*مهاب نصر
اعتمد التشكيل في مقاربته للطبيعة في مراحل متطورة للفن على الابتعاد قدر الإمكان عن النسب الطبيعية والتشريح الموضوعي للكائنات. انحراف العين التشكيلية أمام قوة الواقع وسيطرته، أو أمام ما كان يمثل للفنان خداعا من قبل المشهد، أو انغماس الفنان في التعبير عن ذاتيته وخصوصيته كان يدفع به إلى أداء متعمد، وما يمكن أن نعتبره التشويش القسري على الذاكرة البصرية، بحيث صارت اللوحة التشكيلية عملا أكثر ذهنية، تشعر فيه بعنف الفنان في مجاوزة الواقع. ليس هذا ما يمكن أن يقال في لوحات الفنان جورج باور الذي عرضت بعض أعماله أخيرا في غاليري بوشهري تحت العنوان الموحيThe Paradise Lost…and Found.
في لوحات باور حرص على إظهار التشريح لجسد الكائن، حيوانا كان أو إنسانا، كأنه نوع من الافتخار بقوة الطبيعة. ليس هنا ما نداريه أو نخجل منه، انها الطبيعة عارية طليقة، مفعمة بالقوة والحيوية. الخيول هي «الثيمة» الأساسية في المعرض. لكنها ليست مضمونه. بل يكمن المضمون في إطلاق سراح الإنسان والعالم الطبيعي بالعودة إلى براءته. إنها الجنة التي فقدت واستعيدت.
درس جوهري
هنا يقدم باور درسا بسيطا ولكنه جوهري. هل من الضروري تشويه الذاكرة لبناء عمل فني؟ على العكس تعطيك لوحات باور انطباعا للوهلة الأولى أنها أقرب للعين التسجيلية، فقط يسحب باور هذا الواقع بانحرافة بسيطة لكنها تنقل المشهد إلى معنى آخر.
التعبير عن السرعة والفتوة لا يصور لنا فارسا تقليديا على ظهر حصان مسرج، وانما إنسان عار، وخيول غير مسرجة، كلاهما حر، كلاهما تتخذ حركته بعدها وامتدادها الأقصى فتوحي بالتحليق والخفة وامتلاك الحياة، تماما مثل اللوحة التي تصور إنسانا يميل عن ظهر حصان طائر ليلتقط غزالا من أذنه.
كل مكونات اللوحة لا تلامس الأرض، رغم أنها تنتمي بقوة إليها. إنها الجنة الأولى. في لوحة أخرى ترى قدمين فقط في حال استرخاء مستندتين إلى جذوع الأشجار. يكتفي هنا باور بالإيحاء. وما يسمى في الأدب «المجاز المرسل»، حيث كما يقول البلاغيون يدل الجزء على الكل ويختزله بقوة أكبر.
بذكاء المفارقة نفسه، يلتقط راكب الحصان زهرة من الأرض، يتسيد اللوحة لونان فقط، وهو ما يعطي لون الزهرة قوة المفارقة على امتداد خط يجرح الأرض. الأداء نفسه يعيد الفنان استخدامه في لوحة لجسد من وراء أغصان متشابكة، كأنه يستعيد صورة الإنسان الأول. وهنا يدخل اللون الأزرق المفاجئ في صورة سلة البيض كإشارة إلى الخصوبة. لا يحتفي الفنان بالوحشية بل بالحياة الفرحة، والصلة المباشرة بين الإنسان والطبيعة. طبيعي أن تأتي معظم اللوحات من مقاسات كبيرة لتعطي مساحة أكبر للحركة والحلم معا.
حياة دائمة
في لوحة شديدة الإيحاء في عنوانها Good Day to Die يستلقي الجسد العاري على الأرض وكأنه في استرخاء كامل، أو قيلولة هانئة، وحوله خيول وكلاب تتطلع إليه دون أن تعطي أي انطباع بائس بالموت، ففي الطبيعة لا يموت شيء، لا معنى للموت أصلا. لكن الأهم في هذه اللوحة هو الظلال الطويلة لمفردات اللوحة، التي تعطي انطباعا بالسيطرة الكاملة للكائن على قدره أو على علاقته بمعنى الحياة ودفئها.
جورج باور عمل أستاذا للفن في الجامعة الأميركية في الكويت، ووفق ما جاء في التقديم له في الكتيب المصاحب للمعرض، تعود أصوله إلى تشيكوسلوفاكيا التي هاجر منها إلى الولايات المتحدة في العام 1976، حيث قام بتدريس الفنون التشكيلية في بعض جامعاتها.
___
*القبس