كلما عُدنا إلى طه حسين


*د. حسن مدن


مهما قرأنا للدكتور طه حسين أو عنه، سنظل نكتشف فيه في كل مرة جديداً. لا أظن أن مفكراً عربياً موسوعياً مثله قد قدم هذه المساهمة الجليلة من أجل تحرير العقل العربي في العصر الحديث، وما من مفكر مثله قد كرس جهده المعرفي في صياغة مشروع نهضوي لمصر، وبالنتيجة للعالم العربي، قائم على العلم والمعرفة وقيم العقلانية والتنوير والحداثة، وما من مثقف يضاهيه في الإمساك بمناحي الثقافة العربية والأجنبية، فهو الأزهري الذي درس التراث بعمق وجدية وتبحر فيه، وهو الدكتور من الجامعات الفرنسية، الذي حققت له مثاقفته سعة في الأفق.
فكر طه حسين من الاتساع والغنى والتعدد بحيث أنه يحتمل قراءات مختلفة، كان يكتب بلغة تبدو في الظاهر بسيطة، ولكن هذه البساطة تنطوي على العمق والجدية، إنها بالضبط تلك اللغة التي نسميها السهل الممتنع. إن كل الأفكار الكبرى عن التحديث ومقومات النهضة وشروط التطور مطروحة في مؤلفات طه حسين، وهذه الأفكار تثير ذات المقدار من الجدل حولها اليوم كما أثارته في حينها، ليس لأن الوضع العربي ليس بأحسن حال مما كان عليه يوم كتب طه حسين مؤلفاته المهمة فحسب، ولكن لأن أفكاره ليست من النوع الذي يتقادم أو يشيخ، لأنها تنطوي على محددات النهضة الأساسية.
ونقول هذا لأشير إلى نمط من الكتابات متداولة اليوم لمن صاروا يطلقون على أنفسهم وصف المفكرين العرب، فنفاجأ بلغة عسرة الهضم، تنطوي على اشتقاقات مبهمة ومصطلحات مصكوكة بافتعال وقسر، خاصة حين يجري تحويل المنطق الداخلي للغات الأجنبية، مثل الفرنسية، إلى سياقنا اللغوي العربي المختلف، وهو كل حال سياق مرن وثري وسلس وقادر على تقديم المعرفة العصرية.
وكلما عدنا إلى طه حسين وجدنا فيه ليس فقط ما يُعلمنا، على ما سبق لنا أن تعلمناه منه، وإنما ما يفاجئنا أيضاً. الظاهر من «بروفايل» الرجل كونه أديباً، لا بل واستحق أن يطلق عليه لقب عميد الأدب العربي، والظاهر من هذا «البروفايل» أيضاً أنه كان تربوياً، أستاذا في الجامعة وعميدا لكلية الآداب ووزيراً للمعارف، وفي هذا وذاك، أي في الأدب وفي التربية والتعليم، كان الرجل صاحب رؤية ومنهج.
فالأدب عنده لا يستقيم بدون الحرية: «الأدب لا قيمة له إذا فقد الحرية»، والقول قوله. والتعليم عنده حق للمواطن على الدولة أن تتكفل بضمانه له: «إن العلم كالماء والهواء. يجب أن يكون متاحاً لكل أفراد الشعب»، قبل أن يضيف هذه الإضافة المهمة: «لا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية من دون أن يتعلم الشعب».
وهو قول يعنينا اليوم، كما عنى أبناء المرحلة التي فيها كتب طه حسين ما كتب. النابهون من الناس يُحملون منظوماتنا التعليمية العربية مسؤولية ما نحن فيه اليوم من كوارث ومآس. هي من خرَّجت لنا أشباه المتعلمين، لا المتعلمين، وهي التي شوَّهت أدمغة النشء بالبالي وبالخزعبلات، وهي التي لم تُحصن هذه الأدمغة بوجه الترهات، ولم تنمِ في أذهانهم العقلانية، فجعلتهم فريسة للتطرف وأفكار العنف، وفي هذا قيل ويقال الكثير.
ساخراً كتب طه حسين عن التقارير التي يرفعها من تبعثهم جهات عملهم لحضور مؤتمر من المؤتمرات في الخارج. فلا أيسر على من شهد مؤتمراً من أن يرفع تقريراً عنه إلى الذين أرسلوه إليه. وساخراً أيضا قال: وليس المهم أن يُقرأ التقرير وإنما المهم أن يكتب وليس المهم أن يُدرس ما فيه من رأي ويؤخذ بما فيه، وإنما المهم أن يُحفظ في عطفٍ من أعطاف الوزارة، ليُرجع إليه ذات يوم أو لينام إلى آخر الدهر.
لهذا القول مناسبة، هو أن وزارة المعارف في منتصف ثلاثينات القرن العشرين انتدبت طه حسين لتمثيلها في مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري وفي مؤتمر التعليم العالي اللذين عُقدا في باريس يومذاك، فشهد المؤتمرين واشترك فيما كان فيهما من حوار، بل أنه شهد مؤتمرات أخرى عقدت في باريس في الفترة ذاتها ناقشت الثقافة من بعض أنحائها فسمع فيها آراء أثارت في نفسه، على ما يقول، خواطر وعواطف وآمالا فمَنى نفسه بأن ينتهز فرصة ذلك لتدوينه.
لم يتبع عميد الأدب العربي القواعد المتبعة التي تقتضي أن يكتب تقريراً عن مهمته، من تلك التقارير التي سخر منها، خاصةً أن ظروف الحياة السياسية في مصر قد صرفت وزارة المعارف والجامعة المصرية التي كان يُدَّرس فيها عن التقارير، وصرفته هو شخصياً عن تنميقها وتدبيجها.
لقد فعل شيئاً آخر مهما، هو الوفاء بعهدٍ كان قد قطعه على نفسه تجاه شباب مصر الذين سألوه كما سألوا سواه من مفكري مصر وقادة الرأي فيها عمَّ عليهم وعلى بلادهم أن تفعله بعد إمضاء المعاهدة بينها وبين الإنجليز التي أدت إلى فوز مصر بجزءٍ وصفه بأنه عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية، فرأى أن من واجبه أن يرسم للشباب ولمصر، من خلالهم، رؤية للتعليم والثقافة تقود البلاد للنهضة والتقدم.
لم يلجأ طه حسين إلى كتابة تقرير منمق عن المهمة التي ابتعث إليها في فرنسا، وإنما عكف على كتابة واحد من أهم كتبه، أنجزه بعد عام واحد فقط، رسم فيه خريطة طريق، ما انفكت الحاجة تزداد إليها حتى اللحظة، لا لمصر وحدها، وإنما للعالم العربي كله.
ذلكم هو كتاب: «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي خلده وسيخلده الزمن، والذي تشخص الحاجة للعودة إليه اليوم، ربما أكثر من الأمس.
على صلة بذلك نذكر أنه في أربعينات القرن العشرين توجه ثلاثة من شبان مصر الأذكياء الموهوبين إلى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في بيته، ليستأنسوا بفكره، ويستمعوا إليه، على ما يفعله الشبان عادة تجاه من يعدونهم أساتذة لهم في المعرفة. سيصبح الشبان الثلاثة فيما بعد من أعمدة الثقافة وقاماتها في مصر: الدكتور مصطفى سويف عالم النفس المثقف الهائم بعلم الجمال، ويوسف الشاروني الذي شكل أدبه فتحاً جديداً في القصة القصيرة في مصر والعالم العربي، وأخيراً الناقد والمفكر محمود أمين العالم الذي روى هذه الحكاية.
كان يرين على مصر في تلك الفترة موجة سوداء من التعصب الديني الضيق، وكان طه حسين ببصيرته النافذة يستشعر مخاطر ذلك على الثقافة والحرية في البلاد، وسره أن الشبان الثلاثة الشغوفين بالمعرفة يستشعرون مثله مخاطر ذلك، ويدركون أن مستقبل مصر هو في قيم التنوير وحرية الفكر والتعبير والبناء الديمقراطي.
لكن ذلك لم يمنعه من سؤالهم عما هم فاعلون لمواجهة تلك الموجة من التعصب، وبعد أن سمع منهم الجواب، قال ما معناه: حَسنٌ أن يكون لكم هذا الموقف ولكنكم لا تملكون أساليب التغيير العملي الذي إليه تتطلعون، تعلموا أصول التكتيك وأصول الاستراتيجية . لم تكن تلك كلمة عابرة من طه حسين . كانت نبوءة فيها حذاقة استشراف المستقبل، كان الرجل يدرك أن وعي النخبة وحده ليس كافياً، إن لم يقترن بالعمل من أجل تعميمه ونشره، حتى يكون المجتمع محصناً بوجه احتمالات الردات والعودات إلى الوراء.
ما يجري اليوم مصداق للمخاوف النابهة التي عبر عنها عميد الأدب العربي للشبان الثلاثة منذ نحو سبعين عاماً، فإذا كانت موجة التعصب التي رانت على مصر يومها انحسرت في حينه، فإنها عادت بعد عقود بقوة واندفاع غير مسبوقين، فكان أن تغلغلت في ثنايا المجتمع، وكسبت لها مواقع نفوذ، فيما أخفق تيار التنوير في الدفاع عن المواقع التي كانت له، فكان أن أخلاها مستسلماً للموجة الطاغية، بدل أن يتقدم نحو اكتساب مواقع جديدة له.
الباحث المصري الدكتور محمد فتحي فرج وضع كتاباً جامعاً أسماه «طه حسين وقضايا العصر»، وقف فيه بين ما وقف أمام قضية مفصلية شديدة الراهنية، هي موقف طه حسين من مدنية الدولة، ليرينا أن عميد الأدب العربي، وفي حينه، وضع اليد على إحدى عللنا اليوم، حيث آلت الدولة العربية في أكثر من مكان إلى الانهيار، تحت ضغط التدخلات الدولية والاقليمية المختلفة، وبسبب هشاشة هذه الدولة وعدم حصانتها بوجه التحديات.
في غمرة مناقشات دستورية جرت في مصر يومها، كتب طه حسين في «الأهرام» أن الحل لمشكلاتنا يكمن في تغليب مفهوم الدولة المدنية التي تستوعب كافة مواطنيها، «فليس ثمة فرق أمام القوانين المدنية بين المسلم والذمي ولن يكون هناك فرق بينهما أمام القوانين السياسية ولا سيما الدستورية منها».
ما أراده العميد، لا بل وقاله، أن تكون الحكومة في الدولة المدنية معبرة عن الشعب ومُساءلة أمامه، ولا تستمد سلطتها من فكرة أو معتقد، وإنما من قوة القانون المحتوي للمواطنة والضامن لها.
العودة إلى طه حسين ضرورية أمس واليوم وغداً، ولكن ما أحوج مصر والعرب في المحنة الراهنة إلى تمثل النصيحة التي أزجاها العميد، يومها، للشبان الثلاثة، فالمجتمع العربي ينقصه مفكرون من ذاك الطراز الذي يقرن دعوته بالعمل . الفكر غير المكافح ترف . مجرد شجرة عقيمة في غابة الحياة.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *