كريشندو الفقد الموجع



*أحمد الحسين التهامي


خاص ( ثقافات )
مقاربة نقدية لألعاب السرد ومفاتيح التأويل عند هوراسيو كيروغا
1 – العتبات الأولى:
– لماذا اخترت هذه القصة بالذات؟
لا يمكنني بالتأكيد إنكار أن دافعي لمقاربة هذه القصة؛ أقصد قصة الابن لهوراسيو كيروغا (1) والبحث عن مفاتيح تأويلها وبحث بنيتها السردية وتراكيبها بل وحتى سياقها التاريخي والتلفظي هو أولا تورطي العاطفي معها/ بها ؟! واعتباري إياها نصا قصصيا جميلا جدا ولكنه ليس كل شيء ففي نظري يحتوي نصها جملة من عدة نقاط للجذب وهذا ثاني أسباب رغبتي في اختيارها والكتابة حولها، أما ثالث هذه الأسباب فهو أنها تقدم لنا حزنا جميلا ومختلفا في آن !! حزنها يشرح بسهولة في ظني غرابة الأدب (2) كما أنه يطبع القلب بلذعة قوية تعلق بالذهن فلا تغادره، وهذا قد يعني أن هيوراسيو كيروغا الكاتب من الاورغواي قد يكون صنع متعمدا عامدا فخا للإمساك بنا متلبسين بلهفة القراءة الممتعة معذبين بإحساس الأب الفاقد !! وقد نجح في ذلك حقا فهي قصة لا تنسى كما أن غرابتها لا تنسى وليس من السهل العبور عنها إلى غيرها! وهنا يبدو لي من الملح الإجابة على سؤال الشك فهل تكون هذه القصة (النص المترجم إلى العربية)هي نفسها النص الأصلي (الاسباني) ؟ ! ؛بالنسبة لي موضوعة الأصل كذبة اخترعها اللاهوت وسوقها ذوي الياقات الباهظة لا معنى لها ولا تشكل أية إعاقة للدرس وفي ظني أن اسطورة النص الأصلي يجب بعد مضي كل هذا الوقت على قتلها المتعمد يجب إدراجها في القبر وتطهير الكتابة من ريحتها العفنة !! ومن ناحية أخرى فإن ما يدرس هنا هو النص العربي بترجمة صالح علماني، وبما أن هذا النص يمارس أثرا على القراء العرب وأنا منهم إذا فهو قابل للدرس …ولكن ما الذي يجعل عينة ما قابلة للدرس العلمي؟!أو ما الذي يجعل أخرى لا تقبل الدرس ؟! لا شيء عمليا يؤسس هذه أو تلك إلا تقدير الدارس نفسه ومن ثم قبول آخرين بما فعل !! وتقديره سيقوم في الغالب على اعتبارات تتعلق بمدى ملائمة العينة لدرسه وقابليتها لوضع أدواته خلالها.
وإن ما نحن فيه وبصدده بالنسبة لي ليس محاولة للمعرفة المطلقة والإمساك بتلابيب النص بل هو مقاربة فقط؛ والمقاربة كما يشرحها أستاذنا الدكتور المسدي هي: ((…تتضمن اعتماد منهج لا يشك في صلاحه في حد ذاته ولكن لا يجزم بخصب نتائجه سلفا عند تطبيقه في ذلك الظرف المعين) (3).
– خطة العمل :
سنبحث أولا اعتبارات السياق العام للإنتاج والتلفظ كما تقدمها نظرية التلفظ للفرنسي اميل بنفينست (4) ومن ثم سنعمل ثانيا على درس البنية السردية السطحية والعميقة للنص من خلال نظرية البنية العاملية لجوليان غريماس (5) ومن ثم سنسجل ثالثا ضبطنا بفضل ما سبق من نظريات وما خبرناه من أمثلة القص لبعض الخصائص الأسلوبية للقصة. ونعلق رابعا بطريقة تفكيكية على ما قد تثيره القصة من معضلات وإشكاليات أثناء مقاربتها النقدية.
– قراءة في اعتبارات السياق العام للإنتاج:
سوف نحتاج إلى معرفة أوسع بالنص نفسه وبظروف إنتاجه قبل قراءته كنص فقط؛ و نحن نقترح أن القارئ العادي (= غير المتخصص) لا يحتاج لقراءة قصة لمعرفة لا بسياق التلفظ والإنتاج ولا حتى معرفة بسيرة الكاتب ؛ ولكننا نقترح أيضا أن القراءة النقدية ستحتاج إلى معرفة هذين الاعتبارين لمعرفة اكثر ضبطا و تدقيقا بالنص نفسه واليات اشتغاله اثناء القراءة وان كنا لا نلزم غيرنا بإتباع نفس الاعتبار عند كل مقاربة فالمعرفة البشرية العامة والعلمية بالنسبة لنا علامتها الكثرة الأولية والإنشاء الدائم والهدم الدائم أيضا فكل ما نظنه اليوم ثابتا قويا قد يغدو غدا زائدا لا ينفع !! ؛ لذا سنلجأ للاعتماد على نظرية التلفظ لإميل بنفينست في الحصول على هذه المعرفة بشكل منضبط ودقيق ؛و لنظرية بنفينست خطوات في التعرف على النص وتجري عبر التعرف على الإمارات اللغوية التالية:
– التعرف إلى المتكلم /(المرسل)
-التعرف إلى المخاطب/( المرسل اليه)
-موضوع الخطاب/ (المرجع)
-موقف المتكلم من كلامه
-إشارات الزمان والمكان
اولا قضية المرجع /الموضوع:
تتحدث قصة هوراسيو كيروغا على فقدان الأب لابنه! ولكن ليس أي ابن؛ فهو تقريبا الشخص الرئيس الثاني في هذه القصة ويكاد عالم القصة يخلو إلا من بضع إشارات إلى غيرهما والأب الذي يفقد ابنه هو اب ضعيف النظرة والمعدة ومصاب بالهلوسة بحسب النص(6) وتقريبا يبدو عالم الاب كله متوقفا عند هذا الابن فانظر كيف يكون حاله ساعة فقده! وهذه في ظني مدار القصة إذ رغب الكاتب في تقديري في تصوير آلام الفقد المبرحة! ويظل مع ذلك سؤال معلق في ذهني لن أحاول الإجابة عنه الآن بل سأؤخرها إلى آخر الدراسة وهو هل هذا الابن يعين والده في الحصول على رزقه أم أنه كان يتسلى فقط بالصيد ؟ ! .والأمر المشكل هنا أن كيروغا لا يتكلم فقط عن فاجعة مأساوية لفقدان أب لطفله على هيئة تقرير سيرفع لقسم الشرطة أو لمحكمة أو لصحيفة بل اختار أن يكون كلامه مارا عبر قصة أدبية وهذه تختلف عن الكلام العادي وتفترض في سياقها المبدئي شرطين لازمين:أولهما المتعة وذلك يعني الاستسلام التام لهاجس الخوف من حدوث الملل عند القارئ ويلزم عنه الشرط الثاني القيام بجملة من الألعاب التي تضمن دفع الملل وتحقيق المتعة طوال النص وذلك ما سوف نتعرض له بالتفصيل لاحقا في أوانه.

ثانيا: السياق التاريخي والسياسي لإنتاج الخطاب:
تقع تجربة كيروغا الحياتية والأدبية شديدة الحزن على خلفية صراع سياسي دامي شهدته الاورغواي طيلة شباب وحتى كهولة كيروغا(7) ولكن ظهور اللون القصصي نفسه وانتشار الجمعيات والمنظمات الأدبية يدل على أن البلاد شهدت فعلا الكثير من أزمنة الاستقرار والثبات إلى حد ما وهذا يعني أن هذا النص لا بد أن يدرج في خانة المنتج الأدبي لدول العالم الثالث المضطربة والنامية في نفس الوقت !! وعلى الرغم من أن فترة حياة كيروغا 1878 م – 1937 م هي تقريبا معاصرة لفترة سيادة بريطانيا على العالم وزيادة التفوق الأوربي العسكري إلى مستوى غير مسبوق(8) وعلى عكس أغلب حالات بلدان أمريكا اللاتينية فإن هذه الفترة لم تكن فترة كساد اقتصادي في الاورغواي بل بالعكس كانت مرحلة نمو في تربية الماشية واستقدام سكان جدد من اوربا(9)ولكنها شهدت أيضا صراعا سياسيا كبيرا وربما هذا ما يفسر إلى حد ما رغبة كيروغا في الهرب إلى مقاطعة ريفية مثل ميسونيس التي تجري فيها أحداث قصتنا موضع النظر.

ثالثا:من هو المتكلم:
هوراسيو كيروغا ربما يجب أن نذكر ليس فقط تجربته الأدبية الواسعة والهامة ممثلة في إحدى عشر مجموعة قصصية فقط (10) بل أيضا تجربته الحياتية الخاصة إذ تمثل بذاتها رواية حزينة مليئة بالمفاجآت والكوارث والتقلبات الشديدة حتى أنه اصطدم بالموت أربع مرات مختلفة في حياته وأثرت كل مرة بقوة فيه ولكنه أيضا وهذا أمر بالغ الأهمية شغل بالنقد وألف فيه ثلاث دراسات إحداها ذات عنوان دال ومهم وجدير بالنظر في إطار دراستنا الحالية حيث عنونها بـ( بلاغة القصة القصيرة/ 1928 م) وهذا يؤكد أن ما نذهب إليه من وجود مزايا وخصائص اسلوبية محددة له ما يثبته في حياة كيروغا نفسه؛ و نرجح أن كيروغا كان واعيا جدا بهذه التقنيات القصصية بسبب اشتغاله النقدي هذا، وارتباطه بجماعة من الأدباء والكتاب بل لقد كتب ايضا نصائح للمهتمين بكتابة القصة (11) ولخصوصية نصه هنا نشير إلى ان الموت بانطلاق رصاصة صدفة من بندقية صيد كان خاتمة حياة والد كيروغا (12) وهذا كاف لربط حياته الشخصية بالقصة موضع الدرس ولكن من ناحية أخرى تسبب هو نفسه بإصابة أحد اصدقائه برصاصة صدفة في مرحلة أخرى من حياته ؛ كما أنه اقام في ميسونيس التي تجري الاحداث فيها واشترى بها مزرعة وتزوج هناك اضف إلى هذا كله ان ثمة جملة ذات وقع خاص جدا في قصته تستدعي كل ما هو ( خارج-نصي) إلى داخل النص هذه الجملة هي:( القوى التي تسمح باستسلام اب مسكين مهلوس ..)(13) وهي وان بدت كملاحظة عابرة إلا أنها تطرح أسئلة كثيرة تبقى معلقة دون إجابة واضحة من بينها السؤال عن اهمية الظرف الاقتصادي والاجتماعي للكاتب كيروغا نفسه ؟ ! ومن ثم نفس السؤال عن بطل قصته أيضا ؟! . السؤال عن الخلفية الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم سلوك الأب وسلوك ابنه ؟! ..
ثالثا/ ب: كيف يجلي المتكلم نفسه ؟:
ثمة مستويين متآلفين يظهران المتكلم / السارد في هذا النص عبر ضمير واحد هو ضمير المتكلم ويعملان معا على تصعيد انطباع واثر موحد لا يكتمل إلا باكتمال القصة نفسها وهما:
1- في مستوى الوصف والسرد: حيث يلعب ضمير المتكلم في الغالب دور كاميرا محايدة تكتفي بنقل الحدث الخارجي فقط او تعرض شيئا من تفكير الاب وهذان هما الخطين المسيطرين على اغلب اجواء القصة ومساحتها.
2- في مستوى الاحكام خارج السرد: يمكن ان نسميه مجازا مستوى ايقاف السرد اذ ثمة جمل تقطع الوصف وتقطع السرد أي تقطع الخطين المشار اليهما اعلاه وهي تقريبا جمل نادرة تكاد تعد على اصابع اليد الواحدة لكنها مشحونة بقوة بملاحظات و احكام وشحنات شعورية لضمير المتكلم (السارد) تدين بشدة وبعاطفة جياشة الحال التي وصل اليها الاب وتعمل في نفس الوقت على الحفر العميق للأثر النفسي الذي تخلفه عبارات المستوى الاول (مستوى الوصف والسرد) في نفس القارئ من هنا يمكن استنتاج ان كيروغا يكتب قصته هذه وهو منشغل طوال الوقت برد فعل قارئه و ايضا انه يعرف جيدا ان ما تحفظه الذاكرة الانسانية لفترات طويلة هو الحدث مصبوغا بالمشاعر القوية فالفن رقصة مشتركة يرقص فيها الكاتب صحبة قارئه !.(14).
رابعا:من هو المخاطب في هذا الكلام؟
الطرف الثاني في هذا الكلام هو القارئ افتراضا وهو لا يظهر في النص ولكن يمكن استنتاجه وهو قارئ محدد بشكل دقيق جدا فهو قارئ عاطفي جدا و إلا ضاعت كل تلك الجمل العاطفية المؤثرة دون جدوى! وذلك يعني ان القارئ المستعد لتقبل ثم اظهار العاطفة هو الاكثر قدرة على التواصل مع هذه الرسالة وهذه تبدو صفة عامة ومنتشرة جدا ولكن يمكن ايضا وضع حدود جغرافية واجتماعية وتاريخية لانتشارها من غير ما تعقيد كبير خاصة اذا ما قورنت ضمنا بأعمال اخرى من بلدان اخرى اكثر تقدما (البلدان الصناعية حيث القص يبدو عقلانيا جدا وباردا جدا) ومن المعروف ان العواطف الدافقة هي المنتج الرئيسي لأبناء العالم الثالث خاصة ابناء الطبقة الوسطى منهم فيما يميل سكان العالم الصناعي إلى احداث اكثر هدوء واقل عاطفة وهذا يعني ان ترجمة هذه القصة ستلاقي انتشارا واسعا لدى سكان العالم غير الصناعي وقراءة سيرة حياة كيروغا تعطيك انطباعا بأنه كان يعرف هذا القارئ جيدا؛ فقد سبق صدور مجموعة الحب والجنون والموت عام 1917 م التي ترد ضمنها القصة اصلا؛ نشر العديد من القصص الناجحة لكيروغا وبالتالي يمكن القول انه سبق له وجرب القراء وحدد صفاتهم وحين نربط هذه المسالة بالسياق التاريخي والسياسي وحياة كيروغا فأننا نفهم لماذا اقام في الارجنتين وليس في بلده الام؛ فقصصه كانت تقريبا قابلة للرواج لدى الملايين من سكان امريكا اللاتينية ومن ثم يمكن تعيين قارئه المفضل على انه امريكي لاتيني ذو اصول اوربية وهذا المعطى نفسه يفتح نصوصه على بقية سكان العالم الغير صناعي فهم انفسهم تلقوا بشكل او بأخر تربية ادبية ذات منشأ اوربي! وهذا قد يسهم في تفسير الولع العربي الحالي بقصصه .

خامسا : زمن التلفظ:
— يكاد يكون زمن المضارع |(الحاضر) هو زمن الفعل المسيطر على النص ومن امثلة ذلك الجمل التالية( الطبيعة تشعر ..) ؛ (كان الاب يفتح قلبه ..) ؛ (يوازن البندقية في يده ؛يبتسم لأبيه ..) ص 19 من القصة الاسبانو امريكية؛ ولكن هذا الفعل المضارع ليس مضارعا حاضرا دائما بل هو مجرد صيغة نمطية مسيطرة تم من خلالها التوجه إلى ازمنة اخرى غير الحاضر؛ فحتى ماضي الابن تم التوصل إلى حكايته عبر مفتتح الفعل المضارع ..(انه يعلم أن أبنه الذي تربى منذ طفولته ..) ص 19؛ ومن ثم فان صيغة المستقبل من الفعل المضارع هي من ترسم طريق الابن إلى رحلة الصيد (سيمضي ابنه بمحاذاة حد نبات الصبار…)ص 20؛ حتى تصل به إلى تذكر اخر حيث يظهر الفعل الماضي مكملا رسم الصورة (أي زوج من البلشونات ؛مثل تلك التي اكتشفها صديقه اخوان قبل ايام) ولعل ذلك مبرر جدا فالفعل الحاضر هو علامة وجود الراوي/السارد الان في لحظة القص ؛ اما الفعل الماضي وصيغة المستقبل معا فتعملان على لفت النظر إلى كون ما يقص هو خيال تقريبا وتذكر فقط وانه ..لن يحدث ! !؛وعلينا ان ننتبه جيدا إلى ان احدى اهم العاب السرد في هذه القصة والتي تضفي على القصة الكثير من التشويق هي لعبة زمن؛فالقاص يتعمد اخفاء متى انطلقت الرصاصة المدوية التي سمعها الاب لأنه يريد استثمارها لاحقا انما يكتفي بإيراد الجملة التالية (يستغرق الرجل في عمله ..)ص 21 وحين نعاود من جديد الالتقاء بالأب يكون قد مضى وقت لا نعلمه.
— و في القصة لحظات زمنية مميزة و لافتة للنظر من بينها هذه ( فجاءه يتوقف ضوء الهاجرة؛والأزيز المداري؛وقلب الاب ؛تتوقف كلها على ايقاع ما فكر فيه) ص 22 هذه اللحظات تضعنا ازاء ابطاء متعمد و مقصود في الزمن ؛ والإبطاء تقنية شكلية درست منذ عشرينيات القرن العشرين على الاقل(15)؛ و استخدامها يشير إلى اثر هام ودال ؛فهذه اللحظات بالذات ستكون جديرة بالاهتمام بها لأكثر من مرة ؛ اذ ستلعب دورا اساسيا في فهمنا للنص؛ ووفقا لها علينا الاستماع لأمر الكاتب بالتوقف عندها لفحص دلالاتها المتعددة والتي من بينها: الرغبة الجامحة للكاتب في تثبيت الزمن المضارع الحاضر حيث يجتهد في اعادة نفس الاثر في اكثر من موضع في القصة مثل هذه الجملة (هذا الرجل لم يناد ابنه بعد ) ص 23؛ او هذه :(لا يكفي طبع متمرس وثقة عمياء في تربية الابن) ص 24؛ وهذه الجمل هي نفسها ما سوف تكون مناط الدرس عند الحديث عن جملة الخصائص الاسلوبية للنص لاحقا.
سادسا: موقف المتكلم مما يصدح به:
لا يكاد يظهر في النص أي موقف للسارد /ضمير المتكلم من الاحداث التي تجري على لسانه إلا في بعض الجمل والفقرات التي اشرنا اليها في اخر حديثنا عن الزمن في هذا التلفظ؛ وهي لذلك و لأدائها لأكثر من وظيفة في النص مناط تفسيره وتأويله اذ هذا الحصر في الموقف والتوقف عن السرد هو ما يجعلنا نسمي هذه الجمل بمفاتيح التأويل اذ عبرها يمارس الكاتب رقابته على تفسير نصه ؛ و اجراءات نظرية التلفظ لإميل بنفينست هي من ساهم في معرفتنا لحالة التميز لهذه الجمل بدرجة ما اذ كانت تشكل مدخلا للإجابة عن سؤال ما هو موقف المتكلم مما يحكيه؟ و من ثم ظهرت لنا اهميتها وبعض من ادوارها و وظائفها في النص ؛وهذه الجمل /المفاتيح هي:
1.( ليس من السهل لأب ارمل؛ ليس له ايمان؛ او امل اخر سوى حياة ابنه؛ ان يربيه مثلما فعل هو) ص 20.
2.(الخطر يتربص بالإنسان في أي مكان كان) ص 21.
3.(اوه! لا يكفي طبع متمرس وثقة عمياء بتربية ابن لإبعاد شبح القضاء والقدر ) ص 23.
4.(هذا الرجل لم يناد أبنه بعد ..) ص 23.
5. ( و فجاءه يتوقف ضوء الهاجرة ..) ص 24.
6.( القوى التي تسمح باستسلام اب مسكين مهلوس لأشد الهلاوس) ص 24 .
هذه العبارات المصاغة بحذر شديد لكي تقول القليل وتخفي الكثير في ان !! هي موقف شديد التعاطف مع الاب سبق وشرحنا ارتباطه بالسيرة الشخصية للكاتب ولكنها تطرح سؤالا حادا ومثيرا للارتباك: من هذا الذي يلومه الكاتب على حالة الاب ؟ ! من هي هذه القوى التي لا يسميها الكاتب ويتركها لقرائه يجتهدون في تفسيرها ثم في تأويلها ؟! هل يلعب الكاتب هنا لعبة اتاحة المجال للقارئ لإنشاء تفسيراته ثم تأويلاته الخاصة ؟! ام انها حدثت صدفة ولم تكن لعبة دبرها الكاتب ؟! وإلى أي حد تقودنا هذه القوى: هل إلى مناقشة الظرف الاقتصادي والاجتماعي للكاتب ثم للبطل؟ ام إلى مناقشة فلسفية لمواضيع من عينة القضاء والقدر وتصرفهما بأرواح الناس ؟ !. ام ان الكاتب لم يكن اصلا مشغولا بشي من هذا وكل ما في الامر انه اراد عرض مأساة انسانية مؤثرة فقط ؟! وعلى الرغم من انه يمكن حسم القول بان الكاتب يشعر بتعاطف اكيد مع حالة الاب كأنها حالته هو إلا اننا قد نفشل في الحصول على اجابة واضحة للأسئلة السابقة. وهذا الامر المعضل سنناقشه لاحقا عند اكتمال قراءتنا للنص اذ ستتوفر مقدمات كافية لفهم اليات انتاج هكذا معضلة.

3. المقاربة النصية :
بعد ان درسنا الظرف العام لإنتاج النص وتعرفنا إلى اطراف الخطاب باعتبارها اولوية في فهم اية رسالة لغوية ننتقل إلى درس النص نفسه؛ وذلك عبر استغلال مرجعية نظرية البنية العاملية لجوليان غريماس بالاعتماد على الشرح النظري والاستفادة من تطبيقات كل من : جوزف كورتيس؛عبدالحميد بورايو؛ رشيد بن مالك؛ و سعيد بنكراد ( 16) وهذا يعني الفحص المزدوج لمعطيات سطح النص وعمقه ومن ثم التعرف إلى اليات تكوين المعنى في هذا النص.
3.1: في اليات تقطيع النص:
نظرا للطبيعة الخاصة لهذا النص فإننا سنعمد إلى تقطيعه وفقا لإعمال مجمل الاعتبارات التالية:
1. الاستقلال النسبي للأحداث: أي من حيث قدرة كل حدث على تشكيل قصة صغيرة داخل القصة الكبيرة( = قصة كيروغا كلها).
2. اعتبار انتقال الابطال في المكان أو في الزمان.
3. اعتبار تغير المعلومات الواصلة إلى القارئ ( الحالة النفسية؛ المفاجئات ؛ التفكير وانقطاعه ثم استئنافه الخ ..).
ويجدر بنا التأكيد على ان هذه الاعتبارات تعمل معا وليس بشكل منفرد وعند اعمالها في النص سنجد انفسنا بإزاء خمسة متواليات نصية تشكل سطح النص.
3.2: تحديد المتواليات اللفظية:
المتوالية الاولى: وتبدأ منذ الجملة الولى في النص جملة مفتتح النص وهي 🙁 إنه يوم حار في ميسونيس ..) ص 19 وتمتد إلى جملة : (و لم يرجع .. ) ص 22.
المتوالية الثانية: وتبدأ منذ جملة : ( ولم يرجع ) ص 22 وتمتد إلى جملة : ( ينطلق الاب مكشوف الراس ..) ص 23.
المتوالية الثالثة: وتبدأ منذ جملة ( ينطلق الأب مكشوف الرأس .. ) ص 23 وتمتد إلى جملة : ( يكفي لصبي في الثالثة عشرة ..) ص 24.
المتوالية الرابعة: وتبدأ من جملة : ( يكفي لصبي في الثالثة عشرة .. ) ص 24 وتنتهي عند جملة : ( يبتسم بسعادة هلوسة .. ) ص 25 .
المتوالية الخامسة: و تبدأ منذ جملة : ( يبتسم بسعادة هلوسة .. ) ص 25 إلى جملة : ( العاشرة صباحا ) ص 25 اخر جمل النص .
3.3: تحليل متواليات النص: 
تحليل المتوالية الاولى:
هذه المتوالية تحكي قصة صغرى في النص ؛ هي قصة استعداد الابن للصيد وذهابه اليه ؛ ضمن القصة الكبرى ؛ و فيها نحن بمواجهة مدخل كلاسيكي للقص؛ لطالما اعتبر في فترات من التاريخ الأدبي قريبة من تاريخ انتاج القصة ؛ أي في منتصف القرن التاسع عشر ؛ اعتبر شرطا فنيا ضروريا لكتابة القصة؛ لكنه هنا يظهر مختصرا سريعا على غير العادة و يظهر موظفا للتوصل إلى تحديد الهيئة الفاعلة الاولى المجسدة نصيا في اقامة التشابه بين الطبيعة التي تفتح قلبها والأب الذي يفتح قلبه ايضا ! ؛ وبمجرد تقديمه ينقلنا هذا الفاعل إلى هيئة فاعلة مجسدة نصيا تالية له مباشرة إذ تأتي جملة : ( – كن حذرا يا فتى ..) ص 19 ؛ لتخبرنا بوجود فتى ..؛ومن ثم إلى تحديد سريع للعلاقة بينهما اذ يلحق بجملة التحذير على لسان الأب التعبير التالي: ( يقول لأبنه مختصرا في ..) ص 19 ؛ وهكذا نعلم اننا بمواجهة تعاقد اولي بين الأب وابنه ؛ تعاقد يتخذ صورة العادة القائمة والمكررة؛ والمتفق عليها مسبقا من قبل الفاعلين في تجارب سابقة؛ وهذا ما تؤكده الجملة التالية: ( عد في موعد الغداء .. ) ص 19؛ وسيكون لهذه الجملة دورا اكبر في متواليات لاحقة ؛ ويتم تأكيد حصول الاتفاق عبر اجابة الابن : ( اجل يا ابي ..) ص 19؛ و من هنا يتأسس الاب كمرسل يشكل الكون القيمي لابنه قبل ابتعاثه للصيد ويتحدد الابن كمرسل اليه وهذا يعني ان علينا فحص المحاور الثلاث للتحليل السردي عند غريماس : الابلاغ ؛ الرغبة ؛ الصراع.
1. في محور الابلاغ:
وهو المحور الذي يتضمن المرسل الشاحن بالقيم والمرسل اليه المشحون بها ضمن علاقة الابلاغ والاتصال أي عبر رسالة ؛ وهو مدروس هنا فقط ضمن حدود القصة الصغيرة التي تحكيها المتوالية الاولى فقط ؛ اذ سوف يتعرض للتغيير في متواليات لاحقة ؛ و الاب كما سبق وقلنا تحدد كمرسل اما الابن فتحدد كمرسل اليه (مستقبل) اما الرسالة فهي التحذير والطلب والرغبة في اكتمال رحلة الابن كسابقاتها. وهو ما يشرحه المخطط الرمزي التالي:
مرسل —————– > رسالة —————>مرسل اليه
الأب —————— > تحذيرات /طلبات /رغبة متكررة ——–> الابن
2. محور الرغبة:
حيث تظهر في القصة الصغرى علاقة المطاردة او البحث عن الرغبة ( الرحلة إلى الرغبة بحسب مصطلحات و وظائف بروب ) (17)؛ اذ تظهر العلاقة بين الابن كبطل لهذه المتوالية و يتحدد كفاعل وموضوع رغبته موضع يمكن استثماره عند اكثر من مجال وهو رغبته في الذهاب صيد البلشونات؛ حيث البلشونات تتعين هنا كموضع للرغبة بحسب الترسيمة التالية:
الفاعل ————————————- > موضوع القيمة
الابن —————————————> ذهاب إلى صيد البلشونات
ويمكن هنا تحديد الابن كفاعل عبر الاشارة اليه بالرمز ( ف 1) و تحديد الذهاب إلى صيد البلشونات كموضوع قابل للاستثمار عبر ترميزه ب ( م 1) وهذا يعني ان المتوالية اللفظية الاولى تعين ملفوظا سرديا هو كالتالي:
ف 1 U م 1 ——————–> ف 1 n م 1
أي ان الفاعل المفصول عن موضوع رغبته يحاول الدخول في وصلة به .
3. محور الصراع:
و الذي فيه تتعين الاطراف والهيئات المعيقة لتحقيق رغبة الفاعل وتلك التي تقدم له يد المساعدة ضمن قصة ذهاب الابن إلى الصيد ؛ حيث توجد بالمتوالية عدة ظروف تحيط بقصة الذهاب إلى الصيد بعضها يساعد وبعضها الاخر يعيق وهي : الظروف المعيقة: 1.عمر الطفولة ونداوتها ؛ 2. فقدان الصبر عند الطفل اما الظروف المساعدة فتتمثل في : 1.طول القامة مما يعني ان الطفل بحسب جسمه مؤهل للصيد؛ 2. الاعتياد فلقد خبر هذا الطفل ممارسة الصيد ؛ 3. جملة تحذيرات الأب. مما يعني امكانية انشاء الترسيمة التالية :
معيق ————-> الفاعل > —————– مساعد
ظروف موضوعية تعيق —- > الابن > —————– ظروف تساعد
عمر الطفولة + نداوتها+ فقدان الصبر– > الابن < —— الاعتياد+طول القامة+تحذيرات الاب
وهذا الفعل (صيد البلشونات ) يحتاج إلى عدة صيغ كفاءة للفاعل (فحص امكانيات الفاعل لأداء الفعل) او يمكن ان نسميها ايضا الجهات المدوزنة للفعل ؛ وهي على النحو التالي:
1. الإرادة : حيث هي التعبير العملي عن الرغبة في حيازة موضوع القيمة و عندها تتأسس امكانية حدوث الفعل ويمكن التوصل لضبطها في النص عبر حصر علامات دالة عليها من بينها:اجراء التعاقد الاولي بين الاب والابن؛ والشروع في الفعل انظر جملة : (يوازن البندقية في يده ويبتسم لأبيه و يقبل رأسه و ينطلق ..) ص 19.
2. جهة الوجوب: وهي المنحى السلبي للإرادة ؛ بمعنى ان لا يكون هناك مفر للفاعل من الشروع في تنفيذ الفعل وهذه يمكن تأسيسها من الاشارة إلى تكرار حدوث عادة خروج الابن للصيد؛ ولكن هل يمكن اعتبار حاجة الاب للبلشونات كغداء ايضا جزء من الزام خروج الابن للصيد ؟! النص يؤكد فقط حدوث العادة لكنه يتجاهل الاشارة إلى الحالة الاقتصادية للأب وما يشير اليه فقط هو العمل ؛ وهذا لا يكفي للقول بشدة حاجته لصيد البلشونات ويتصل بشكل مؤكد بقضية الخلفيات الاجتماعية الاقتصادية التي سبق واشرنا اليها اعلاه.
3. جهة المعرفة: مع توفر هذه الجهة يمكننا القول ان الفعل قد خرج إلى حيز التحقيق ولم يعد مجرد افتراض ذهني سابق للعمل ويمكن حصر علامات المعرفة في النص بالتالي: اولا تكرار حدوث الخروج؛ ثانيا تصريح الأب: (انه يعلم ان ابنه الذي تربى منذ طفولته المبكرة على اعتياد الخطر والحذر منه يمكن ان يستخدم بندقية وان يصطاد .. ) ص 19 .
4. جهة القدرة: وهي المتعلقة بكل الوسائل المادية في التنفيذ والعلامات النصية التي تؤكد وجودها هي : اصطحاب الابن للبندقية ؛ وطول قامته.
اذا فقضية توفر مؤهلات الفعل محسومة والبرنامج السردي المقدر والمفترض ذهنيا فقط ممكن الحدوث جدا فالابن قادر فعلا على اداء مهمة الصيد ؛ لكن .. مع ذلك هذه المهمة لا تتم . وهذا ما سوف تخبرنا به المتواليات التالية.
تحليل المتوالية الثانية: 
و هي تمظهر سطحي يحكي لنا قصة صغرى اخرى مكونة للنص؛ هي قصة ذهنية ؛تجري في ذهن الاب ؛ و تتعلق بكيفية وصوله إلى قرار البحث عن ابنه؛ فلقد ذهب الابن إلى الصيد (ولم يرجع) ..كعادته وهنا بعد جملة (لم يرجع) الدالة واللافتة والمثيرة للاهتمام؛ تظهر امامنا جملة من التنقلات التي تجري في ذهن الاب؛ والمعروضة بصيغة المتكلم / السارد العارف بكل شئ ؛ فمنذ لحظة تجاهل التأخير بسبب الاعتياد إلى صدمة التفكير في احتمال موت الابن التي اوقفت الاب عن العمل المعتاد ؛ إلى تذكر الوقت وتذكر الاصابة السابقة للابن ؛ إلى تذكر اخر الاصوات التي سمعها الاب إلى محاولة تذكر اصوات اخرى إلى التعلق بأمل ضعيف واهي ان يأتي احد ما بخبر ما عن الابن إلى محاولة صناعة الاعذار الاصغر لعد عودة الابن قادنا كيروغا عبر هذا كله إلى استنتاج اخير؛ خلاصة اخيرة ستكون لوحدها كافية لتبرير القرار التالي وهذا هو بالضبط ما تشكله جملة : (رأى مصيبة كبيرة) ص 23.
فيما يشبه تماما الكريشندو الموسيقي .. انطلقت ثم تعالت ثم تعالت وتعالت اكثر فأكثر هذه الاقوال المعبرة عن افعال تجري في ذهن الاب وهذا ربما يشير إلى تأثر كبير لكيروغا بنوع محدد من الموسيقى تشكل هذه الميزة الاسلوبية ظاهرة حاضرة فيه وهذه تربط هذه الخاصية الاسلوبية بذلك النوع من التأثير الخارج عن عالم الأدب والذي قد يصل احيانا إلى حد الهيمنة على نصوص ادبية معينة في فترة تاريخية ما ؛ وفي كل لحظة من لحظات هذا الكريشندو كنا نحن القراء نأمل مع الاب ان يجد في ذهنه عذرا يكفي لتبرير غياب ابنه ساعين لدفع الاحتمال السيئ بتدبير مسبق من كيروغا وذلك يعني أن جزء من وظيفة هذا الكريشندو الموسيقي نقل شحنة التعاطف إلى القراء وجرهم لاضهاره و ذلك مايقودنا إلى النظر وفحص محاور القص الثلاث لدى غريماس لفهم الالية التي تركبت ضمنها اشغال انتاج المعنى في هذه المتوالية على النحو التالي:
1. محور الابلاغ: حيث يوجد الاب كهيئة نصية تشحن نفسها بالقيم الباعثة على الفعل فإذا به يعمل كمرسل ومن ثم يتلقى هو نفسه هذا الشحن ليتأهل به فإذا هو ايضا مرسل اليه (متلقي) حيث تتمثل الشحنة التي ينقلها الاب إلى نفسه في رسالة مفادها ان أبنه قد وقع في ظرف غير معتاد ؛ اذا لابد من استجابة جديدة لحادث تأخر الابن ويعمل الاب نفسه على تفكيك شفرات هذه الرسالة كمتلقي لها؛ مما يعني ارتسام هذا المحور تجريديا على النحو التالي:
مرسل ——————————– > رسالة ——————————- > مرسل اليه
الاب ———————- > هل من عذر لتأخر الابن؟————————-> الاب.
2. محور الرغبة: حيث يشكل اختفاء العلامات المادية من ذاكرة الاب: أي عدم وجود صوت مخزن فيها إلا صوت رصاصة واحدة وعدم مجئ احد ليخبره بمصير ابنه يشكل هذا الاختفاء مبررا كافيا لتقوية حضور علامة مادية واحدة هي الصوت الذي سمعه وتتركز كل احتمالات مصير الابن حوله!! وهذا يعني أن الاب يتخذ من نفسه فاعلا تنفيذيا للدخول في موضوع قيمة محدد ؛ ولكنه هذه المرة ذو طبيعة ذهنية(= الحصول على مبرر لغياب و تأخر الابن)؛ مما يعني ارتسام التجريد التالي:
الفاعل ———————————->> موضوع قيمة
الاب ———————————–>> مبرر لغياب الابن.
3.محور الصراع: في هذا المحور تتصارع جملة من الاقوال و الاصوات داخل ذهن الاب بعضها يساعده في تقرير ما سوف يفعله لاحقا وبعضها الاخر يؤخر ويعيق هذا القرار حتى ينتهي إلى علامة حاضرة في النص بشكل دال ومؤثر هي جملة: (رأى مصيبة كبيرة) ص 23 ؛ مما يعني ارتسام هذا المحور تجريديا عبر الشكل التالي:
معيق —————————–>> الفاعل << ———————— مساعد
حالة فوضى فكرية تعيق اتخاذ قرار—>> الاب << ——— صوت لرصاصة وحيدة .
وهنا يجب ان نسجل أن ما نتحدث عنه في هذه المتوالية هو انها تسجل اول تعديل في البرنامج السردي الذي افتتح به النص وسينكشف لاحقا ان هذا التعديل غير ذي أهمية وهذه المتوالية تعبير عن صراع ؛ و هو صراع ذهني نفسي يخوضه الاب ضد حالة الفوضى التي عبر عنها تعالي الكريشندو داخله وبالتالي نقله كيروغا عامدا متعمدا الينا فهو من جهة صراع مع الاحتمالات المختلفة لمصير الابن وفي نفس الوقت صراع مع مشاعر في اوج ارتباكها وتدفقها مما يمنع وصل الاب إلى حالة استقرار وهدوء كما انها ايضا صراع ضد الاعتياد فليس من السهل أن تخالف ما اعتدت القيام به والاستسلام له وقد غدا روتينيا عندك وليس من السهل ابدا أن تتوقع فشل شخص مؤهل ( الابن) في اداء مهمة كان قد اعتاد ادائها سابقا لذا يمكن القول ان موضوع الاعتياد يشكل في هذا النص ثيمة اساسية وان كانت تأتي تالية لثيمة الفقدان الماسأوي ومن جهة اخرى فان فحص جهات كفاءة الفاعل الذي رسمته هذه المتوالية امامنا ( الاب ) في مهمة البحث عن ابنه ستجعلنا نصل إلى انه يعاني نقصا في جهة المعرفة وهذا يرتب التفكير في جملة من الامكانيات عما ما حدث للابن وطرق التدخل لمساعدته و انقاذه؛ ولاستكمال هذه المعرفة من ناحية او للالتقاء بالابن يتأسس الاب كفاعل في رحلة البحث المادي اللاحقة.
وهذا يعني أن هذه المتوالية اللفظية تعين ملفوظ الحالة التالي:
ف 1 U م 1 ———————————————————- > ف1 n م 1 
حيث ف 1 هو الاب ؛ م 1 : مبرر غياب الابن.
تحليل المتوالية الثالثة:
نحن في هذه المتوالية اللفظية بمواجهة قصة صغرى ثالثة؛ هي قصة البحث الفعلي والمادي عن الابن وتختلف عن رحلة البحث الذهني في المتوالية السابقة ؛ وهذه الرحلة تستمر إلى لحظة العثور على الابن والتي سنقبلها مؤقتا إلى حين اكتمال تشكل معنى النص مع درس ما تبقى من متواليات؛و منذ بداية هذه الرحلة يتوازى امامنا مساران أولهما : مادي واقعي يشمل التفتيش في البرية والمستنقعات بحثا عن الابن بشحمه ولحمه؛ والمسار الثاني : ذهني افتراضي اذ يواصل الاب تنقله الشعوري متنقلا من حالة إلى شعورية إلى اخرى و من احتمال إلى اخر؛ أي ان كاتبنا يرقص حسب التعبير النيتشوي الشهير؛ فهو مرة يخبرنا انه لا يزال يبحث عن ابنه في البرية والمستنقعات ومرة يستنتج ذهنيا أن ابنه قد مات !! ؛ و من ثم يعود لرفض هذه النتيجة و يسحبها من التداول لدى القراء ؛ يلغيها ويعتبرها مجرد احتمال سيلوح قريبا غيره في مكانه ومن ثم يعاود البحث والتفتيش مرة اخرى حتى يصل بنا إلى تلك الجملة المؤثرة والهامة وذات الدلالة الخاصة ؛ جملة : ( رجلنا يشعر بأن قواه تفلت منه ) ص 24 ؛ وهي جملة مخالفة للسياق الذي جاء قبلها وللنتائج التي ظهرت في سياق ما بعدها ؛ و المهم هنا تسجيل ملاحظة بخصوص الايقاع القصصي و الايقاع تعبير موسيقي في الاساس ونقصد منه هنا احساسنا كقراء بالتوتر مع استمرار القراءة ترقبا للنتيجة في البحث و التفتيش فمع ان الكاتب صرح باحتمال موت الابن مرات إلا انه نجح في كل مرة في سحب هذا الاحتمال وهذا يعني ان الكاتب يريد منا ان نظل على توترنا و لا يريحنا بتصريح نهائي ختامي حول مصير الابن فلا يكشف لنا سره بل يصعده مع كل خطوة فنظل نسأل :هل هو حي ام ميت ؟ !.
اذا ما استخدمنا لغة مستمدة من فلاديمير بروب فان بطلنا قد مر بالوظائف التالية : النقص او الافتقار وهي محرك البحث عن الابن؛ ثم الطلب الذي مارسه الاب على نفسه للبحث؛ ثم موافقة البطل على الرحلة؛ ثم رحلة البطل؛ وبالعودة إلى مستوى اعلى من التجريد مع ادوات نظرية غريماس يمكن القول ان فحص المحاور الرئيسة الثلاث في هذه المتوالية يعطينا التالي:
1.محور الابلاغ: يتواصل العمل في ذهن الاب من قبل الاب نفسه باعتباره هيئة مجسدة نصيا تؤدي دور المرسل الذ يعمل على تأهيل نفسه بجملة من الاحتمالات المختلفة لمصير الابن وهذا الاب نفسه هو من يفكك هذه الرسالة ويحاول تأويلها والتصرف انطلاقا منها؛ وهذا يعني ان الكاتب يحافظ على نفس المحتوى الشعوري للمتوالية السابقة.
2. محور الرغبة: في هذا المحور نحن في حالة اختلاف بسيط عما حدث فيه اثناء اشتغال المتوالية الثانية اذ نحن الان بمواجهة تأهل الاب كهيئة نصية تلعب دور الفاعل الساعي في التفتيش والبحث الواقعي والعملي عن ابنه؛ حيث يزدوج موضع القيمة هنا إلى احتمالين اما معلومات عن الابن او احتمال اللقاء بالابن نفسه سواء كان حيا او ميتا.
3. محور الصراع: فيما تشكل معرفة الاب بهذه البرية والمستنقعات عاملا يساعده في السعي لانجاز مهمته فان الطبيعة نفسها من حيث كثرة المستنقعات و الاسيجة وشدة الحرارة والشمس الحمراء كما يصرح النص نفسه تشكل اعاقة للبحث؛ مما يعني ان المتوالية تعبير عن صراع ضد الطبيعة نفسها وانقلابها من حال الانفتاح اول النص إلى حال من العداء والانغلاق ضد الاب.
وهذا يعني على مستوى اعلى من التجريد ان هذه المتوالية تعين ملفوظا سرديا هو كالتالي:
ف 1U م 1 ———————————> ف 1 n م 1
حيث: ف 1 هو الاب الفاعل؛ و م1 : هي اللقاء بالابن. اذ تم انجاز التحول من مستوى البحث الذهني إلى العملي.
تحليل المتوالية الرابعة:
تحكي هذه المتوالية اللفظية قصة صغرى اخرى مكونة للقصة الاكبر هي قصة اللقاء السعيد بين الاب و أبنه الذي تأخر (سنقبل هذا مؤقتا طبعا)؛ فبعد بحث طويل وشاق التقيا وبرر الابن لأبيه سبب تأخيره بجملة تصلح لضمها ايضا للجمل المفاتيح اذا ما اردنا تأويلا منفتحا للنص لا يرتبط بأصل النص ؛ انها جملة : (رأيت بلشونات خوان وتبعتها) ص 25؛ اذ من الممكن اقامة تأويل شعري يحيل الغياب إلى رحلة رمزية وراء البلشونات؛ و علينا ان نسجل هنا ملاحظة في غاية الاهمية ؛ فباعتبار ادوات نظرية غريماس ثمة ثلاث مراحل اساسية تضبط رحلة البطل في القصة هي: التعاقد ؛ ثم الانجاز؛ ثم التقويم: ونحن هنا امام تقويم زائف؛ لأننا بمجرد وصولنا إلى قراءة اخرى كلمة في النص سنعدل فهمنا لما سبق وقراناه؛ فالجملة الاخيرة من هذه المتوالية والمكررة مرتين للحفاظ على الايقاع عاليا عدلت المعنى المتكون عندنا كقراء وصنعت فرقا ظاهرا و اساسيا اذ تخبرنا اضافة كلمة هلوسة إلى جملة (يبتسم بسعادة ) ص 25؛ اننا لسنا امام حدث فعلي بل مجرد تخيل من قبل الاب؛ وعند هذه الكلمة بالذات (هلوسة) ينفصل لأول مرة في النص مساران لطالما ارتبطا منذ مفتتح القص ؛ وهما مسار ما يجري مع الاب من احداث ومسار ما يفهمه القارئ من الاحداث؛ فالأب الذي بحسب النص نفسه سبق له ن عانى من بعض الهلوسات يدخل طورا جديدا في علاقته بالهلوسة ؛ اذ يبدو انها استولت على كامل عقله فلم يعد يرى إلا ما يهلوس به ؛ وهذا يرتب ان الفاعل المنفذ في هذه المتوالية وهو الاب في حالة اتصال بوهم عوضه خسارة ابنه اذ ان لم يعد يحتمل قبول ما يحدث امامه بحياد؛ وأما بلغة بروب نقول ان ما في هذه المتوالية هو تتابع للوظائف التالية: وظيفة انتصار البطل (J) فهكذا بطل لا يمكن تركه دون انتصار وبدلا من وظيفة المواجهة مع المعتد (H) وهي وظيفة يستحيل عمليا تحقيقها اذ المعتد في هذه الحالة ليس إلا الطبيعة الواسعة والعريضة المليئة بالصدف القاتلة؛ فأننا مباشرة امام وظيفة انجاز المهمة (N) ومن ثم وظيفة سد الحاجة وإصلاح الاساءة (K) مع اختفاء وظيفة التكليف بمهمة صعبة (M) لأن حجم المأساة التي يواجهها البطل (الاب ) اقتضى رد فعل فوري ومباشر وغريزي ربما اقتضى انتقالا سريعا يكفل له نسيان ما يحدث والاندماج في عالم اخر تعويضا له عن المأساة التي يواجهها؛ وهذا الحل تم التمهيد له منذ جملة محددة في المتوالية الاولى هي جملة : (هذا الاب ضعيف المعدة و النظرة؛ يعاني منذ بعض الوقت الهلوسات ) ص 21؛ أي ان ما حصل لا يعدو كونه اتساعا لحجم الهلوسة التي كانت تستولي على عقل الاب لحظات فغدت تحت ضغط الحدث الهائل تستولي على كل حياته وهذا ما يعنيه تحديدا الرسم التالي:
ف1 uم1 ——————————->> ف1n م1
حيث ف1: الفاعل الاب؛ م1: التعويض النفسي عن الواقع المرير.
تحليل المتوالية الخامسة:
تحكي هذه المتواليه القصة كاملة بنص اقصر؛ القصة البديلة لقصة المتوالية الرابعة ولما سبقها من متواليات ؛ القصة كما يعلمها الراوي الذي لأول مرة ينفصل تماما ليواجه جمهور القراء لوحده دون ان يختبئ وراء وصف افعال وأقوال الاب الحزين؛ تمثل هذه المتوالية اللحظة التي تقف فيها الرقصة المدوخة التي دخلت فيها القصة منذ بداياتها وتمثل الميناء الاخير الذي تلقى فيه المرساة وتستقر السفينة ويغادرها الركاب كما انها تمثل تقويما اخيرا للمهمة التي القاها الاب على نفسه باعتبارها مهمة يستحيل تحقيقها منذ بداية المأساة !! يترك الاب ليعيش سعادته الخاصة في عالم من خلق هلوسته ونصفع نحن القراء بالحقائق التي تم تأجيلها عمدا كما هي؛ لذا فان هذه المتوالية تعين ملفوظا سرديا يعبر عنه الرسم التالي:
ف1Uم1 —————————————>> ف1nم1
حيث ف1: هم جمهور القراء؛ وم1: هي معرفة حقيقة مصير الابن وموقف الاب معا.
وهذا يعني انها تقع في مستوى اخر غير الذي جرت فيه الاحداث المروية في المتواليات الاربع السابقة انها تقع في مستوى التداول المباشر مابين ضمير المتكلم الخفي وبين الجمهور.

الاداء/ الإنجاز:
يتعلق الامر هنا بفحص مسارين مختلفين ( 18)اولهما مسار الاب الحزين من حيث ما يجب عليه فعله لاستعادة ابنه المفقود ومن مراجعة المتواليات اللفظية الاربع نجد اختفاء الهيئات الانسانية التي يمكن ان تشكل حقل عمل المعتدي او الخصم فالخصم هنا هو ظروف المكان وقسوة الطبيعة لذا تبدو قوته هائلة حتى ان معركة المواجهة لا تحدث ابدا بل يتم تعويضها بحل مناسب وسريع للأب المكلوم ! فما من فرصة لإنقاذ قتيل منذ العاشرة تجري بعد انتصاف النهار؛ ان هذا الصراع ضد خطورة المكان يجري بسرعة هائلة وفيما الاب يصارع نفسه و افكاره ومشاعره المضطربة فأننا لا نكاد نرى اية مواجهة ضد الطابع الخطر للمكان لكونه فائق القوة لذا لا يكون امام الاب المكلوم إلا تعويض نقصه بالاستسلام التام للهلوسة فحجم الالم لا يسمح بقراءة موضوعية للحدث !! .
اما المسار الاخر فهو الانجاز المباشر مابين ضمير المتكلم الذي يختفي خلف الاب والذي يكشف عن نفسه وعن معلوماته في اخر لحظة للجمهور.
المسار السردي للقصة:
ثمة مسارين كبيرين في هذه القصة : مسار الاحداث التي وقعت للأب؛ ومسار العلاقة بين الجمهور و ضمير المتكلم ناقل هذه الوقائع؛ والقصة تتمفصل في الشكل العام بين هذين المسارين في نقطتي تحول وهي :
بداية القصة : (انه يوم صيفي جائر ..)ص 19.
ومن ثم نقطة التحول الثانية و الاخيرة:
بداية المتوالية الخامسة :(يبتسم بسعادة هلوسة ….).ص 25.
وبين هذين النقطتين الرئيسيتين وقعت نقاط المسار السردي الاول أي احداث الاب والتي تشكل مبدئيا حوالي 11 نقطة تحول فرعية هي كالتالي:
1. لحظة انطلاق الابن للطبيعة.
2. سماع الاب صوت الفرقعة.
3. اكتشاف الاب تأخر الابن.
4. تفكير الاب في اسباب التأخر.
5. اقرار الاب بحصول مصيبة.
6. قرار البحث عن الابن.
7. البحث العملي عن الابن.
8. رؤية الابن الميت.
9. رفض مباشر للواقعة اعلاه.
10. تعويض النقص بالوهم.
11. العودة المعتادة للبيت.
هذه النقاط يمكن اعادة العمل عليها من اجل تلخيصها اكثر وتجريدها اكثر في المحطات السردية التالية:
الانطلاق————> اكتشاف التأخير—–>البحث—->لحظة الحقيقة—-> الوهم الكامل—–>العودة إلى البيت.
ويمكن لمسار السرد هذا اعادة ضبطه في محطات اقل كالتالي:
الانطلاق—-> التفكير ——-> البحث——> الحقيقة ———> الوهم الكامل
والتي بدورها يمكن ان تضبط في ثلاث مراحل فقط على النحو التالي :
الفقدان —————–> البحث ——————–> الوهم الكامل
والذي يقابل الترسيمة التالية: 
وضع اولي————–> تحول رئيسي ————————–> وضع نهائي
مما يمكننا من استنتاج ان الثيمتين الاساستين في القصة والتي صيغ الكون الدلالي من خلالهما هما:
الفقدان و الوهم. انتج النص بالانتشار بينهما ودارت الاحداث متنقلة بين محطاتهما ..
البنية الدلالية العميقة:
من تحليل المتواليات ومن المسار السردي يمكن تطبيق مربع غريماس على المعنمين المكونين لعمق النص:
صدق
فقدان <———————————–> وهم
سر كذب
لا وهم > ———————————-> لا فقدان
بطلان
*في امكانيات الاستثمار القصصي للمعنمين المكونين للكون الدلالي للقصة:

1. مما يعني ان احداث القص قد جرت ضمن مسار كلاسيكي تجري فيه في العادة اغلب القصص وهذا عائد ربما إلى ان القصة تعود لبدايات القرن العشرين.
2. لو ان بطل القصة فقد ابنه ولم يحصل الوهم وهو المسار الايمن للمربع(فقدان ؛لا وهم) لكانت القصة قصة البحث عن سر احتماله للألم وسر قوته.
3. اما احتمال تمركز القص في الجهة اليسرى للمربع (وهم ؛ لا فقدان) لكانت القصة المحتملة قصة الوهم الكامل.
4. اما الجهة السفلى للمربع (لا وهم ؛ لا فقدان) جهة البطلان فهي المفضلة عند اغلب كتاب الحداثة وهي ان تتخيل بطلا لم يفقد ابنه ولم يتوهم عودته ؛ فنكتفي بالتحديق في احتمالات الخطر دون مواجهتها.

5.الخصائص الأسلوبية:
تتموضع الخصائص الاسلوبية كلها في المحور التركيبي للنص ؛ أي محور علاقات الجوار النصي وتوزيع الكلمات وهذا يدلنا على اهمية المصطلح الذي استخدمه د. المسدي في وصف هذه العلاقات ( علاقات ركنية)( 19)و اذا كان الاسلوب بحسب ياكبسون هو تطابق جدول الاختيار مع جدول التوزيع وحيث العلاقات الحاضرة ( الاختيار) مرتبطة بتلك الغائبة وحيث تتصل سلسلة الخطاب (توزيع كلمات النص متجاورة) فان للخصائص المذكورة تاليا مواضع شديدة الاهمية في النص ؛ مواضع لو ازيحت عنها لتغير المعنى المنشأ منها؛ أي ان حضور هذه الخصائص في اماكنها دال بذاته والخصائص هي:
1. تقنية زرع الفخاخ:
يعمد الصيادون إلى اخفاء ادوات صيدهم و اشراكهم حتى لا تراها الطرائد الذكية و العلاقة بين الكاتب والقارئ تشبه إلى حد ما علاقة الصياد بالطريدة لذا عمد كيروغا بحسب تقديرنا إلى زرع جملة دالة بنفسها وبموقعها التركيبي في أن !! في سلسلة الخطاب وهي جملة: (يعاني منذ بعض الوقت الهلوسات) فجاءت بعد انطلاق الابن وانطلاق الاحداث وقبل تأزم الوضع وجاءت في خضم كلمات مختلفة عنها فقد كانت هناك جمل متعلقة بطريقة تربية الاب لابنه قبلها ومن بعدها شرع الكاتب في استعادة ذكريات الاب ؛ اذا ما قبلها مختلف عنها وما بعدها كذلك؛ كن كيروغا يهيل عليها تراب الكلمات ليخفيها عن الانظار لذا اسميناها تقنية زرع الفخاخ فا صبحت النهاية بفضل هذه الجملة التي تم اخفاوءها ممهد لها منطقيا فالأب الذي يعاني بعض الهلوسات استولت عليه الهلوسات !! ولكنك حين تمر بالقراءة العابرة لأول مرة على هذه الجملة لا تكاد تعرفها او حتى تنتبه لها ولا تعود للظهور إلا مع القراءة الثانية او الثالثة أي مع القراءة المدققة التي تبحث عن ترابط منطقي في النص.
2. الاخفاء والتأخير ( المفاجئة ):
يعمد الكاتب دائما في أي نص إلى موازنة دقيقة لمعلوماته ( الحكاية الاصلية – الفابيولا ) (20) فيحسب اين ومتى يضعها يوزعها في سلسلة الخطاب ولا يكتفي بنقل الوقائع وفقا لتركيبها المنطقي او الواقعي فقط بل يضعها وفقا للأثر المتوقع منها و احيانا يميز جملة بعينها فينزعها من سياقها المعتاد والأصلي ليضعها في سياق جديد بعيد عن موضعها الاول لتؤدي دورا يتجاوز حدود ما تخبر به او عنه و هذا ما فعله كيروغا بجملة : ( ميتا منذ الساعة العاشرة صباحا) ص 25 ؛ فمكانها الاصلي بحسب ترتيب الاحداث منطقيا هو المتوالية الثانية بعد جملة : ( يرى …اب ..) ص 24؛ ولكنه نقلها من هذا المكان ال اخر النص ليحدث التشويق والمفاجئة معا.

3.الجملة الختامية (لحظة التنوير): 
الجملة نفسها التي ناقشتاها في الخاصية رقم 2 لها اكثر من وجه وأكثر من دور فلقد ناقشناها سابقا من حيث دلالة تأخيرها عن موضعها المنطقي اما الخاصية التي نحن بصددها الان اذ يبرز الان اثرها في مجمل عملية القص اذ انها عملت على تغيير كامل في فهمنا لأحداث القصة فحتى الجهد المضني الذي بذله الاب وهو يعيش حالة مضطربة مرتبكة تثور فيها المشاعر وتفيض كان جهدا عبثيا ودونما أي جدوى فلابن يرقد ميتا قبل ان يبذل الاب أي جهد في البحث عنه بل قبل حتى ان يفكر في غيابه؛ وهذه الخاصية سبق لكثير من المنظرين والكتاب ان اشاروا إلى اهميتها في تقاليد الكتابة القصصية (21).
4.تقنية الجمل القصيرة والحاسمة:
في عدة مواضع مختارة بعناية من الكاتب توزعت جمل قصيرة لكنها في نفس الوقت حاسمة في القصة وقامت هذه الجمل إما بتوضيح عاطفي للوضع القائم أو نقل حالة شعورية للقارئ أو حسم تردد سبقها وجاء بعضها في سياق توضيح موقف المتكلم مما يصرح به وهذه الجمل هي:
أ‌. جملة : (ولم يرجع ) ص 22 ؛ حيث انها جاءت مباشرة بعد متوالية لفظية يؤكد فيها الكاتب ان من المعتاد والطبيعي ان يغيب الابن ثم يرجع !! فحسمت ما قبلها وأسست لمرحلة التفكير التي ستليها وهي شاهد على لعبة يلعبها الكاتب فهو يقودنا طوال الوقت إلى تخوم تأكيد عودة الابن ثم حين يصل إلى هناك يتراجع تماما !!و يقطع هذا الاحتمال !! وهي لعبة تجعل القارئ دائم التوتر ينتظر دائما الاحداث بصبر نافذ.
ب‌. جملة: ( الطبيعة توقفت عند حافة الغابة ؛ في انتظاره) ص 22؛ تمثل هذه الجملة لوحدها توقفا للسرد؛ انها تماثل القطع في الدراما التلفزيونية أي ايقاف المشهد في اعلى ذروته؛ انها كقرع طبل ضخم لتحذير بطل القصة وعلى الاكثر لتحذير القارئ ان هناك شيئا يحدث الان !! وتأكيد ان على القارئ ان ينتظر تطورا هاما سيحدث !!.
ت‌. جملة ( هذا الرجل لم يناد ابنه بعد ) ص 23؛ تذكرني هذه الجملة اللحن الصاعد وراء صوت غنائي قد اكتمل للتو !! انها نغمة تشق الافق ؛ وتغير وضع المتكلم من مشاهد محايد إلى مشارك تحول المتكلم إلى متعاطف مع البطل ينقل شعور التعاطف إلى القارئ ويعده لتلقي المزيد من الاسى والحزن.

4.في عدم اكتمال جملة:
لم تكتمل جملة ( … يرى اب ….) ص 24 ؛ الواردة قرب نهاية المتوالية الثالثة وهي سواء كانت من عمل المترجم او من كيروغا نفسه ذات دلالة خاصة اذ تساهم في زرع الشك في مقتل الابن والشك موجود اصلا لان الاب ضعيف النظرة ومربك الشعور ومتعب بدنيا فإذا اضفنا إلى كل هذا هول الحادث وفظاعته فان هذه الجملة تسهم في اللعبة التي تقضي بسحب التأكيد بعد ابرازه طوال الوقت.
5.تقنية استئناف الجملة وتعديلها:
ظهرت هذه الخاصية في نهاية المتوالية اللفظية الرابعة في جملة : ( فانه يبتسم بسعادة …يبتسم بسعادة هلوسة ..) ص 25 ؛ إذ بعد أن اطمأن القارئ لعثور الاب على ابنه المفقود اخيرا بعد كل هذا الجهد والانفعال العاطفي تأتي هذه الجملة لتؤكد هذا المعنى ثم يأتي تكرارها ليدمر هذا المعنى تماما !! وبالتالي يتغير فهمنا لمجمل النص قبلها.
5.تعقيب تفكيكي:
ثمة عدة معطيات نصية يمكن باعتمادها الانطلاق في عملية تفكيك النص اهمها مايلي:
المعطى النصي الاول : اختفاء اية ملامح اقتصادية للبطل الاب
المعطى النصي الثاني: حضور مصطلح القوى في جملة ( القوى التي تسمح ..)
وحضور وطغيان معطى الطبيعة والمكان
المعطى النصي الثالث: انبناء النص على ثيمتي الفقدان والموت 
باعتبار كل المعطيات السابقة وقراءتها بشكل محايث معا ( 22)نكتشف ان الية التفكير التي قادت إلى انتاج هذا النص تقوم على مفهوم تصوير صراع الانسان ضد الطبيعة ولهذا اقتصر النص على الاب والابن واختفت تقريبا اية شخصيات اخرى من النص ومن جهة اخرى فان كيروغا اعتقد ان ما يحصل بقدر ما هو مأساوي هو ايضا طبيعي جدا ؛ هذه الطبعنة للموت تدور حولها اغلب قصص كيروغا في مجموعة الحب والموت والجنون التي ادرجت ضمنها القصة والمعطى المعرفي الذي يتخللها يشير بوضوح إلى الصراع ضد الطبيعة ( 23) و اذا وضعنا في الاعتبار سياق القصة نفسها وعززناه بكل المجموعة فان السعادة تصبح بالنسبة لكيروغا منتجا ذاتيا لكل انسان القدرة على توليده حتى في احلك الظروف وأكثرها قساوة لذا قد لا نستغرب كثيرا انتحار كيروغا فهو كان مشغولا بتسجيل لحظات ما قبل النهاية وملامح السعادة فيها و اذا ما عدنا لمسالة الاختفاء الكامل للوضع الاقتصادي للبطل فان ذلك يمكن فهمه بوضوح ضمن فهم ان كيروغا نفسه لم يكن ذا وضع اقتصادي ثابت (24) بل كان ذا وضع متقلب جدا من الناحية الاقتصادية ومن ناحية اخرى نرجح انه كان يتعمد تجاهل التصريح بالوضع الاقتصادي ليحدث التأثر العاطفي لأسباب انسانية عامة .
_______________
الإحالات:
1.نشرت القصة في كتابين مختلفين هما:
– مجموعة من القاصين المتحدثين بالاسبانية؛القصة القصيرة الاسبانوامريكية؛ ترجمة :صالح علماني؛طبعة أولى؛(المجلس الوطني للثقافة والفنون و الاداب؛سلسلة ابداعات عالمية رقم 349؛الكويت)؛ 2004 م؛ص 19.
– هوراسيو كيروغا ؛ قصص الحب والجنون والموت؛ترجمة :صالح علماني؛طبعة أولى؛( طوى للثقافة والنشر والإعلام؛لندن؛المملكة المتحدة)؛ 2015 م؛ ص :129. 
– وكل الاشارات إلى القصة الواردة في متن المقاربة سوف تكون إلى الكتاب الاول :القصة القصيرة الاسبانو امريكية.
2.رامان سلدن؛النظرية الأدبية المعاصرة؛ترجمة:جابر عصفور؛ د.ط؛(دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع؛القاهرة؛ مصر)؛1998 م؛ ص 30.
3.عبدالسلام المسدي؛ الأسلوبية و الأسلوب: نحو بديل ألسني في نقد الأدب؛د.ط؛الدار العربية للكتاب؛ليبيا- تونس)؛ 1977 م؛ ص :183.
4. تقوم نظرية الحديث او التلفظ لاميل بنفينست على فحص السياق التاريخي والسياسي للتلفظ وعلى اكتشاف عدة امارات لغوية دالة في داخل الخطاب و هذه الامارات دالة على المتكلم ؛ الزمان والمكان ؛ موقف المتكلم مما يصرح به ؛ و التركيب الحجاجي للتلفظ الذي هو خطاب يستهدف التأثير على اخر ؛ وللنظرية تطبيقات مختلفة ومتسعة على نصوص أدبية و اخرى غير أدبية ؛ للاستزادة انظر إلى :
– محمد يحياتن ؛الأصالة في نظر رضا مالك :تحليل الخطاب من خلال نظرية الحديث؛ العدد 14 ؛ مجلة اللغة والأدب؛ معهد اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر؛ الجزائر العاصمة؛الجزائر؛ديسمبر 1999 م؛ص: 335.
5. تهتم نظرية البنية العاملية لجوليان غريماس بالترتيب المنطقي لاليات انتاج المعنى في اثناء اجراء عمليات القص ؛ بحيث تدرس الاحتمالات المنطقية للانتقال من مرحلة إلى اخرى من مراحل السرد الذي هو التحول؛ حتى تصل لاستنتاج الملفوظ السردي الذي هو علاقة بين العواملكما تدرس تدرج جهات كفاءة الفاعل والبنية الدلالية العميقة للنص؛ للاستزادة انظر :
– جوزف كور تيس ؛ مدخل إلى السيميائية السردية والخطابية ؛ترجمة : جمال حضري؛طبعة اولى؛(منشورات الاختلاف؛ الجزائر العاصمة ؛ الجزائر؛ الدار العربية للعلوم ناشرون ؛ بيروت ؛ لبنان ) ؛ 2007 م.
– رشيد بن مالك ؛ من المعجميات إلى السيميائيات؛ طبعة اولى؛(دار مجدلاوي للنشر والتوزيع؛عمان؛ الاردن) ؛ 2014 م.
– سعيد بنكراد؛ مدخل إلى السيميائيات السردية ؛ طبعة أولى؛( تانسيفت؛ مراكش ؛ المغرب) ؛1994.
– اما المقالات والأبحاث والدراسات فهي:
– عبدالحميد بورايو؛ نص حكاية الحيوان: مقاربة سيميائية – بنوية : الحمامة المطوق نموذجا؛ العدد 14 ؛ مجلة اللغة والأدب ؛ معهد اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر؛ الجزائر العاصمة ؛ الجزائر ؛ديسمبر 1999 م؛ ص:187.
-رشيد بن مالك؛ الاصول اللسانية و الشكلانية للنظرية السيميائية؛ العدد 14؛ مجلة اللغة والأدب ؛ معهد اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر؛الجزائر العاصمة ؛ الجزائر ؛ ديسمبر 1999 م؛ ص: 83.
6. كل الاشارات إلى القصة موضوع المقاربة يقصد بها كتاب القصة القصيرة الاسبانوامريكية ؛ مصدر سابق؛ ص: 21.
7. ويكبيديا الموسوعة الحرة؛مادة الاوراغواي؛ في 10-4-2016 م ؛ الاوراغويwww.ar.wikipedia/wiki/.
8.بول كيندي؛ نشوء وسقوط القوى العظمى؛ ترجمة: مالك البديري؛طبعة ثالثة؛( الاهلية للنشر و التوزيع؛ عمان؛ الاردن)؛2007 م؛ص: 219.
9.ويكبيديا؛ مصدر سابق؛ الاوراغوي/www.ar.wikipedia/wiki.
10. مجموعة قاصين بالاسبانية ؛ القصة القصيرة الاسبانوامريكية ؛ مصدر سابق؛ ص: 21.
11.هوراسيو كيروغا؛ عشر قواعد لكتابة القصة القصيرة؛ ترجمة: منال غيلان ؛10-4-2016م؛www.takweeen.com .
12.هوراسيو كيروغا؛ قصص الحب والجنون والموت؛ مصدر سابق؛ ص:7.
13.مجموعة قاصين بالاسبانية؛ القصة القصيرة الاسبانوامريكية؛ مصدر سابق ؛ ص: 24.
14. سوزان روبين سليمان و انجي كروسمان؛ القارئ في النص: مقالات في الجمهور والتأويل؛ ترجمة : حسن ناظم و علي حاكم صالح؛طبعة اولى؛( دار الكتاب الجديد المتحدة ؛بيروت ؛ لبنان) ؛2007م؛ص 
– جين ب. تومبكنز؛ نقد استجابة القارئ:من الشكلانية إلى مابعد البنيوية؛ ترجمة : حسن ناظم و علي حاكم؛د.ط؛ ( المجلس الاعلى للثقافة ؛ المشروع القومي للترجمة ؛ عدد 73؛القاهرة ؛ مصر) ؛ 1999م؛ص : 22.
15.رامان سلدن؛ النظرية الأدبية المعاصرة ؛ مصدر سابق؛ ص: 30.
16.انظر احالة رقم (5).
17.فلاديمير بروب؛مورفولوجيا القصة؛ ترجمة: عبدالكريم حسن و سميرة بن عمو؛طبعة اولى؛( شراع للدراسات والنشر والتوزيع؛دمشق ؛ سوريا)؛1996م ؛ص: 55.
18. بنكراد؛ مصدر سابق؛ ص : 63.
– بن مالك ؛ مصدر سابق؛ ص: 240.
19.عبد السلام المسدي؛الأسلوبية والأسلوب: نحو بديل السني في نقد الأدب؛مصدر سابق؛ ص: 137.
20.رامان سلدن ؛ النظرية الأدبية المعاصرة ؛ مصدر سابق؛ ص: 32.
21.رشاد رشدي؛ فن القصة القصيرة ؛طبعة ثانية ؛(دار العودة؛بيروت ؛ لبنان)؛1975م؛ ص : 152.
22. جاك دريدا ؛ الكتابة والاختلاف؛ ترجمة: كاظم جهاد؛طبعة ثانية؛( دار توبقال للنشر ؛الدار البيضاء؛ المغرب)؛ 2000م؛ص: 51.
23.ميشيل فوكو؛ حفريات المعرفة ؛ترجمة : سالم يفوت؛طبعة اولى؛ (المركز الثقافي العربي؛ الدار البيضاء؛ المغرب)؛ 1986م؛ ص: 185.
24.هوراسيو كيروغا ؛ قصص الحب والموت والجنون؛ مصدر سابق؛ الصفحات:10؛11؛12؛13.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *