رولان بارت يقرأ نشيد بلزاك في تحليل سيميائي


*رسول محمد رسول


وجدت أيقونة الناقد الفرنسي رولان بارت (1915 – 1980) “س/ ز” طريقها إلى العربية بعد 46 سنة منذ صدورها في باريس عام 1970، عندما قام الباحث المغربي محمد بن الرافه البكري بنقل الكتابة إلى العربية. ويعدّ كتاب “س/ز” مرجعاً حيوياً لقطاع الدراسات الجمالية كونه يتصدّى لتحليل كينونات النَّصوص الإبداعية التي تزهر جمالياً في حدائق القراءات التطبيقية.
ويبدو أن ترجمة هذا الأثر الجمالي تستكمل الترجمات العربية للمتن البارتي، لكن ترجمة البُكري تتميز بريادية فريدة لنقل هذا الأثر إلى القارئ العربي، ليس من حيث أنها الترجمة الأولى فقط، بل من حيث قيمتها المعرفية والجمالية، كما أنها الترجمة التي ستجعل المقروء البارتي يستكمل مفاصل خطابه بعد أن كان مغيباً عنه إلا من توافر على لغة رولان بارت الفرنسية.
السيميائية والجمالية
إن العلاقة المعرفية بين البُكري وبارت تمتد إلى سنوات طويلة؛ ففي بغداد كنّا قرأنا له، وضمن “سلسلة الموسوعة الصغيرة”، نصاً بارتياً ترجمه عن الفرنسية بعنوان “مبادئ علم الأدلّة”، كان ذلك في منتصف ثمانينات القرن العشرين، لكن الأمر لم يقف عند تلك التجربة، إذ ستتواصل تجربته مع بارت، ففي سنة 2006 عكف على ترجمة “مقدِّمة” كتاب “س/ ز”، وكان الطموح يومها ترجمة بقية فصول هذا الكتاب، لكن الأمر بقي منوطاً بالبُكري نفسه، فترجمة بقية الفصول ليست بالأمر الهين لكون متن الكتاب يزخر بما هو تطبيقي مدقَّق على نص كتبه أُونوريه دو بلزاك (1799-1859) سنة 1830 بعنوان “صرّازين”، وهو نص فائق الحضور في جماليته الحكائية وفي أكوانه اللغوية، ويتطلب جهداً ترجمياً مزدوج الوظيفة، لما له من بهاء تصويري، وقدرة تحليلية سيميائية دلائلية أعمل لها بارت جهده القرائي وهو يلاقي مثل هذا النص الجمالي، وذلك هو ما أظهره البُكري وعمل به في صنيعه هذا على نحو بارع.
يتضمَّن متن الكتاب، الصادر هذا العام عن دار الكتاب الجديد المتحدة في بيروت، مقدِّمة المترجم التي كشف فيها عن اهتماماته بالنَّص البارتي جملة وتفصيلا، حيث شرح على نحو مكثف مفاصل مشروع هذا الناقد في تحليلاته السيميائية والجمالية من خلال ما كتبه وألفه على نحو متلاحق حتى رحيله العام 1980.
وجاءت صفحات متن كتاب “س/ز” متميزة بالعمق التحليلي الاستراتيجي، حيث تبدَّت ككتابة مركَّبة جمعت بين نصين: النَّص البلزاكي كما ظهر في نص قصَّة “صرّازين”، والتي قسَّمها أو جدولها بارت نفسه إلى 561 جُملة سردية أو (عجامة) = (Lexie)، بحسب الترجمة، دعته إلى كتابة 93 تحليلاً تطبيقياً جمالياً بشأنها وهي تعدُّ اليوم، كما كانت حينها، درساً بارعاً في التحليل التطبيقي لأي نقد سيميائي أو دلائلي يمكن أن يكون موضع اهتمام وعناية، لا سيما أن مناسبة هذا الكتاب كانت أكاديمية الطابع، حيث ألقى بارت فصوله كمحاضرات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بباريس بين عامي 1968/ 1969.
إن ظهور نص/ متن الدراسة ولأول مرة بالعربية احتاج من المترجم البُكري جهداً تنويرياً مضاعفاً عندما راح يعزز الغامض فيه بإيضاحات كثيرة، ففي النَّص الفرنسي لم نقرأ له سوى ثلاثة هوامش كتبها بارت بنفسه، أما البُكري فأتحف المتن بكل ما يمكن أن يتطلَّبه القارئ العربي لكي يستنير به في ضوء استراتيجيته الترجمية الخاصّة التي ينتهجها والتي تقضي بأن يكون رولان بارت، في هذا الكتاب خصوصاً، مقروءا على نحو عربي، لا سيما أن مترجمنا البُكري يمتلك ذاكرة بارتية دسمة ابتناها لنفسه عبر قراءاته العميقة، بل والمعتقة للنَّص البارتي منذ عقود حتى لقفَ، وعبر خطابه القرائي بداية والترجمي تالياً، ما يرد قوله بارت نفسه في خطابه القرائي.
تحليل مقطعي
قدّم المترجم للقارئ العربي خدمة كبيرة عندما أفرد لمتن سردية بلزاك “صرّازين” ترجمة كاملة بشكل منفصل عن تضمين بارت لمتنها في تحليلاته المنوَّه عنها سابقاً، واحتل النَّص الصفحات من 281 – 341، حتى إننا، وبمجرد قراءته، سنجد أنفسنا في فضاءات منتصف القرن الثامن عشر بكل ما فيه من رمزيات وأيقونات تعبيرية وأمكنة ومنحنيات لغوية وبلاغية وظفها بلزاك نفسه في كتابة سرديته المتخيلة تلك، وذلك عبر هوامش أضاءت متن النَّص بكل ما يمكن أن يجعله قريباً من ذائقة القارئ العربي ومعرفته التاريخية بمكانية الحدث وجغرافية الحركة فيه، ودلالات اللغة كما خبرها بلزاك ذاته في نصِّه “صرّازين”.
إلى جانب ذلك، أتبع المترجم متن هذه القصَّة ملحقاً بتسلسل “الأحداث” فيها، وهو تحليل مقطعي أو “عجامي” وصل إلى نحو خمسين حدثاً ضمها المبنى الحكائي لقصَّة بلزاك، فضلاً عن أن البُكري قدَّم ترجمة لما أسماه “الفهرس المعقلن”، وضم ثلاثة أبواب نقرأ فيها مفاهيم مفتاحية استخدمها بارت نفسه في التحليل، وهي: أولا المنقرئ أو القابل للقراءة، وفيه: التقويم، والتأويل، والمنهج. ثانيا الشفرات العامة، وشفرات الأحداث، والشفرات التأويلية، وشفرات الثقافة المتعدِّدة، السيْمات أو مدلولات الإيحاء، والحقل الرمزي، والمدخل الشِّعري، والمدخل الاقتصادي، والنَّص. وأخيرا المتعدِّد، وفيه: تعددية النَّص، وحتميات اختزالية، وتحتيمات متعدِّدة القيم، والإنجاز، والنَّص المنقرئ في مواجهة الكتابة. وأردف ذلك ما كتبه جورج بطاي في عام 1957 بشأن نص بلزاك (صرّازين)، وهو نص مقتضب يبدو في غاية الأهمية بالنسبة إلى بارت.
لقد حفلت كينونة النَّصين (النَّص المقروء والنَّص القارئ) في بنائهما النَّصي بالكثير من أسماء الأماكن والأعلام والألفاظ، والمصطلحات، فضلاً عن مفردات ما أسماه المترجم البُكري بـ“العجامة”، وهي ترجمة لمصطلح (Lexie) الفرنسي أو “الوحدات القرائية”، وهي “وحدات سردية” وليست شعرية.
لقد ضمَّن المترجم كتابه هذا مسارد شتى بدت مُهمة للقارئ العربي، منها مسرد للمصطلحات التي أوردها المترجم في متن مقدِّمته لترجمة الكتاب، إلى جانب حصره للألفاظ المفهومية التي وردت في دراسة بارت “س/ ز”، تبعه مسرد خاصّ بما ورد من ألفاظ ومفاهيم في متن قصَّة بلزاك “صرّازين”، وخصص أربعة كشافات لكل الأعلام التي وردت في هذه المتون بالحرف اللاتيني، ومن ثم عزز كل ذلك بمسرد كشافي خاص بالألفاظ والمصطلحات باللغة الفرنسية التي وردت في كل الكتاب.
وقد يتساءل القارئ العربي عن معنى ودلالة عنوان الكتاب، وفي الحقيقة المترجم إضاءة بهذا الشأن، فقد أورد بلزاك في متن قصته، وتحديداً في العجامة المرقمة (152/ ص 307 من الترجمة العربية)، ملفوظ “صرّازين”، وراح البُكري يقدم للقارئ العربي توضيحاً، قال فيه “صرازين sarrazine مؤنَّث sarrasin، وتعود الصيغة إلى استعمال روماني ولاتيني قديم، ومن أشكاله القديمة في اللاتينية saracen كمقابل للعربية: شرقيون وشرقيين، وهي الصيغة التي تحوَّلت في الفرنسية إلى sarrasin، وهو الاسم الذي أطلقه الفرنجة واللاتينيين على العرب منذ احتكاكهم”.
____
*العرب

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *