إلى مصون من المتاع أو المال ويأخذه لنفسه، فهو إلى انعدام الأمانة، خسيس النفس وضيعُ الفعل منعدم الشرف. كما أن هذا الفعل له ماضٍ في تاريخ العقوبات التي تترك آثارها على جسد السارق مدى الحياة؛ إذ ليس قطع اليد (قديماً) إلا تعبيراً عن هول المعنى الذي تحمله الجريمة، وهول ما فعله السارقُ في كسر خلُق الأمانة التي هي خلاصة شرفِ الإنسان. فاللصُّ في تاريخ العربيّة البسيطة وتراثها اللغوي والقيمي أحقر الكائنات قاطبةً وأخسّها. وما تزال هذه المعاني في الاستخدام الشعبيّ تدور في فَلَك الحُرمة والحرام والتمتع بما ليس حقاً للحرامي ولا ملكاً له. فالحرامي هو ذلك الذي يقتحم الحُرُمات، ويجوس في أرزاق الناس مما ليس من تعبه ولا من عرق جبينه. إنه كائنٌ قميءٌ طحلبيّ يعيشُ على جهد غيره وشرف سواه. هكذا هو في نظر اللغة وفي نظر تراث أهلها.
فإذا عدنا إلى الفساد والفاسدين، وجدنا أن المصطلح بخلوه في اللغة اليومية الشعبية من دلالاته المركّبة السياسيّة، يكادُ يغدو أكاديمياً نظيفاً من تاريخ الاحتقار والإدانة الأخلاقيّة التي تحملها مفرداتٌ مثل اللص واللصوصيّة، والسرقة والسرّاق. وحتى الحكومة مستعدّة أن تمرّر اتهامها بالفساد أو بالفساد الإداري دون أن يزعجها ذلك كثيراً، على نحو ما كان الأمر في قضية تعيينات البرلمان من خارج تنسيبات ديوان الخدمة المدنيّة. فرنين كلمة “فساد” في مجتمعات ديمقراطيّة غير صداها في مجتمعات كمجتمعنا، الحداثة فيه وافدة لا متأصلة.
وعلى ذلك فإن المجتمع المدني والهيئات والأشخاص المعنية بمكافحة الفساد وحركات المقاومة والإصلاح، تستطيع أن تستعمل لغةً أقوى وأقرب إلى الشارع وعامة الناس، يفهمها عامل الوطن، مثلما تفهمها أم خالد التي تبيع الخضار المقطفة أمام المخبز: اللص، اللصوص، الحرامية السرّاق… بدل الفساد والفاسدين. ولن ننسى اللافتات التي رُفعت في محاكمات الفاسدين من جهاز حسني مبارك “الحرامي أهوه” والتي لخصت شعبياً الأشخاص اللصوص الذين تصرفوا في الأموال العامة كملكية شخصيّة. وليس المطلوب أن يُشفى غليل الناس بمقدار ما أن المطلوب تجليل اللصوص العامين بالعار إلى الأبد، حتى وإن صاموا وصلّوا وبنوا المساجد!
دعونا لا نفقد الأمل…!
____
*الغد