قراءة في قصيدة (ميجنا من عسَل) للشّاعرة البياتنه


*د. عريب محمّد عيد


خاص ( ثقافات )

“من رحَى الحُبِّ”
حينَ يحطُّ النّحلُ عَلى زهْرِ القصيدةِ ليلثمَ رحيقَها؛ يرتفع صوتُ النّاي يعزفُ لحنَ الوِصَال، وتغدُو رشفةُ العسَل أغنيةً يطيبُ مَذاقُها، وتتعالى نشوةُ الحُبّ في الأفْقِ تنشرُ عبقَ الحضورِ وتلعنُ وحشةَ الغياب.
هيَ وهوَ حينَ يتهاديانِ برفقٍ في سطورٍ ترقصُ ألفاظُها على جودةِ إيقاع المعنى، وحُسنِ ابتكارِ الصّورة، تنبعثُ الرّؤى لياليَ حالماتٍ لتشدّ أزرَ البحرِ العَروضيّ الّذي يحملُهما؛ يَغرقانِ به ولا يُغرقْهُما، يذوبانِ حَلاوةً في جُنونه، ولا يَعقلهما، أيُمسِكُ بيدها أم تقبضُ هيَ على فوحةِ العِطر الّتي تتضوّعُ منهُ في الجهاتِ الأربعة؟
عسلٌ وضاع بعينكَ فامسكْ يدي
كيف انتباه النّحلِ فاتَه أمرُكَ 
أم أنّ وردًا قال للنّحل: اذهبي
صلّت حدائقُ كي تفوحَ بعطركَ 
تمشي فيرتجّ النّسيمُ يشقُّ نفسه أربعًا 
في أربعة ْ
تطيرُ الشّاعرة المبدعة بالقارئ من عالمِ الحسّ إلى عالم الإحساس عبرَ بساطٍ شفيفٍ رقيقٍ، تحملهُ بشغفٍ ليموجَ معَ تلوّن أسلوبها الحكائيّ الغنائيّ، وتؤازِرهُ بمشاركةِ أجملِ مفرداتِ الطّبيعةِ في عذوبة البوح (عسل، النّحل، وردًا، حدائق، عطرك، النّسيم…)، وقد قرّت أساريرها جميعًا بنهاية السّكْتِ في رضًى وإقرار (في أربعةْ، العاصفة ْ، إليكْ، بقافيةْ، سماكْ …).
وتوظيفها العدد (أربعة) في المشهد الرّبيعيّ بخُضرتهِ وزهورهِ يحيطُ بشمولِ الفكرةِ وامتدادِ المعنى، ويلبسُه حلّة قشيبةً معطّرةً بأرج الحبيب، وقد شقّ طريقه عبر النّسائم سائحًا في اتجاهاته الأربعة. هذه (الأربعة) تعيدُها بإبداع، وتلفّها بهالةٍ قدسيّةٍ كأنّ لها طقسًا للتأمّل والعبادة، يهجعُ فيه القلبُ متنسّكًا، وتخشعُ الرّوحُ معهُ مستسلمةً، ويفكّرُ العقلُ به مُتدبّرًا، وكأنّ للعشقِ شهورًا حُرُمًا أربعة: 
من أيّ صوبٍ جئتـَني 
وخشوعُ قلبي في الشّهور الأربعة ْ؟
القصيدة من بدء دورتها إلى نهايتها جاء كُلّ مفصَلٍ فيها يُسلّم أمره لما بعده بخفة عاطفيّة وانسياب، ودفقات مشاعرٍ متنامية، بدا صوتها خافتًا قبلَ نموّ بذرة الهوى ونضجها في حاضنتها، لتعلوَ بعدها دقّاتُ القلبِ نبضًا مُتصاعدًا، وتصدح معلنةً عن لحظةِ اكتمال بدْرِ الوفاقِ والاتّفاق معَ صوت الدّعاء، الّذي جاء مكرّرًا مرارًا كآذان، فيه إلحاحُ العاشقِ رغبةً في إزالة ما غشّى أعين الحبيبةِ من جفا أو بُعْدٍ:
ما كانَ نبضي في البداية مُزهرًا
إلا بصوتكَ حينَ جاء بألفِ سنبلةٍ
تلحُّ على السّماء بأن تناديني إليكْ
جاء الأذان وحينها
ارتفع الدّعاء على الدّعاءِ
أيّ توليفةٍ تصبّها حين تسكبُ صوت الحبيب ممزوجًا بالدّعاء؟ أيّ نتيجة ترسمُها حينَ يخترقُ الصّوت أفقَ التّوقّع واللا توقّع؟! بل أيّ بدعةٍ وجمالٍ حينَ يندغمُ الصّوتانِ فيصيران لحنَ مغنٍ يصدحُ في السّما؟
يا ميجنا يا ميجنا
صوت المغني حينَ يسمعُ اسمكَ 
يا ميجنا يا ميجنا دبكاتُ طير من رموشِك 
في السّما
(يا ميجنا) آيقونة القصيدة المبتكرَة وموّالها القديم الّذي يحاكي روحَ الحداثة تعانقها الجِدّة، مقطعٌ يطرَبُ له السّامعُ المنتشي فرحًا، يردّدَهُ دونَ وعيٍ منه عندما تنسربُ إليه أقانيمُ اللّحن الشّادي؛ وقد رأها اجتمعَتْ على الحبيبة لتحاصرها وتُسلِّم للحبيب كلّها؛ مع فرحتها وتردّدها ودهشتها من أنْ يصيبَ سهم العشق فؤادها (كيف تأتي حين تأتي؟! لا لا تجبْ).
حينَ تُقرَأ هذه السّطور المتعاضدة بعنايةٍ، والّتي يسندُ بعضها بعضًاـ، تصبح أغنيةً للفاهم المدقّق، يرى جمالَ توظيفِ ألفاظ العلوم والتّكنولوجيا بطريقة فنيّة متقنة؛ وكأنّ الشّاعرة تحيكُ بدقّةٍ ثوبًا مطرّزًا بخيوط ملوّنة تنسجمُ والواقع المعيش المحكيّ بفصحاه وعاميّته، ببساطته وتعقيده، بماضيه وحاضره:
زد (سنتمتر ) واحدًا
ليصيرَ مفعول الهواء كأنّه 
بلوتوث يبحث في المسافةِ عن سماكْ
وأحسبُ أنّ الأسطرَ الأخيرة تتركُ باب النّصّ مفتوحًا لتعدّد التّأويلات وتنوّع الاحتمالات الّتي تدور في خلدِ المتلقّي رحى في الحبِّ تلفُّ ولا تكفُّ:
ماذا يكون الآن لي؟! 
ماذا أكون الآن لي؟! 
وإن كان النّصّ أومأ لإجابات ما، فكأنّي به لم يُغلق دورة الحُبِّ في ثنايا القصيد؛ فهي جزءٌ من دائرة الحياة الكُبرى الأعمق والأشمل والأوسع:
أنتَ الموجُ أنت الأوْجُ أنت النّارُ والنّوّارُ أنتَ الكَرْم والمحرابُ والموالُ
ماذا أقول الآن ماذا لا أقولْ

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *