باريس تحتفي ببول كلي الآخر في وجهه الساخر


*أبو بكر العيادي


حدث الساعة الثقافي هذه الأيام هو المعرض الفني الضخم الذي يقيمه متحف بومبيدو للفن المعاصر بباريس لبول كلي، أحد الفنانين الكبار الذين وسموا القرن العشرين بميسم خاص، حيث تجاوز عدد الزوار في الشهر الأول المئة ألف، بمعدل لا يقل عن أربعة آلاف زائر كل يوم. ومعلوم أن هذا الفنان المتميّز الذي لا يمكن تصنيفه ضمن أي تيار، لم تحتف به باريس منذ العام 1969.
نشأ بول كلي (1879/1940) الذي يقام له حاليا بمتحف بومبيدو للفن المعاصر بباريس معرض استعادي في أسرة موسيقية، وتعلم العزف على الكمان في سن السابعة، مثلما تعلم الرسم على الورق ونشر رسوما كاريكاتيرية في الصحف والمجلات الألمانية.

ولما بلغ الثلاثين عمل عازف كمان في أوركسترا بمدينة بيرن السويسرية، في موازاة دروسه الأكاديمية للفنون الجميلة، مثلما شارك زوجته عازفة البيانو في عروض موسيقية لأداء سمفونيات بيتهوفن وموزارت وشومان.
وظل مترددا بين الفنين حتى كانت زيارته لتونس في صيف العام 1914 برفقة صديقيه أوغست ماكه ولويس مواييت، فأذهلته بهرة الضوء وحشد الألوان الساطعة فاعترف بأن “اللون مَلَكه، والتحم به حتى صارا جسدا واحدا”، فهجر الموسيقى ليتفرغ للفن التشكيلي عبر لوحات مائية على الورق تميزت بلمسات ملونة تقتفي إيقاع مشاهد جذلى تعكس الصرامة التكعيبية، وأخرى تجريدية، ثم مربعات وفسيفساء لا تقيم وزنا للقواعد.
ثم تلتها مرحلة مدرسة باوهاوس في فايمار بداية من 1920 قبل أن تنتقل إلى ديساو عام 1925 ثم إلى برلين عام 1932، حيث أغلقها النظام النازي الحاكم بدعوى أن نزوعها عالميّ، وفنانيها منحرفون، ممّا اضطر بول كلي إلى الهجرة إلى سويسرا التي ستمنحه جنسيتها، وتقيم له بعد وفاته متحفا في مدينة بيرن يحمل اسمه.
فنان منعزل
رغم تعرف بول كلي على كبار فناني عصره والتقائه بالكثير منهم خلال رحلاته، ظل فنانا منعزلا، لرفضه الانتماء إلى أي مدرسة. ورغم تعدد أعماله، فإن ما راج منها هو في الغالب لوحاته المائية صغيرة الحجم ذات التقنيات المختلطة، التي تصور مشاهد وأطفالا وملائكة.
والحق أنه ليس من السهل عرض أعمال بول كلي كلها. أولا، لوفرتها، فهي تَعدّ نحو عشرة آلاف أثر فني. ثانيا، لأن صاحبها يستعصي على التصنيف، فإن كان قد درس كل الحركات الفنية الكبرى التي ظهرت في بداية القرن العشرين، كالرمزية والتكعيبية والسوريالية والدادائية والتجريدية والبنائية، واقترب منها أحيانا، فهو لم ينخرط في أي منها، وعاش حياته يجرب تقنيات ومواد ووسائل لا تني تتجدد، إذ غالبا ما خلط “الغواش” بالحبر، والألوان المائية بالزيوت، والطبشور بالرمل، واستعمل قماشة من الخيش على ورق جرائد، وأنسجة من القطن على ورق مقوى.
قد كان دائم البحث عن الصيغة المثلى التي تلبي نهمه للاكتشاف، ورغبته في التعبير بشكل فنّي عن موقفه من فناني عصره، وحتى السخرية منهم، وهو الجانب الذي اختار المتحف تقديمه، إذ كان عنوان هذا المعرض “السخرية الرومانسية”، مع ما تتضمنه من هجاء وتقليد ساخر.
سخرية رومانسية
الرومانسية البادية في المعرض منبثقة من الرومانسية الألمانية، التي وصفها الفيلسوف فريدريخ شليغل بـ”الهزل المتسامي” تحيل على عملية الخلق. وأعمال بول كلي يمكن أن تُدرَك كمحاولة لتسمية ما لا يقال، إذ أنه يعبر بأسلوب فريد عن نظرته إلى زملائه وموقفه من التيارات الرائجة.
وقد حرص المشرفون على تصنيف تلك الأعمال وفق سبع ثيمات هي على التوالي: البدايات الهجائية، التكعيبية، المسرح الميكانيكي (الذي يجمع الدادائية والسريالية)، البنائية (سنوات بوهاوس في ديساو)، نظرات مرتدّة إلى الوراء (الثلاثينات)، بيكاسو (إثر معرض الفنان الأسباني في زيوريخ عام 1932)، وأعوام الأزمة (بين السياسة النازية، والحرب والمرض).
ذلك أن بول كلي يجد متعة في التلاعب بالتيارات الكبرى وتقليدها تقليدا ساخرا، دون أن ينسى نفسه، إذ يقول “لا داعي للسخرية مني ومن فني، أنا أتكفل بذلك”. لأن سخريته ليست مبتذلة، بل كان يحافظ فيها على احترام تجارب الآخرين من رودان إلى بيكاسو، مرورا بدولوني والسورياليين.
خلال أعوامه في باوهاوس، صار من كبار منظري اللون في الفن الحديث، فعلى غرار بول سيزان، كان يغير تلوين التيار الطبيعي لكي ينسق ويوازن تشكيلاته التصويرية، وعلى منوال روبير دولوني، كان يجرّب ضوء الشمس المنتشر عبر موشورات، محررا بذلك اللون من دوره الوصفي كي يبلغ التجريد.
كان بول كلي طُلَعَة، لا ينفكّ يبحث عن الصيغ التي تلبي حساسيته، استطاع أن يتخيل لغة منظورة خاصة به وحده، لها من الجدة والسعة ما يعكس رؤيته إلى الحداثة.
ولم يخطئ مارسيل دوشامب حينما صرّح عام 1949 “خصوبته البالغة لم تُبْد قَطّ علامات تكرار، كما هو الشأن مع فنانين آخرين. وكأنما أراد أن يقول إن أي أثر من آثار بول كلي لا يشبه أثرا آخر لبول كلي”.
وقبيل وفاته عام 1940، أوصى بأن تنقش على قبره العبارات التالية “ليس باستطاعة أحد في هذا العالم أن يمسك بي، لأني أقيم لدى الأموات، كما أقيم لدى الذين سوف يولدون أقرب إلى قلب الإبداع مما جرت عليه العادة، وبعيدا عنه في الآن نفسه”.
__________
*العرب

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *