لماذا نكتب عن أنفسنا؟




*ماريا بوبوفا / ترجمة : آماليا داود


خاص ( ثقافات )
” دعونا لا نكون ضيقي الأفق، فتوقع الأمانة من المذكرات لا يجدي نفعاً، ويستحق أن نتساءل ما النسخة والعالم الذاتي الذي اختاره الكاتب، لأنه هناك دائماً مجالاً للاختيار”، هذا ما كتبته الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا، وأضافت :
في أعماله، كل كاتب لمذكراته يترك صورة أسوأ أو أفضل للأشخاص الذين يعرفهم، جنباً إلى جنب مع رسم صورتين شخصيتين له. الجانب الأول يكتبه عمداً، أما الثاني فهو غير مخطط له، عرضي. وغني عن القول إن الأول هو أكثر إغراءً من الثاني، بينما الثاني هو أكثر صدقاً من الأول، وكلما كان الكاتب جيداً، وجب علينا أن نولي المزيد من الاهتمام لهذه التناقضات “.

لكن ما هذه الثنائية من السيطرة والاستسلام، الذي يجعل ازدواجية الصورة الذاتية فاتنة ومستمرة بجاذبيتها؟ لماذا نحن، ككقراء وكُتّاب، ننجذب بشكل مكثف إلى المذكرات ؟ من اعترافات القديس أوغسطين إلى غرق الإنترنت بالقصص الشخصية ؟ ربما يعود بعض ذلك إلى الحنين. 

لكن بالطبع هناك شيء أعمق من التصالح مع الذات، شيء أكبر من محادثة الأنا مع نفسها، والتي تفرض على الكاتب بأن يفتح قلبه وجروحه للغرباء، وتفرض على القارئ الغوص في القلوب المفتوحة وجراح الغرباء.

الجوهر الغامض لهذه الشيء كشفته المحررة ميريديث ماران في : لماذا نكتب عن أنفسنا : عشرون كاتب مذكرات يكتبون لماذا يكشفون أنفسهم (وغيرهم) باسم الأدب، خلاصة وافية من كُتّاب المذكرات مثل داني شبيرو، وآني لاموت، وشيري سترايد، ونيك فلين، وميغن دوم.. الخ.

الروائية وكاتبة المذكرات داني شبيرووومذكراتها عن الحياة المبدعة، وكانت مذكراتها من أكثر الكتب التي قرأتها حيوية، وتبدأ بتحريرنا من الاعتقاد الخاطئ أن كتابة المذكرات هي للتنفيس فقط : 
إنه سوء فهم أن يعتقد القارئ أن كتابة المذكرات تُكتب من أجل تطهير النفس من الشياطين، لكتابة المذكرات تأثير معاكس. فهي ترسخ قصتك في داخلك، إنها تتوسط العلاقة بين الحاضر والماضي عن طريق تجميد لحظة في الوقت.
مرددة مقولة أوليفر ساكس عندما حذر من تطويع الذاكرة، وتضيف :”فكرة الحقيقية في المذكرات هي فكرة سخيفة، الذاكرة متقلبة، ومتغيرة وفي حركة مستمرة، لا يمكن أن تتأكد من حقائق الذاكرة. 
_________

في رأي المحررة اورسيلا نوردستروم في كتابها الخرافي للأطفال تؤكد أن ” عقوبة الفنان المبدع ( هي ) الرغبة في خلق النظام من الفوضى”، أما شابيرو تكتب : ” أعظم الهدايا التي تقدمها كتابة المذكرات هي امتلاك وسيلة لتشكيل تلك الفوضى، وتجميع الأجزاء بجانب بعضها بحيث تصبح أكثر منطقية، إنه فعل سامي للسيطرة على فهم الحياة ككقصة لها صدى عند الآخرين. إنها ليست مذكرات فقط، بل أخذ تلك الفوضى وكتابة قصة منها، ومحاولة لصنع الفن منها،. عندما تكون كاتباً، ماذا ستفعل غير ذلك ؟ 
[…]
” إنها مثل ترقيع القماش، وخلق نظام ليس حسب الترتيب الزمني، بل العاطفي والنفسي “.
وتقترح شبيرو أن الأبعاد العاطفية والنفسية هي نسيج الحياة الإبداعية وغير قابلة للانقسام حتى من الجوانب العادية لحياة الفنان، من الضروري في الجهة المقابلة الموازنة بين العمل والحياة، وتلاحظ شابيرو: ” أنا اشعر أكثر وأكثر أنه ليس هناك أي تناقض ولا تخطيط بين حياتي الإبداعية وحياتي المنزلية؛ إذ لا يمكن لإحداهما أن تكون موجودة دون الأخرى، هناك هذه الحياة، وهناك الحاجة للغطس في ذلك المكان الذي يتوسع حينها، وهذا العالم كبير وشامل عندما أكون بداخله، مثلما العالم الذي من حولي. 
______

وقد اختارت شابيرو ان تساهم بنصائح أساسية للطامحين لكتابة مذكراتهم : 
” اعرف أهدافك من كتابة المذكرات. فإذا كانت أحدى الأسباب الانتقام فتوقف، فالكتابة الغاضبة، أو من المعاناة والخيانة، أو مهما كان حافزك، سوف تنتج قصة مفككة، تأكد من أن تكون لديك مسافة كافية من كتاباتك، بحيث تستطيع أن تفكر بنفسك كشخصية. 
[…]
وتذكر وأنت تحكي قصة. ليس كل شيء ينتمي… فقط لأنه حدث لك لا يجعله ذا صلة، عليك أن تختار بدقة ما ستكتبه وما ستتركه.
شريل سترايد تتحدث عن فرادة المذكرات : 
هناك الكثير من القوة في قراءة شيء، حيث يقف الكاتب وراء الجملة قائلاً : “هذا صحيح”؛ إنه رفض منعش للتساهل مع التواضع الزائف والذي يخفي في كثير من الأحيان التعصب لغرورنا الإبداعي، وتعتبر سترايد أن الحماسة التي تدفعها، هي التي تحرك كل فنان حقيقي : 
” أنا أطمح للعظمة. أنا أريد أن اكتب أدبا يحرك الناس، الذي ينظر إلى عيونهم ويصل إلى أعماقهم. ما يشغلني هو تحقيق مهمة الأدب، وهو أن يقول لنا ما معنى أن تكون إنسانا، وتغذيها الرغبة في إعطاء الجمال للعالم عن طريق بناء الجملة. أريد هذا بطريقة عميقة وجوهرية وأساسية، هناك ألم بداخلي ولا يهدأ إلا عن طريق الكتابة. 
[…]
وانا لا أتكلم عن الاعتراف بل عن الضرورة، عن قول الحقيقة الأعمق في اللحظة المناسبة وأن تطالب بذلك دائماً. 
[…]
كتاباتي لا تتوقف على قيمة الصدمة، أنا فقط أبوح بما يجب أن يقال في الكتابة لتصل إلى كامل إمكانياتها. أنا لا اهتم بالاعتراف. أنا اهتم بالمكاشفة. 
مرددة ملاحظتها السابقة :” عندما تتكلم بصدق، بصوت حميمي عن حياتك، أنت تتكلم بصوت عالمي “، وتقدم مشورتها للكتاب الطامحين :” الحبكة الأقوى في مذكراتك لا تعبر عن أصالتك، بل الاستفادة من عالميتك الخاصة، وهنا لا أقول أن لا تكون أصيلا في كتاباتك، لكنك الشخص الوحيد الذي يستطيع كتابة التجربة العالمية بطريقتك، ثق بذلك”. 
[…]
الكتابة الجيدة مبنية على الحرفة والقلب.. يجب أن تقوم بعملك، ويجب أن يكلفك كل شيء لتنجزه “. 
_______

أما آني لاموت، التي تكتب مواضيع غير معتادة وبسخاء حول مواضيع فوضوية كالحزن والصداقة، وكيف نصغر أنفسها بمحاولتنا لإرضاء الناس، وما الذي يعطينا معنى في عالم بلا معنى، والتي ترى المذكرات كعمل خاص لتقديم خدمة عامة : أنا أكتب المذكرات لأنني أملك رغبة لأكون حتى جزء صغير من المساعدة. أحب أن اكتب عن مراحل الشفاء، والتطور، عن التقدم في العمر، لنصبح ما ولدنا من أجل أن نصبحه لا أن نصبح ما وافقنا على أن نكونه.إنه نوع من الشيء التبشيري، لوصف الصورة الداخلية للشخص، وربما ربينا لكي لا نفكر بهذا أو نقوله، لكن في الحقيقة كل منا يشعر بها ومرت عليه وكلنا يعاني منها. اشعر أنها هدية علي أن أقدمها للناس، كأن أقول :” هذا كما يبدو بالنسبة لي، الذي يبدو أنك تحبه أو تثق به، كلنا كذلك، كلنا مدمرون، وكلنا محبوبون، كلنا نشعر كالضحايا، كلنا نشعر بأننا الأفضل .
وليس هناك عيب في ذلك، أي شخص تحاول أن تكون صديقه لديه العديد من الجراح في ماضيه.” 
________

أما ميغان دووم التي كتبت ” كيف نصبح من نحن ” والتي تقول عن نفسها إنها:” تكتب مقالات شخصية أكثر مما تكتب المذكرات “، والمهتمة بالخط الفاصل بين الحميمة وزيادة المشاركة : ” بالنسبة لي، كتابة القصص الشخصية يجب أن يكون من أفعال الكرم تجاه القارئ. إنها دعوة. يقول فيها الكاتب للقارئ ” تعال معي بينما أخبرك بعض الأشياء واكشف لك عن بعض الأفكار “، ” اقترب مني وسوف ائتمنك على أسراري، اقترب أكثر قليلا وسوف ائتمنك على بعض الأشياء “.
والأمل من تلك الأسرار أنها سوف تلهم القارئ ليكشف بعض مشاعره أو أفكاره الخاصة. ولا شيء من هذا يعني الإفراط في الشجاعة أومنح نفسك للآخرين،ولا يعني أن تقدم قصة حياتك بشكل غير محرر وغير معالج للقارئ كي يستوعبها. فهذا يدل على خلق سيء واستضافة سيئة. فعندما تكتب عن نفسك _ في الواقع أيضا عند الكتابة عن أي شيء _ الهدف هو تقديم المكونات الصحيحة في الأجزاء الصحيحة، أنت لا تغرق في محتويات المخزن، بل تقدم وجبة نهائية. 
وفي نصيحتها للكُتاب تأخذ دووم صفحة من كتاب جون شتاينبك كنوع من التنويه : 
خذ كل نصيحة مع حبة ملح، بما فيها نصيحتي، في الأدب كما في الحياة، النصيحة تعكس أكثر صاحبها وليس متلقيها، لذلك دائماً انتبه للمصدر. وإذا كانت نصائح جيدة لا تنسَ أن تشكر صاحبها.
_________

بالنسبة للكاتبة أ.م هومز فإن منبع كتابة المذكرات يأتي من ” الدافع لتنظيم المعلومات والخبرات _ لوضعها في وعاء، فقط لو نضع ذلك الوعاء جانباً بعض الوقت.”
لكن البناء الجيد للوعاء يتطلب تحطيم عنيف لصندوق باندورا. وبالنظر إلى تجربة مذكرات ” ابنة العشيقة ” ومذكراتها المقلقة عن لقاء والديها البيولوجيين بعد ثلاثين عاماً من إعطائها للتبني عند الولادة وتقول : ” لم أكن من ظننته، ومع ذلك لم أعرف من أنا. وكان من المثير للاهتمام أن أدرك مدى هشاشة هويتي. حتى لو كنتَ في الثلاثين أو أكثر من العمر، وكتبت مجموعة من الكتب، وتعتقد أنك تعلم من أنت، اكتشاف معلومات جديدة، زيادة أو نقصان في حكاياتك، قد تدمر كل ما تقف عليه.
[…]
بعد نشر مذكراتي، أكبر تحول لي هو أنني الآن اشعر بأنني شرعية، وأن لدي الحق في أن أكون على قيد الحياة، والحق في الوجود، لقد أحسست وأنا طفلة بأنني على الهامش، وكانت وسيلة غير مريحة للعيش. 
واحدة من الصفات العظيمة التي تشاركها المذكرات، وقوة الجذب التي تشدنا إليها، هذه حرفة الشرعية _ فعل يمنح الكرامة والشرعية لتجارب الغرباء عبر تجربة الكاتب الخاصة، وتصف ذلك هومز وتقول: 
كتابة مذكراتي كانت حدثاً غير سار، كأنني طبيب أفحص نفسي : هل تشعر بالألم هنا ؟ أي جزء يوجعك أكثر ؟ عفواً ! لقد جعلتك تنزف مرة أخرى.
وفي كثير من الأحيان فكرت أنني لا أريد أن افعل هذا. أريد أن أتوقف. 
والذي دفعني لكي أكمل أنني كنت أشعر بأنني أستطيع أن أضيف إلى المذكرات خبرتي وتدريبي على الكتابة، وإيجاد اللغة من أجل التجارب العاطفية البسيطة، والمذكرات أعطت صوتاً للأشخاص الذين لم يجدوا لغة تعبر عن تجربة تبنيهم. وقد أتاح لهم الكتاب أن يكتشفوا تجربتهم الشخصية من زاوية مختلفة، و/ أو تكون مشاعرهم تجاه هذا واضحة ومؤكدة. 
على الرغم من أن شكل المذكرات مصمم للشخصية العميقة، لكن مضمونها مصنوع من عالمية الدافع الإبداعي._شيء هومز تلتقطه بدقة : صناعة الفن تدور حول البشر ونفسيتنا : من نحن وكيف نتصرف وما نفعله للحصول على ما نريده، أنها اقرب إلى عظامك عندما تكون مذكرات، لكن بدونها العظام تبقى مجرد عظام. 
_________
المصدر : brainpickings

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *