سارقو الكتب.. اللصوص الشرفاء


*مهاب نصر

حدث هذا بالفعل : صاحبة دار نشر تمر بشارع يكتظ بباعة الكتب والمجلات القديمة. على أحد الأرصفة تصطدم عيناها بأغلفة تعرفها، كتب صدرت عن دار نشرها لكنها مستنسخة من الطبعة الأصلية بورق أقل سمكا وغلاف أدنى في الجودة وبالطبع بسعر أرخص من الذي تعرض به دار النشر «كتابها». صرخت صاحبة دار النشر معتبرة أن هذه لصوصية واعتداء صارخ وعلني على حقوق الملكية الفكرية، تصورت صاحبة دار النشر أنها أمسكت باللص وأرادت أن تحمل معها جميع النسخ المستنسخة من طبعات الدار، لكن البائع صاح فيها بدوره وبلكنته المحلية «ايه.. انتم أصحاب المرسيدس.. خلوا الناس تقرا» كشّر البائع عن أنيابه لـ «صاحبة الحق» التي لم تتمكن بالطبع من حمل كتاب واحد مما اعتبرته «كتبها».

تعيدنا هذه الحادثة، القابلة في الواقع للتكرار، إلى مشكلة ما يسمى بحقوق الملكية الفكرية التي تواتر الحديث عنها بصورة ملحة منذ نهايات القرن الماضي، وأصبحت تعبيرا معتمدا في أدبيات الحوار الاقتصادي والثقافي على السواء. لكن الحوار الطريف بين الناشرة وبائع الكتب المستنسخة يضعنا أمام الظرف الخاص لمجتمع المعرفة في بلادنا، حيث يرتبط انتهاك حقوق الملكية باتاحة فرصة الكسب من جهة لموزعين وسطاء، وللقارئ الذي لا يملك الكثير لينفقه على قراءة كتاب، مع تراجع نسب القراءة أصلا في العالم العربي بصورة مخيفة، بينما يدافع «الرأسمال» عن موقف يبدو قانونيا، ولكنه يصب في مصلحة طرف واحد. 
أصحاب الحق الأصلي
الكتّاب أنفسهم (أي أصحاب الحقوق الأصلية في الكتاب) ربما لا يعترضون على موقف البائع ضمنا، فهم أولا لا ينالون من حقوق النشر الا الفتات، بل أحيانا ينفقون من جيوبهم على نشر مؤلفاتهم مقابل عدد من النسخ يحصلون عليها من دار النشر (200 نسخة غالبا).. حتى الجوائز الثقافية التي يفترض أن تتيح لقلة محظوظة من الكتاب أن تحصل على مقابل مادي يساعدها على الاستمرار والاستقلال يتردد الآن أن بعض دور النشر المنوطة بترشيح أعمالهم تشترط مقاسمة الكاتب في الجائزة في اتفاق غير رسمي معه. 
الكتاب لن يضاروا كثيرا مرة أخرى، لأن توزيع الكتاب حتى حين يتم بشكل غير رسمي، ستتزايد فرصه بتقليل السعر مما يتيح لهم تعويضاً معنوياً على الأقل في أعداد نشر لا تتجاوز أحيانا النسخ الألف. 
أحد الكتاب كتب على صفحته في الفيسبوك ساخراً:
لماذا تشتري كتباً مزورة من على الرصيف؟
1 – لأنها أرخص.
2 – كَيْدا في دور النشر التي تبيع الكتب بأسعار مرتفعة.
3 – وماذا تفعل عند تزوير كتاب لك؟ هل تشتريه وترشد الناس لشرائه أم تغضب وتبلغ عن هذه الواقعة بينما تواصل شراء الكتب المزورة؟
هل من الممكن أن تقوم دار نشر بتزوير كتابها لتحقيق رواج للكتاب؟
للقارئ كلمة
القارئ العربي أصبح شيئا فشيئا يعتمد ليس فقط على نسخ «مزورة» بل على امتلاك الكتاب بصورة غير شرعية عن طريق النسخ الالكترونية المصورة، والتي صارت تروج لها مواقع عديدة، تطرح للقراءة المجانية آلاف النسخ ليس فقط من الكتب حديثة الاصدار، بل لمخطوطات من الصعوبة بمكان الوصول اليها في نسخها الورقية. على صفحات هذه المواقع تتواتر تعبيرات الشكر والامتنان لـ «لصوص» الكتب الذين لم يقفزوا فقط فوق حقوق الملكية، ولكنهم اختصروا المسافات والعقبات المادية والرقابية وجاءوا بالكتاب إلى مقعدك.
الربح فقط
في المؤتمرين اللذين عقدهما اتحاد الناشرين العرب (أولهما في الرياض 2011، والثاني في مكتبة الاسكندرية العام الماضي) ركز الناشرون على أهمية الحفاظ على حقوق الملكية وحمايتها والترويج لها من قبل الدولة، وطالبت الحكومات في الوقت ذاته في توصياتها في المؤتمر الأخير بتشجيع الاستثمار في مجال المعرفة، عن طريق تخصيص مناطق تجارية محددة في المدن العمرانية الجديدة بسعر منخفض، وكذلك العمل على تخفيض التكاليف المرتبطة بإنشاء المكتبات ودور التوزيع. 
كانت القبس قد عقبت على توصيات المؤتمر الثاني، حيث كتبت «ان القائمين على النشر غير معنيين إلا بالحفاظ على الربح أو كيفية زيادته، ومن ثم لم تتطرق أي من توصياتهم تجاه الحد من استغلال الناشرين للمؤلفين، ولا أهمية إلزام الناشر بعمل عقود مع المؤلفين، وعدم تقاضيه مشاركات مالية، بل على النقيض بحثوا في دعم الدولة والمؤسسات الأهلية لهم، دون البحث في وضع معايير أساسية لصناعة الكتاب، بحيث تتم مقاضاة الناشر إن لم يلتزم بها، بدءاً من نوع الورق والغلاف ودرجة الألوان وعدد النسخ، وعدد حفلات التوقيع الملزم بها الناشر تجاه أي من الكتب التي يصدرها، وشكل التوزيع والإعلام عن العمل والترويج له، وعدد المعارض الدولية المحلية التي يجب أن يشارك فيها.
الدولة خارج الخدمة
لكن بعيدا عن التصريحات الشكلية هل تهتم الحكومات بالفعل بالترويج لكتاب، وهي ذاتها التي تضع العراقيل حول توزيعه والرقابة عليه بشكل متعسف، وتتبنى نظماً تعليمية لا تحتفي بالثقافة العامة، بل بالتأهيل الوظيفي المتواضع، وتعتبر الثقافة عموما هامشا ضعيفا في أجندتها؟
في تقرير نشرته العرب اللندنية العام الماضي كتب أزراج عمر عن تقصير وزارات الثقافة العربية التي تخصص ميزانياتها لأنشطة ذات طابع احتفالي (ندوات، مؤتمرات، حفلات استقبال..)، أما عن المؤسسات الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية «وفي صدارتها المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم» فقد أصيبت «بالجمود والتقهقر وتحولت إلى مستودع للمسؤولين المحالين على التقاعد أو لأولئك الذين يراد التخلص منهم من أجهزة الدولة المركزية» على حد قوله.
تنازل قسري
حقوق المؤلف منصوص عليها في القانون بوضوح، فالبند الرابع من قانون الملكية الفكرية يقول «للمؤلف وحده الحق في تقرير نشر مصنفه وفي تعيين طريقة هذا النشر. وله وحده الحق في استغلال مصنفه مالياً بأي طريقة من طرق الاستغلال ولا يجوز لغيره مباشرة هذا الحق إلا بإذن كتابي مسبق منه أو ممن يخلفه» ويؤكد في البند الخامس أن حق المؤلف يشمل نسخ المصنف بأي صورة كانت، نقل المصنف إلى الجمهور بالأداء العلني أو التمثيل المسرحي أو النقل الإذاعي أو العرض التلفازي أو السينمائي أو أي وسيلة أخرى، ترجمة المصنف إلى لغة أخرى أو تعديله أو تلخيصه أو شرحه أو تحويره بأي شكل آخر. لكن المؤلف غالبا لا يفيد من هذا كله في إطار تدني المبيعات والطلب على القراءة، فهو يضطر غالبا الى التنازل عن الكثير من حقوقه، وأحيانا جميعها، من أجل إيصال كلمته. 
تقرير عربي
ويضع التقرير العربي للتنمية الثقافية (2009) يدنا على عمق الأزمة «إن التطلع لطباعة مائة ألف نسخة من كل كتاب يتقاضى منها المؤلف حقوقه بنسبة بين 12/%20 تروج بشروط مقبولة في الوطن العربي وتصل إلى أولئك القراء المحتملين الذين يزيدون عشرات المرات على هذا العدد هو الطريق إلى التحرير الاقتصادي للكاتب من الحاجة وللإبداع وحركة الفكر وللثقافة من قيود القطرية ويساعد الناشئة من المؤلفين الذين لا يكلفون ما لا يطيقون من أجل نشر كتاب في كثير من الحالات.. إن علاقة المؤلف بالناشر في الوطن العربي تقوم على صيغ لا توفر بما فيه الكفاية مناخ الثقة المتبادلة ولا ترسي مبدأ الاطمئنان والتعاون لتحقيق أهداف كبيرة ونبيلة».
_______
*القبس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *