السهروردي وإشراقه بين قتله وأنواره


*علي ياسين عبيدات


قتيل الرؤى
المقتول والشهيد والمُؤيّد بالملكوت، والزِّنديق وداعيَة الكُفر، وشيخ الإشراق والشافعي والشِّيعي الإسماعيلي والمُرتَدّ. وصفه ابن تيمية: “بالمقتول على الزّندقة”، وقال في قتله ابن حجر في لسان الميزان: “مقتولٌ لسوء مُعتقده”. وعلّق على قتله شمس الدين الذّهبي في سِير أعلام النبلاء: “أحسنوا وأصابوا”، أمّا ابن كثير في طبقات الشافعيّين فردّ قتله إلى انسياقه إلى علم الأوائل وشذوذه عن أخبار الآثار النبوية.
جدلٌ تضجّ به كُتب التاريخ والسِّيَر والأعلام والترجمات، لرجل واحد، هو النّطاسيّ الشاعر والعارف الفيلسوف شهاب الدين أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أمِيرَكا السّهروردي، ولد (549-1154 هـ) في مدينة سُهرورد التي تلتحف بالشمال الغربي من إيران، وهي منطقة جبليّة بين مدينتي همدان وزنجان، التصق به لقب المقتول لكي يميّزه الباحث عن “أبي النجيب السهروردي (1097-1168م) وابن أخيه شهاب الدين عمرو بن محمد بن عبد الله السهرورديّ (1145-1234م) صاحب كتابي (عوارف المعارف) و(رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية)”[1]
سلك طريق التعلم على أساتذة الفلسفة في زمانه، وكان شغوفاً بالعلوم العقلية، ومن شيوخه آنذاك الشيخ مجد الدين الحلبي. وقد كانت سهرورد في تلك الحقبة موطن الفلسفة وعقر دار المشكّكين والغرقى بالفلسفة اليونانية والعلوم العقلية، ورُمِيَت فيما بعد بمدينة الزّندقة نظراً لسقف حرية الاعتقاد السائد هناك، لكن السهروردي لم يشبع في هذا المناخ الفكري ومضى إلى أصفهان ليتعلم مِن أستاذه ظهير الدين الفارسي: (البصائر النّصيرية). وفُتِنَ السّهروردي برسالة (الطّير) لابن سينا وترجمها إلى الفارسية، وصال وجال بعد أصفهان في بلاد الشام ليَنزل دمشقَ وبعدها حَلَب التي كانت محجّ الفلاسفة وقِبلة الباحثين عن العلوم العقلية وعلم الكلام. وكان مجادلاً فحلاً بين أقرانه وصاحب رأي مستقل على الداوم، ممّا ملأ كأس الحاقدين عليه مبكراً لتحاك المؤامرات ضدّه، إلى جانب أنّ السهروردي كان فظًّا وغليظًا في حواره وسجالاته، وفق روايتي ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء (3/277) وابن الوردي في تاريخه (النجف 2/1969، 2/149).
وبدأت المكائد التي نظّمها فقهاء حلب وخصوم السهروردي تصل إلى السلطان الأيوبي صلاح الدين، والتي فحواها أنّ هذا الشيخ يسعى إلى تفتيت وحدة المسلمين بزندقته وكفره بينما تمرّ البلاد بمنعطف خطَر الحروب الصليبيّة، وهو بهذا يشكّل خطرًا على الأمة الإسلامية كلها. وكانت التهمة الرئيسة أنّه ينادي بالباطنية ويدعم الدولة الفاطمية والمذهب الشيعي الإسماعيلي، وصادق الفقهاء والقضاة على قتل السّهروردي وَوافق السلطان. وثمَّة رواية تقول بأنّهم خيّروا السّهروردي في طريقة الموت التي يريدها؛ فاختار أن يموت جوعًا وعطشًا، فمات وهو في الثامنة والثلاثين نهاية شهر ذي الحجة سنة 587 هـ /17 كانون الثاني 1193 وفق رواية ابن خِلِّكان وتحقيقه في وفيات الأعيان.
وقد تعدّدتِ الآراء في ضرورة قتل السّهروردي؛ ومنها رأي سِبط ابن الجوزي بأنّ صلاح الدين كان مُبغضًا لكتب الفلسفة وأرباب المنطق ومن يعاند الشريعة، ولعل بروكلمان الأقرب إلى الصواب، فهو يرى قتل السّهروردي بدوافع سياسية، إذ بدا مرتبطًا بأفكار القرامطة الذين يعادون الأيوبيّين. وبين روايةٍ وأخرى نجد حقيقة واحدة، وهي أنّ العارف الفيلسوف قُتل، تاركًا وراءه إرثًا فلسفيًّا لم يكتبه القدماء بأعمار النّسور التي عاشوها.
ترك الشاب القتيل خمسين مصنفًا عربيًّا وثلاثةً وعشرينَ مُصَنّفًا فارسيًّا وديوانًا شعريًّا صنعه وأصلحه وشرحه الدكتور كامل مصطفى الشيبي. ومزج في هذه الملاحم العقلية الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية والرؤى الزرادشتية والصّوفية الاسلامية بطرفيها العربي والفارسي، وهو من أشد فلاسفة الإسلام تعلُّقًا بأفلاطون، وحسبه فلسفة الإشراق التي اعتصرها من كل فلسفات الدنيا وملاحم العلوم العقلية وضروب المنطق والأديان والطوائف والمشارب الفكرية، وهنا أحاول أن ألخص كُليَّة الإشراق بشيء من التكثيف.
الإشراق بين المشارب الفلسفية

في الأصل والمَشْرَب
يقول السّهروردي في أحد أدعيَته: (اللهم يا قيّام الوجود وفايض الوجود ومُنزِلَ البركات ومنهي الرغبات، نور النور ومدبّر الأمور وواهب حياة العالمين، أمدَّنا بنورك، ووفَّقنا لمرضاتك، وألهمنا رُشْدك، وطَهَّرنا من رجس الظلمات، وخلِّصنا مِن غسَق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك، ومُعاينة أضوائك، ومجاورة مُقرَّبيك، وموافقة سكّان ملكوتك، واحشرنا اللهمّ مع الذين أنعمتَ عليهم من الملائكة والصِّدِّيقين والأنبياء والمُرسلين).
النُّور أساس الإشراق، وهو عند السّهروردي أصل التكوين والموجود في كل شيء أوجَده ربُّه، والنُّور هو مبدأ الوجود الحقيقي بالاستناد إلى ركن الإشراق الوارد في القرآن الكريم: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾[2]، وكذلك الحال، فالنور بدلالاته القديمة مُستَمدّ مِن صراع إله الخير (أهورمزدا) مع مُمثّل الشرّ (أهريمن) – يوازي الشيطان في الأديان السماوية – ضمن سجالات بينهما للهيمنة على العالم؛ فالأول نوراني والآخر باب الجحيم وسواد القلب وحُلكَة الخطايا. وفي الإشراق جُلُّ الوجود نور، وقد تكوّنت هذه الفلسفة من التجليات العرفانية التي تشعبت واختلفت أصولها ومنابعها، فبعضها زرادشتي منذ الأفستا وزرادشت وماني، ومن هذا ما قاله السّهروردي في كتابه (حكمة الإشراق): “إنّ قاعدة الإشراق هي طريق النور والظلمة التي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسب وفرشادشير وبزرجمهر ومَن قبلهم”.
وفي ملحمة الإشراق التي جاء بها السّهروردي شارحًا ومُبَيّنًا فلسفته الإشراقية مُقسِّمًا الطبائع إلى طبائع مُتكرَّرة ومُمتنعة، وهي الوجود المادي، وأخرى غير مُتكرّرة وهي النورانية العلوية. وثمّة مشارب يونانيّة تحدّثت عن الجلاء والتّجلي كما في المنطق الأرسطي والتوجّه العقلي الذي أحياه السّهروردي لتكوين رؤيته الإشراقية مستندًا ومخالفًا المشّائيين في آن، فهو مع التحليل العقلي والاستدلال المنطقي مثلهم، لكنه ابن حدوس وفيوض عرفانية لا ترى القيمة العليا إلا بوحي عرفاني وتجليات نورانية لا ينفرد العقل في تكوينها. ومن مواطن الاتفاق ما جاء على صعيدي التأليه والربوبيّة، ويمكننا القول إنّ المشائية ماتت في بطون البحوث والمعارف الإسلامية بعد رحيل روّادها المسلمين، أمثال يعقوب بن إسحاق والكِندي وابن سينا، ليكون السّهروردي آخر مَن قال ببعضها. ولولا إنكار المشّائية للعرفان وضروب التصوّف واستناد مَن قالوا بها على العقل والاستدلال في جملتها، لكان السّهروردي مشائيًّا صِرفًا، لكنه نهَل منها مع ما يعَزّز إشراقه ونبذ ما يخدشُ قيمتها الرّوحية بغلافه العقلي، والسّهروردي أّول مَن تحدّث بالإشراق وصاحبه كما يشهد هنري كوربان.
وعلى صعيد العقل والاستدلال أيضًا، نرى عنده تأثُّرًا كبيرًا بالمدرسة الأفلاطونية وكذلك انسجام رؤى الاستدلال مع أفلوطين وفرفريوس اللذين هما من أهم تلاميذها ولهما فضل كبير في صياغة فلسفة الإشراق واكتمالها في صدر السّهروردي. ولا تُنسى إسهامات أفلاطون في فصل الدين عن الفلسفة على خلاف العديد من التيارات الفكرية التي كانت تصبّ جام غضبها على مَن يحاول الفصل، وهذا ركن من استفادة السّهروردي وتعزيزه لإشراقه بينما يتأثر بالمدرسة الأفلاطونية، فقد كان ربوبيًا مُترعًا بانثيالات التّأليه، لكنه صاغ ما دون ذلك برؤيته الإشراقية، ليصنع بمدرسة أفلاطون ما صنعه بالمشائية، فهو يأخذ ما يعينه ويتغاضى عما لا يفيده ولا يتواءم مع رؤاه، ويعدُّ هذا حالاً من أحوال كل فيلسوف مستقل، يبحث عن أجزائه عند الآخرين بعد أن يحقق كُلِّيّته وقبله. ومن زاوية أخرى، يساهم في خصوصية مشروع السّهروردي الفلسفي ومصداقيّته واستقلاليّته أنّه قام بالمؤاخاة بين المشارب الفكرية والفلسفية والدينية من شتى بقاع الكون كمشّائية أرسطو ومرآتيّة أفلاطون وثنائية الخير والشر لدى الزردشتيين كما ذكرنا.
وثمة العديد من مشارب الإشراق التي استلهمَت الأفكار الشرقية القديمة باعتبارها تخليد نصيب النور في كل شيء منذ أن هبط الإنسان العاقل على الأرض من العالم العلوي إلى السفلي سعيًا للإحاطة بالمعارف والعلوم الروحية، ويمثل هذا الهبوط تشاركًا ودمجًا لرؤى الإنسان الذي يطمح لمعرفة الحقائق. وتتكشّف هذه الحقائق عبر إشراق السّهروردي، فهو يعتبر الحقيقة “شمس واحدة لا تتعدّد بتعدّد مظاهرها من البروج، المدينة واحدة والدّروب كثيرة، والطّرق عسيرة عديدة”. الشهرزوري (2/132-149).
رحلة النفس في صميم الإشراق
كانت النفس في بداية البحث عن الأنوار الإلهية دون جسد، وتسبح في ملكوت السماء وحتميّة الأرض وما بينهما وعليها، ويقسّم السهروردي هذه الأنوار إلى طبقات لكل طبقة منها أحوالها وغنائم أهلها وطقوسها. أبرزها عالم الإمكانيات الذي تغطي درجاته الأنوار، بدايةً من الأنوار القاهرية الطولية وحتى أنوار عالم البرزخ المنقسم إلى عالم الصياصي والشبكات وعالم الغواسق والأجسام، ولكل واحد منها حاله ومآله ضمن كيان نوراني. وعندما واجهت هذه النفس صعاب البحث عن الأنوار القدسية، توجّب أن يكون لها جسد لتواصل طريقها منهمكة بالتجلي وفتح أبواب الفراديس والسُكر بالفيوض النورانية، فتشكّل لها جسدًا يساعدها على استكمال طريق الكشف والتماهي مع العلوم الإلهية، “أوّل الشروع في الحكمة الانسلاخ عن الدنيا، وأوسطه مشاهدة الأنوار الإلهية، وآخره لا نهاية له”. الشهرزوري (2/132-149).
في موعد افتراق النفس عن الجسد ترتقي النفس بفناء الجسد إلى الملكوت العلوي لاستكمال اللذّة هناك بعد انتهاء دورها في الوجود، ليكون تخليدًا للعُرف الصّوفي بقاء ما بعد الفناء، “فلا ينتظم أمر الإشراقيين دون سوانح نورانية”.[3] وتمضي حركة النفس في محيط الأنوار بحثًا وتأثيرًا وتأثّرًا وكشفًا وإلهامًا بين معارج وكشف، وكل هذا بأشراطٍ رسَمَ السّهروردي عالمها بأدقّ التفاصيل في طبقات الإشراقيين وتفاصيل الإشراق التي رسمها بصورة كون آخر، “وهو يعتبر الشوق والعشق سرّ الحركة الجوهرية لكل الموجودات في العالم، فواجب الوجود هو غاية جميع الموجودات، كمالات (أنوار شارقة) طالبة لكمالاتها، ساعية إلى تحصيل ذلك الكمال الكلّي (نور الأنوار). هكذا في مجال الحركة نرى نظام الوجود، العلوي والأرضي، في صيغته الإشراقية، نظامًا حركيًا شاملًا. فكلّ وحداته، صعودًا ونزولاً، مشاهدةً وإشراقًا، متحركة في صورة نشطة دون انقطاع. ولكي تتجسّد نظريته فإنّه غالبًا ما يسنده بنصوص اختصّت بها رسائله، ومنها رسالة جناح جبريل”.[4]
وبين البقاء في الموجود والفناء في المطلق، تنهي النفس احتجابها بالسعي والمواظبة وتتكشّف لها الحقائق والمعارف بالأنوار العُلوية التي تسطُعُ عليها في علاقة ساميَة بين النفس جزءًا والنور المطلق كُلًّاً. بجاذبية روحية لا تفارق النفس التي تتنقّل مِن نشوة إلى أخرى ومِن معرفة إلى ثانية قبل العروج إلى الملكوت العُلوي والانغماس في المسرّة الأبدية والنشوة بالأنوار العُلوية. وبين هذه التفاصيل الدقيقة تنشأ علاقة صاحب النفس (الإنسان) بمالكها ضمن علاقة تشابكية تتشعب لتربط كل موجودات الوجود ببعضها، وتتفاوت المراتب بين هذه الأجزاء وفق القرب أو البعد عن الأنوار المُنزّهة في عُلوّها السابح والمُقدّس، “فلكل قهوة سكارى، ولكل بحر غرقى كم بين حائر في الظلمات زحزحَ عن نور الشمس وبين حائر أحرقه ضوؤها في قُربها الأقرب” الشهرزوري (2/132-149)، ويكون السبق هنا لمن نهل من أبواب وفراديس النورانية أكثر، فيقول مشتاقًا وعلى لسان مشتاقين يستظلّون بهوامش الأنوار الأبدية:
أبدًا تحنُّ إليكمُ الأرواحُ / وَوِصالُكم ريحانُها والرَّاحُ
وقلوبُ أهلِ وِدَادِكُم تشتاقُكُم / وَإلى لذيذِ وِصالِكُم ترتاحُ
وفي الإشراق تُكَلّلُ الأنوار العُلوية هالة أصحاب القلوب المُنيرة (العارفين)، وتلتئم أطراف الجسد الذي خُلق كمطيّة لكشف الأنوار في تشابكية حواسّ وسُبُلٍ تشكّل إدراك هذه الأنوار والانغماس بها، ضمن المهمّة الأزلية التي هبطت من أجلها النفس وبعدها جسد صاحبها لاستكمال طريق النور والسعي بين الأشعة القدسية، لتفيض النفس بما تستلهمه الحواسّ والعقل على رأسها، من الأنوار العُلوية التي هي عماد الإشراق للكشف وتجاوز الاحتجاب، وانتشاء النفس بالأنوار التي هي جِبلّة تكوين النفس، بينما تتهذّب وتكون خيّرة ماضية صوب مرادها، متقولبة بين مكثات الوصول إلى ذروتها الأبدية بغير هيئة، حيث منتهى التجلي وسدرة القيم والخلود. فيقول السهروردي فيما نقله الشهرزوري (2/132-149) ناصحًا من تعتريه حالات التقلّب وهو في مخاض انبثاق النور الإشراقي: “لا تتعجّب بشيء من حالاتك، لأنّ الواهب غير متناهي القوة، وعليك بقراءة القرآن كأنّه ما أنزل إلا في شأنك فقط. واجمع هذه الخصال في نفسك فتكون من المفلحين”.
يبقى العقل والاستدلال المنطقي والفلسفي من أهم الأركان التي تقوم عليها فلسفة الإشراق بنسبية كبيرة – ليست مطلقة -، لا سيّما أنّ الصبغة العامة لآثار السّهروردي تتلخّص في غير موضع بالعلوم العقلية “ومَن لم يتمهّر في العلوم البحثيّة، فلا سبيل إلى كتابي الموسوم بحكمة الإشراق. وهذا الكتاب ينبغي أن يقرأ قبله وبعد تحقيق المختصر الموسوم بالتلويحات”[5]، أما العنصر الرئيس للإشراق فيلخَّص في السّجيّة والجِبِلَّة التي جُبِلت بها النفس في أوّل هبوطها من العالم العُلوي بحثًا عن الحقيقة ولتنعم بالأنوار القُدسية، فهي مهمّة وأرضيّة صلبة لتتأتّى ثمرة الإشراق، ومِن هذا قول السّهروردي: “وأمّا أنت إذا أردتَّ أن تكون عالمًا إلهيًّا من دون أن تتعب وتداوم على الأمور المقرّبة من القُدس، فقد حدّثتَ نفسَك بالممتنع، أو شبيه الممتنع، فإن طلبتَ واجتهدت لا تلبث زمانًا طويلًا إلا ويأتيك البارقة النورانيّة، وسترتقي إلى السكينة الإلهيّة الثابتة”[6]. وحضر القرآن في غير موضع من آثار السهروردي بالاستشهاد والاستدلال ليكون النص القرآني غير منفصلٍ عن كُليّة النور وغير بعيد عن الإشراق وأحواله، “ومعنى قوله تعالى في كلامه المجيد: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾[7]، فالرجوع يقتضي سابقة الحضور، ولا يقال لمن ما رأى مصر: ارجع إلى مصر. وإيّاك أن تفهم من الوطن دمشق أو بغداد وغيرهما، فإنّهما من الدنيا، وقد قال الشارع (حب الدنيا رأس كلّ خطيئة)”.[8]
منذ إشراق السّهروردي، حتى المتأثرين به أمثال المير داماد (1040هـ/ 1631م) وتلميذه ملا صدرا (صدر المتألهين)، ما زالت فلسفة الإشراق ضمن اهتمامات محبي العلوم العقلية والمتصوّفة، وتدرّس في الأكاديميات اللاهوتية في الهند، وكانت الأبعاد الميثيولوجية التي أرسى دعائمها السهروردي مصدر إلهام للباحثين والمولعين بالفلسفة والعلوم والعقلية، ومن هذا أنّ رؤاه لازمت العديد من المثقفين الفرس تحت راية الكاهن الزرادشتي أدهر كيوان وحتى الآن.
خاتمة
منذ الفلاسفة اليونانيين المتأخرين أمثال فيثاغورس وفرفريوس وأفلاطون وأرسطو، يرى المحققون ماهية حضور النور عند هؤلاء بسبب إيمانهم بأنّ العلم نور يُشرق في قلب العارف بفعل عقله. وبعد أن امتزجت الفلسفة بالدين وعادت لتفترق ظهر العرفان بينهما، وتعدّدت مشارب النور بالاستناد إلى من يستقبلها وكيف يعكسها، فصارت المعارف الإلهية ضمن حدوس العرفان، واستمرّت العلوم المادية رهينة البحث والعقل بصورته التجريبية، وبينهما كان المنطق وحتى علم الكلام الذي ضرب المعرفة بالحجة والإقناع والدرس والدُربّة، وكل تيار من هذا وذاك امتاز برؤى أهله. إلا أنّ عرفان السهروردي وإشراقه كانا مزجًا بين العقل والقلب، والإيمان المطلق من منظور جزئي بكُلّيّة ما يلتئم، وتفرقة ما وصف تفنيد بطلان فائدته ولا مندوحة منه. والسهروردي أحد أعلام المزج والمؤاخاة بين العقل وعلم الظاهر والغيبيات فيما يتعلق بالاعتقاد وسائر ضروب الإيمان التي تفرّد بتآخيها وكان سبَّاقًا في هذا الباب، الأمر الذي أدى إلى تكفيره وضياع المُتَتَبِّع لإشراقه بين وثنيّته وإسلامه وانحرافه ودهريّته، لأنّ المناخ الفكري في عصره كان في بداية تقرّبه من الآخر والمشارب الفكرية الأخرى. وعلى الرغم من ريادته في العلوم العقلية إلا أنّ مزج الثقافات كان جديدًا واستهجنوه ككل جديد يدفع صاحبه ثمن ريادته فيه وبثّه، ليقتل السّهروردي بعد أنْ بثَّ وآخى.

[1] الشيبي، كامل. ديوان السهروردي المقتول. منشورات الجمل، بيروت، الطبعة الأولى، 2014، ص 7

[2] سورة النور: 35

[3] ر.ک. مجموعه مصنفات شیخ إشراق، شهاب الدین یحیی سهروردی. انجمن فلسفه إیران، تهران، 1397، ج 2، ص ص 12ـ13

[4] قلعه جى، عبد الفتاح. السهروردي مؤسس الحكمة الإشراقية. دراسات ومختارات، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2013، ص 136

[5] مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق، منشورات معهد علوم إنساني ومطالعات فرهنكي، الطبعة الثالثة، 1380 هـ ش، ج1، ص 483

[6] ديناني، غلام حسين. شعاع أنديشه وشهود در فلسفه سهروردي، منشورات الحكمة، د.ت، ص 47

[7] سورة الفجر: 27-28

[8] مصنّفات شيخ الإشراق، ج3، ص ص 462
________

*مؤمنون بلا حدود

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *