آسفة سيدي: لأنني لم أولد في الأندلس!


*نغوين موسى


– تخيلي مررنا بجانب (شرمولا) ولم يلفت له انتباهه!
قالتها بمرارة وقد اغرورقت عيناها بالدموع، حاولت التخفيف عنها، فالأمر ليس جللاً، لكنني في قرارة نفسي كنت أعلم حجم الألم الذي خلفه الرجل داخلها دون قصد منه.
(شرمولا) هو التل الأثري الموجود في جنوب بلدتنا الصغيرة المنسية (عامودا) التل الذي جار عليه الإنسان بنقل ترابه ليقوم ببناء بيوت جديدة, قبل غزو الأسمنت والحديد لأرضنا، فبذلك نكون قد ولدنا وكبرنا في حضنه، إنه الحضن الأكثر حناناً في تلك البقعة القاسية, وما يميزه عن غيره من التلال المحيطة التضاريس التي رسمت عليه, فقد شاخ مع مرور الوقت, حين تنظر إليه تشعر بروحه كأنه إحدى الأرواح القديمة التي تراقبك وتحميك، ترابه الأبيض الفاقد لونه, ولبنات الأبنية القديمة, والحجارة, وقطع الفخار المتناثرة حوله، وفي أسفله بقايا تنور قديم، تقبع بجانبه المقبرة، إنها قبور أجدادنا، جيراننا، أصدقائنا.. من نعرفهم، أو نعرف أهلهم، إنها ببساطة: مساكن أرواحنا .
وتلك الصغيرة التي شعرت بالحزن لأن زوجها لم ينتبه، الرجل الذي جال العالم من أقصاه لأقصاه، شوارع المدن الكبيرة، والشواطئ السياحية، زار المعارض العالمية، والمتاحف، حين أشارت له نحو التل التفت ليرى كومة تراب وبضع أشجار زيزفون في ذاك الصيف القائظ، وهو مشغول بالعودة لمدينته وعمله، والتجهيز لرحلته القادمة نحو آثار الأندلس وقصر الحمراء؛ ليرتسم على وجهه طيف سؤال، ويهز رأسه بلطف .
أما هي فكانت تمشي في أرضها، مع ذكرياتها وأرواح أجدادها، تستنشق هواء طفولتها وتجنح بخيالها صوب التل الذي اعتادت نعته بالعظيم، فهو أضخم صرح شاهدته أول مرة، أما الآن فهو عظيم لسبب آخر، أن له روحاً قديمة لا يمكن إنكارها، ولكن لن يشعر بها إلا ساكنو تلك البقعة الذين كبروا بين جدران صنعت من ترابه أو من سيحبه حقاً .
لقد جعلتني هذه القصة أفكر بالتعقيد في العلاقات الإنسانية، أن تجرح الآخر دون قصد، أن تقترب من مقدسات الآخر دون أن تنحني لها، أن تمر أمام بيته القديم ولا تظهر له الأسف لأنه هدم ولو لم ترَه أو تعرفه، أن تمر بجانب تله المقدس ولا تبتسم ابتسامة عريضة، وتعجب به، أن لا تستنشق عبير الزيزفون المغبر بتراب قريته وتتنفس بعمق، ألا تندمج مع الآخر لينشأ بينكما تاريخ جديد .
المرأة قد تسامحك على كل شيء إلا الاستخفاف بمقدساتها ولو كانت وهمية، فالمقدس هو ملاذ المرأة في هذه الحياة القاسية، تحارب به التعب والحزن والموت والحرب، أما مسقط رأسها فويل لمن استخف به! لقد لمست قدس الأقداس، تراب قريتها، بلدتها، مدينتها أروع تراب على وجه الأرض، الهواء معطر ولو كانت نسبة تلوثه هي الأعلى في العالم، بضع شجيراتها هي الغابة الغرائبية التي مشيت فيها إنها أرضها وعليك أن تحبها، إن إعجابك ببلدتها يشبه قولك لها إنك أروع امرأة خلقت على الأرض؛ لأن طينتك طيبة .
– أرغب في زيارة بلدتك كأنك تقول لها: أرغب برؤيتك !
للمرأة تفسير مختلف للأشياء والكلمات، إنها تضفي القدسية على كل شيء حولها كما تضفي لمساتها على محيطها؛ لذلك لن تسامح من يمر أمام (التل العظيم) ولا ينتبه له .
__________
*هافينغتون بوست

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *